تدهور التعليم وتدهورت معه المكانة الاجتماعية للمعلم

2016-03-06

تدهور التعليم وتدهورت معه المكانة الاجتماعية للمعلم

الكاتب: سعيد مضية

أدخلت الهبات الجماهيرية الأخيرة، كشرط للتغيير الديمقراطي، مفهوم التعليم الجيد تعريضا برداءة منظومة التعليم الحالية. التعليم الجيد مدخل للتغيير المنشود، حيث تتحقق مطالب الجماهير المنتفضة، " عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية". التعليم الجيد يعلم الديمقراطية ويعد الأجيال للعيش في مجتمع ديمقراطي يرتقي بالإنسان خبرات عملية وتفكيرا نقديا يخوض مغامرة البحث والاستنتاج. فهذه القيم خيار الاقتصاد الإنتاجي، يرفع الطلب على تجديد المعرفة وتطويرها باضطراد. مع بدايات عصر النهضة في أواخر القرن التاسع عشر تطلع المنورون، رواد النهضة العربية لنشر المدارس أملا في إنجاز تقدم المجتمع؛ بهذه المهمة الاستراتيجية اكتسب المعلم مكانة اجتماعية مرموقة، إذ برز مثقفا تنويريا في مجتمع يتعطش للمعرفة ويقدرها. وأعقبت النهضة حركة التحرر الوطني، فأدخلت العديد من القيم الحداثية على الثقافة الوطنية وأحدثت حراكا تقدميا في أوساط الجماهير الشعبية.

في عقد الستينات من القرن الماضي أغرقت المجتمعات العربية باستهلاكية مدمرة للاقتصاد والثقافة والسياسة. الاستهلاكية نظام اقتصادي وثقافي ابتكرته الإمبريالية الأميركية وصدرته إلى شعوب المعمورة بديلا عن نهج التنمية. جرى التحول عن التنمية والانخراط في الاقتصاد الاستهلاكي ليواكبه ثقافة استهلاكية وتعليما استهلاكيا. الثقافة الاستهلاكية مفرغة من المعارف ومن محفزات تنمية القدرات العملية، بل تقتصر على التسلية. والتعليم الاستهلاكي مفرغ من الثقافة، فهو تعليم بنكي، حسب تعريف الخبير التربوي من اميركا اللاتينية باولو فريري، يودع المعلم المعلومات لدى الطالب كي يستردها على ورقة الامتحان؛ وتمضي عملية التعليم بلا مردود ثقافي طوال سنوات المدرسة.

لدى تقييم أركان العملية التعليمية يرد ذكر المعلم والتلميذ والكتاب (أو المنهاج) والمدرسة. ويتم تجاهل نمط الحياة أو فلسفتها. لا بد من الإقرار أن من إفرازات الاستهلاكية لامبالاة وتراخي في ميدان الإنتاج الوطني، يسفر عن تراخ ولامبالاة موازية في ميدان التعليم، يعقمه من خبرات التفكير والبحث والاستنتاج. في هذا المناخ الاجتماعي تنكشف الجماهير العربية لموجات السلفية، حيث الافتتان بالماضي والتفتيش في أفكاره عن حلول لمشاكل المجتمع.

نتيجة ذلك تعاظم الإقبال على الحركات السلفية التكفيرية، والانخراط في الصراعات المذهبية والطائفية. ونظرا لغياب التفكير النقدي والاستراتيجي غلبت الانفعالية والعاطفية على السلوك، وغدا طبيعيا التعامل الارتجالي الانفعالي النزق مع اخطر القضايا الوطنية والقومية، ويكون الفشل هو النتيجة. 

أسفر الاقتصاد الاستهلاكي وثقافته عن تدهور التعليم وتردي مكانة المعلم وقيمته الاجتماعية؛ بدل التعليم الحواري وتنمية تقليد البحث والتحليل والتفكير النقدي أشيع التعليم التلقيني. بجانب التدهور تهيأت شروط سطوة نظام أبوي تسلطي. والنظام الأبوي يقدم الولاء على الإنجاز وعلى صورته انتظمت أنشطة جميع الهيئات الرسمية والتنظيمات الاجتماعية: استئثار الفرد في القمة بسلطة القرار وإتباع نهج الإدارة الأوامرية، وما على المراتب الأدنى سوى تلقي التعليمات. انسجاما مع هرمية النظام الأبوي حددت للمعلم مرتبة دنيا في قاعدة الهرم التعليمي؛ لا يشارك في وضع المناهج ولا يستشار لدى تأليف الكتاب المدرسي وتقييم مدى استجابته لحاجات المجتمع. اكتفى البرنامج الدراسي بتلقين الطلاب معلومات متفقاً عليها تجنباً لمخاطر التفكير النقدي والتعويد على البحث، تعليم من نوع (التدجين التربوى). حرص الاستبداد المتحالف مع السيطرة الكولنيالية على تدجين الأجيال وتعويدهم الطاعة وتعطيل ملكة التفكير لديهم وقتل روح المبادرة فيهم. في ظل الاستهلاكية كسدت المعرفة وملئ فراغها بالفهلوة والشطارة الدارجتين في منظومة قيم التخلف. تلازم هاتان القيمتان الطالب في مراحل التعليم كافة ، فيعتاد الغش ويركز الاهتمام على العلامات والشهادة جواز مرور إلى وظيفة مكتبية. وقد يفشل خريجو الجامعة والمعاهد المتوسطة في إيجاد وظيفة؛ وقد يدفعهم الإحباط للانحراف والبحث عن الأعمال السوداء. باتت قيمة الفرد تقاس بكمية الاستهلاك ونوعيته، وليس بما يقدمه للمجتمع؛ فارتفعت قيمة الكسب المادي بأي وسيلة، وحدث تدهور واختلال بالقيم تدهورت معه وبه الأوضاع المعيشية لشرائح اجتماعية واسعة منها الموظفون. لحق الضرر بالموظفين، وشكل المعلمون شريحة كبيرة من ضحايا استشراء النزعة الاستهلاكية. هبطت مهمة المعلم من مثقف تنويري إلى مكلف بمهمة التدجين التربوي لصالح النظام الأبوي. وليس الحديث المتكرر عن كرامة المعلم واحترامها وتقديرها إلا محاولة للتستر على واقع مؤلم ومهين.

فالعلاقة جدلية بين تردي الثقافة وتردي مكانة المعلم الاجتماعية وانحسار نفوذ المثقفين الاجتماعي. 

في ظل النظام الأبوي وفي الاقتصاد الاستهلاكي تطلب سوق العمل والتوظيف شطارة وفهلوة تتقنان النفاق والتحايل والخداع والغش؛ ارتفعت قيمة الكسب بمختلف السبل، وتضاءلت قيمة التنوير وأهدرت قيم الأخلاق ومنظومات المعرفة والعلوم في الحياة الاجتماعية. حدث اختلال مريع في الحياة الاجتماعية. بات التعليم نمطيا بلا رؤية استراتيجية، وتقييم تحصيل الطلبة في الثانوية لا يستند لأسس علمية، الأمر الذي يزيد من تعقيدات التعليم الجامعي ويخفض مستواه باستمرار نظرا لضعف تأهيل الأجيال للبحث والتفكير والاستنتاج. وبغياب التفكير النقدي باتت الأجيال عرضة سهلة لأهواء الفكر السلفي وللخرافة والشعوذات.

نظراَ للعزوف عن التنمية الاجتماعية فقد سقطت من التعليم تنمية الطالب وترقية قدراته الذهنية والعملية. بات العقل نهبا للخرافة وللشعوذات، وباتت وظيفة المعلم إكراه الطلبة على الانتظام وعلى استظهار المعارف؛ فنشأت بالنتيجة علاقة قهرية غير ودية بين المعلم والطلبة وبين هؤلاء والكتاب. من خلال التعليم التلقيني غرست المدرسة في النفوس نفورا من الكتاب واستخفافا بالمعرفة. شاعت الخرافة والشعوذة في ميدان التعليم، وفي ميادين النشاط الاجتماعي، وخاصة في ممارسات النضال الوطني. يصعب الاتفاق بين ممثلي الفصائل ويغدو من المستحيلات تحقيق ائتلاف وطني مستدام يقود حركة جماهيرية ديمقراطية متطورة ومؤثرة.

توسع التعليم وازدادت أعداد الخريجين والخريجات واستمرت الشكوى من ضياع حقوق الإنسان وحقوق النساء على وجه الخصوص. جامعات العرب تغيب عن قوائم أفضل الجامعات، ونصيب المجتمع متدن، بل يقبع في أدنى قوائم الإحصاءات الدولية في اقتناء الكتب وطباعتها ومطالعتها. تكاثرت المدارس والجامعات وبقي التخلف. تبعث نتائج الإحصاءات العلمية وتقييم الإنتاج الثقافي في عالم العرب الغثيان والشعور بالنقص. لدى المقارنة مع مجتمعات متقدمة مستقرة نسبيا نلاحظ الاتساع المضطرد لفجوة التخلف في واقعنا الثقافي. تقول الإحصاءات أن ما يطبع سنويا من كتب في الدول العربية ذات الملايين الثلاثمائة يقل عن نصف ما يطبع في إسرائيل ذات الملايين الستة؛ وورد في تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003– حيث مطالعة الكتب وإنتاجها احد مؤشرات التنمية – أن إنتاج الكتب في الأقطار العربية، أقل مما تنتجه تركيا ، التي تضم ربع سكان البلدان العربية. وأمّا في مجال الترجمة فحدّث ولا حرج، حيث أنّ الأمة العربية لم تترجم سوى 11 ألف كتاب منذ العصر العباسي وحتى العام 2003، وهو ما يعادل ما تترجمه أسبانيا سنويّا.

يذكر تقرير منظمة اليونسكو عن القراءة في العالم العربي، أنّ المواطن العربي يقرأ 6 دقائق في اليوم، فيما أنّ المعدّل اليومي للقراءة على المستوى العالمي هو 36 دقيقة. أليس ذلك مؤشّرا صارخا على التصحّر الثقافي والمعرفي للعرب وضحالة مستواهم الفكري؟!

تنفق إسرائيل على البحوث العلمية أضعاف ما تنفقه الدول العربية مجتمعة. تبهر إسرائيل الدول المتقدمة بما تنتجه في ميادين الثقافة والعلوم والأدب، حيث يشكل ذلك القوة الناعمة التي ترفع مكانتها الدولية وتغطي على جرائمها بحق الشعب الفلسطيني. هذا بينما يعم الغضب الجماهير العربية إذ تعي تخلفها الحضاري المقرون بانهيار الأخلاق. والغضب لا يحفز الفعل. الثقافة العربية قولية وليست عملية. وهذا أيضا احد الثمار المرة لتردي التعليم في المجتمعات العربية.

إن الإقبال على الكتاب وعلى التثقف غير مشروط بالعرق أو الديانة، بل بطبيعة النظام الاجتماعي- الاقتصادي السائد. وحيث تولي الفعاليات الاقتصادية الاهتمام بالاستيراد فإن المستوردين لا يعنيهم تحفيز البحوث العلمية. فهذه موضع اهتمام الاقتصاد الإنتاجي في الصناعة والزراعة، حيث ينفق الصناعيون من مداخيلهم على البحوث العلمية لتعود عليهم بمكاسب تطوير الإنتاج. وبدوره يحيل الاقتصاد الإنتاجي الجامعات مراكز للبحوث وإنتاج العلوم والمعارف.

لا يقتصر البحث العلمي على إنتاج المعرفة في مجال العلوم؛ إنما تسري عدواه إلى مجالات النشاط الاجتماعي كافة، يشيع العقل النقدي الباحث، وينشط الاكتشافات والاختراعات ويحيل الحياة الثقافية علمية عملية. والتعليم في كنف الاقتصاد الإنتاجي ينمي القدرات العملية للطالب، ويستهوي الكتاب القارئ، يقبل بشغف علي الكتاب أو البرنامج الثقافي في الإعلام الرقمي، ليتشكل مناخ تفاعل إيجابي بين المجتمع والمدرسة؛ تسمو وظيفة المعلم، وتغدو مركزية في منظومة التنمية الاجتماعية، ومنها تنمية المواهب وإعداد الأجيال للبيئة التنموية. يتحقق ارتقاء مستوى التعليم بجهد اجتماعي وبمبادرات الفعاليات المهيمنة. 

ميثاق جديد لتعليم يحرر الإنسان وبه يتعلم كيف يعيش حراً، ويتعلم «كيف يتعلم»، كي يتحرر من التبعية ويكتسب المعارف باضطراد، ويتعلم كيف يفكر بطريقة حرة وكيف ينقد نقداً بنّاءً ويتعلم أن التلقين هو مشروع الطغاة للاستعباد الاجتماعى والاستبداد السياسى، وأن مشروع التربية الحوارية هو جوهر التربية الحقيقي لإعادة بناء العالم على أسس المساواة والاحترام المتبادل. يحدث هذا عندما تصبح التربية حافزاً وتمكيناً لا حفظاً فيها ولا تلقينا

التعليم في مختلف حالاته مهمة سياسية وموضع صراع اجتماعي يتمحور حول المصير الوطني والاجتماعي.