تحول النقد إلى رأس مال (الحلقة الثانية)
د. خليل إندراوس  

2016-02-13

تحول النقد إلى رأس مال (2)  

(الحلقة الثانية)

د. خليل إندراوس 

القيمة تصبح في واقع الأمر ذاتًا لعملية ما تغير فيها على الدوام الشكل النقدي بالشكل البضاعي وبالعكس، وتغير هي نفسها مقدارها، وتدفع نفسها بوصفها القيمة الزائدة عن نفسها بوصفها القيمة الأولية، أي أنها تزداد تلقائيًا.

ولا يمكن لمبلغ نقدي ان يتميز بوجه عام عن مبلغ نقدي آخر إلا من حيثُ الحجم. ولذا فعملية ن – ب – ن مدينة بمحتواها ليس للفرق الكيفي بين نقطتيها المتطرفتين – حيث إن كلتيهما نقد – بل فقط للفرق الكمي بينهما. ونتيجة هذه العملية يستخرج من التداول نقد أكثر مما القي فيه في البداية. فالقطن الذي تم شراؤه مثلا بـ 100 جنيه إسترليني يباع من جديد بـ 100 + 10 جنيهات إسترلينية أو بـ  110 جنيهات إسترلينية. ولذلك يعبر عن الشكل الكامل لهذه العملية على النحو التالي: ن – ب- ن’، حيث ن’ = ن + Δن، أي يساوي المبلغ الموظف في البداية زائدًا بعض الزيادة. واني اسمي هذه الزيادة، أو الفائض على القيمة الأولية بالقيمة الزائدة (Surplus Value). فالقيمة الموظفة في البداية لا تقتصر على بقائها في التداول وحسب، بل أنها تغير حجمها أيضًا، وتضم لنفسها القيمة الزائدة، أو أنها تزداد، وهذه الحركة بالذات هي التي تحولها إلى رأسمال.

إن تكرار أو تجدد البيع بقصد الشراء، شأنهما شأن هذه العملية ذاتها، يجدان المقياس والمغزى في الهدف النهائي القائم خارج هذه العملية، أي في الاستهلاك، في تلبية حاجات معينة. وعلى العكس فعند الشراء بقصد البيع تمثل البداية والنهاية شيئًا واحدًا هو النقد و القيمة التبادلية، ولهذا السبب وحده تصبح هذه الحركة بلا نهاية. 

ومهما يكن الأمر فمن: ن نتج ن + Δن، من 100 جنيه إسترليني نتجت 100 + 10 جنيهات إسترلينية، بيد أن الـ 110 جنيهات استرلينية إذا تناولناها من الناحية الكيفية وحسب هي نفس الـ 100 جنيه إسترليني أي النقد. ومن الناحية الكمية أيضًا فان الـ  110 جنيهات إسترلينية هي مبلغ محدد من القيمة مثل الـ 100 جنيه إسترليني.

وإذا أنفقت هذه الـ 110 جنيهات إسترلينية كنقد لكفّت عن أداء دورها. ولكفت آنذاك عن ان تكون رأسمالا. فإنها إذا ما سحبت من التداول تجمدت على هيئة كنز ولن تزيد قرشًا واحدًا ولو بقيت مخزّنة إلى يوم القيامة.

إذًا، بما ان الأمر يتعلق بازدياد القيمة فان الحاجة إلى هذا الازدياد تلازم الـ 110 جنيهات إسترلينية كما تلازم الـ 100 جنيه إسترليني لان هذين المبلغين كليهما هما تعبيران محددان عن القيمة التبادلية، فلهما، بالتالي، ميل واحد هو الاقتراب من الثراء المطلق عن طريق زيادة حجمهما. صحيح ان القيمة الموظفة في البداية بمبلغ 100 جنيه إسترليني تختلف للحظة واحدة عن 10 جنيهات إسترلينية من القيمة الزائدة التي نمت على القيمة الموظفة في سياق التداول، إلا ان هذا الاختلاف لا يلبث ان يتلاشى على الفور من جديد. ولا تسفر العملية عن ان نجد في احد الجانبين القيمة الأولية بمبلغ 100 جنيه إسترليني وفي الجانب الآخر القيمة الزائدة بمبلغ 10 جنيهات إسترلينية. بل تنجم قيمة واحدة بـ 110 جنيهات إسترلينية.

ولهذه القيمة شكل صالح لبدء عملية الازدياد من جديد كما للـ 100 جنيه إسترليني الأولية. وما ان ينهي النقد الحركة حتى يشكل بداية جديدة لها (الرأسمال..

ينقسم إلى الرأسمال الأولي والربح، أي زيادة الرأسمال.. غير ان الواقع العملي يضم على الفور هذا الربح إلى الرأسمال من جديد ويدفعه وإياه إلى الدوران – ف. انجلز "مسودات مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" في مجلة: Deutsch Franzo Sische Jahrhucher  التي يصدرها ارنولد روغة وكارل ماركس، باريس 1844).

وبالتالي، فان نهاية كل دورة منفردة يتحقق فيها الشراء بقصد البيع، تشكل بحد ذاتها بداية دورة جديدة. وان التداول البضاعي البسيط – أي البيع بقصد الشراء – إنما هو وسيلة لإحراز الهدف النهائي القائم خارج التداول، أي لامتلاك القيم الاستعمالية، لتلبية الحاجات. وعلى العكس فتداول النقد بمثابة رأس مال هو هدف بحد ذاته نظرًا لان ازدياد القيمة لا يتحقق إلا في حدود هذه الحركة المتجددة على الدوام. ولذا لا تعرف حركة الرأسمال الحدود.

وهنا لا بد من ان نذكر ما قاله أرسطو، حيث يضع أرسطو الاقتصاد في مواجهة فن تكوين الثروة. وهو ينطلق من الاقتصاد. وبما ان الاقتصاد يمثل فن الاقتناء فهو ينحصر في اقتناء الخيرات الضرورية للمعيشة أو النافعة للبيت والدولة. "ان الثروة الحقيقية تتألف من مثل هذه القيم الاستعمالية، لان كمية الملكية من هذا النوع الضرورية للمعيشة الجيدة ليست غير محدودة. إلا انه ثمة فن اقتناء من نوع آخر يسمونه عادة وبصورة صحيحة تمامًا فن تكوين الثروة، ليس لهذا الأخير على ما يبدو حدود للثراء والملكية. وإن "التجارة البضاعية" تعني حرفيًا تجارة المفرق، وأرسطو يستخدم هذا الشكل لان الدور الحاسم فيه تلعبه القيمة الاستعمالية "لا تعود من حيث طبيعتها إلى فن تكوين الثروة، نظرًا لان التبادل لا يشمل هنا سوى المواد الضرورية لهم أنفسهم" (الشارين والبائعين).

ويضيف قائلا: لذلك كل الشكل الأولي للتجارة البضاعية هو التجارة التبادلية، ولكن مع اتساعها ينشأ النقد بالضرورة، ومع اختراع النقد كان على التجارة التبادلية ان تتطور حتمًا إلى التجارة البضاعية، وهذه الأخيرة انقلبت، خلافًا لميلها الأولي، إلى فن تكوين الثروة. ثم ان فن تكوين الثروة يتميز عن الاقتصاد بان "التداول هو مصدر الثراء بالنسبة له، وهو بمجمله مبني على النقد، لان النقد هو بداية ونهاية هذا النوع من التبادل، ولذا فالثراء الذي يسعى فن تكوين الثروة إليه هو غير محدود أيضًا.

وكما انه غير محدود في سعيه ذلك الفن الذي لا يعني هدفه الوسيلة، بل الهدف النهائي الأخير، لان مثل هذا الفن يسعى للاقتراب أكثر فأكثر من هذا الهدف – بينما ان تلك الفنون التي لا تهدف إلا إيجاد وسيلة من اجل هدف معين ليست غير محدودة لان الهدف ذاته يضع حدودًا لها – كذلك فان فن تكوين الثروة لا يعرف حدودًا لهدفه، حيث ان هدفه هو الإثراء المطلق.

وإن للاقتصاد، وليس لفن تكوين الثروة، حدًا.. فالأول يهدف إلى شيء ما يتميز عن النقد، بينما لا يسعى الثاني إلا لزيادة النقد.. وإن الخلط بين هذين الشكلين اللذين يتحول احدهما إلى آخر قد أتاح لبعضهم ذريعة اعتبار الحفاظ على النقد وزيادة كميته إلى ما لا نهاية بمثابة الهدف النهائي للاقتصاد

". (Aristo Teles “De – Republic” الكتاب الأول الفصلان 8-9 في مواضع مختلفة).

وبما ان حركة رأس المال لا تعرف الحدود "فان مالك النقد، بوصفه حاملا واعيًا لهذه الحركة يصبح رأسماليًا. وان شخصه أو بالأحرى جيبه، هو تلك النقطة التي ينطلق النقد منها واليها يعود". والمضمون الموضوعي لهذا التداول – ازدياد القيمة – إنما هو هدفه الذاتي، وبما ان الاستملاك المتزايد للشراء المجرد هو الباعث المحرك الوحيد لعملياته فلذلك – ولذلك فقط – يعمل كرأسمالي، أي كرأسمال مشخص يتمتع بالإرادة والوعي، ولذا، لا يجوز اعتبار القيمة الاستعمالية أبدًا الهدف المباشر للرأسمالي. ("ليست البضاعة" (بمعنى القيمة الاستعمالية هنا) "هي التي تتسم بالأهمية الحاسمة بالنسبة للرأسمالي الصناعي.. بل إن النقد هو هدفه النهائي"). والأمر كذلك أيضًا حيث ان الحصول على الربح المنفرد لا يعتبر هدفه، بل ان هدفه هو حركة هذا الربح الدائمة، وهذا السعي نحو الإثراء المطلق، وهذا الركض المتحمس وراء القيمة (إن الرغبة  الجامحة في الربح Auri Sacra Fames (العطش المقدس للذهب) تحكم نشاط الرأسماليين على الدوام) هما من الأمور المشتركة للرأسمالي وللمكتنز على السواء، ولكن بينما لم يكن المكتنز سوى رأسمالي متهوس، فإن الرأسمالي هو مكتنز، وإن ازدياد القيمة المتواصل الذي يسعى المكتنز لإجرائه عن طريق إنقاذ النقد من التداول، يحققه الرأسمالي الأكثر فطنة بواسطة إلقاء النقد في التداول المرة تلو المرة. (إن تلك اللانهائية التي لا تبلغها الأشياء عندما تتحرك في اتجاه واحد، تبلغها عن طريق الدوران").

ففي تداول ن – ب – ن لا تعمل البضاعة والنقد إلا كأسلوبين مختلفين لوجود القيمة بالذات: النقد كأسلوب عام، والبضاعة كأسلوب خاص، أسلوب مموّه، إذا جاز القول، لوجودها (ليست المادة المعنية هي التي تؤلف الرأسمال، بل قيمة هذه المادة). وتنتقل القيمة على  الدوام من شكل إلى آخر، إلا أنها لا تضيع أبدًا في الحركة، وتتحول على هذا النحو إلى ذات يفعل بصورة آلية. وإذا سجلنا أشكال التجلي المنفردة التي تتخذها القيمة المتزايدة بالتناوب في ذروة حياتها لحصلنا على التعريفين التاليين: الرأسمال نقد والرأسمال بضاعة (" ان النقد المتداول المستخدم لهدف إنتاجي، هو رأسمال) James Mill “Elements of Falitial Economy”, بضائع الرأسمال London 1821, 1. P.55).

ولكن القيمة تصبح هنا في واقع الأمر ذاتًا لعملية ما تغير فيها على الدوام الشكل النقدي بالشكل البضاعي وبالعكس، وتغير هي نفسها مقدارها، وتدفع نفسها

بوصفها القيمة الزائدة عن نفسها بوصفها القيمة الأولية، أي أنها تزداد تلقائيًا.

ذلك لان الحركة التي تضم فيها إلى نفسها القيمة الزائدة هي حركتها هي، وبالتالي فان ازديادها هو ازدياد تلقائي. فهي قد حصلت على مقدرة سحرية على خلق القيمة نظرًا لأنها هي نفسها قيمة. إنها تلد انسالاَ حية، أو تضع بيوضًا من ذهب على اقل تقدير.

إن القيمة بوصفها ذاتًا فعالة لهذه العملية، التي تتخذ فيها الشكل النقدي والشكل البضاعي طورًا وتخلعهما طورًا آخر، وفي الوقت نفسه تبقي دائمًا وتزداد هذه التحولات تحتاج قبل كل شيء إلى شكل مستقل يمكن ان يعبر عن تطابقها مع نفسها. وليس لهذا الشكل إلا في صورة النقد.

ولذا، يشكل النقد نقطة انطلاق ونقطة الاختتام لعملية ازدياد القيمة أيًا كانت. فهي كانت تساوي 100 جنيه إسترليني بينما أصبحت الآن تساوي 110 جنيهات إسترلينية الخ. ولكن النقد ذاته لا يضطلع هنا سوى بدور احد شكلي القيمة، حيث انه يوجد شكلان اثنان ههنا، فإذا لم يتخذ النقد الشكل البضاعي لن يستطيع ان يصبح رأسمالا. وهكذا، لا يعارض النقد هنا البضائع جدليًا كما هو الحال عند الاكتناز. فالرأسمالي يعرف ان سائر البضائع، مهما يكن مظهرها رثًا ومهما تكن رائحتها كريهة، هي نقد من حيث الروح والحقيقة، وهي يهود ذوو ختان داخلي، يضاف إلى ذلك أنها وسيلة عجيبة تتيح ان تصنع من النقد كمية اكبر منه.

بتصرف عن كتاب كارل ماركس، رأس المال – المجلد الأول، الجزء الأول. صفحة 212-255.

يـتـبـع...