قراءة تأريخية: البطل الشيوعي في قصة "اللاز"

نعيم ناصر

2016-03-30

قراءة تأريخية:

البطل الشيوعي في قصة "اللاز"

للروائي الجزائري الطاهر وطّار

نعيم ناصر

وقعت بين يدي بالصدفة الطبعة الرابعة من قصة "اللاز" للروائي الجزائري المعروف الطاهر وطّار، الصادرة عام 1984عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع في الجزائر، ودار ابن رشد للطباعة والنشر في بيروت، وكنت قرأتها لأول مرة في الجزائر عقب صدورها في أواسط السبعينات من القرن الماضي، وقد أثارت فيّ في حينها انطباعات قوية، لأنني لأول مرة أقرأ عملاً روائياً ينصف فيه مؤلفه الشيوعيين الجزائريين الذين شاركوا بنكران ذات في الثورة الجزائرية وأبلوا فيه بلاءً حسناً.. فمنهم من قضى شهيداً على يد المستعمرين الفرنسيين، ومنهم من قتل على يد رفاقه في جبهة التحرير الوطني الجزائرية، لا لشيء إلا بسبب تمسكهم بمبادئهم الشيوعية، ومن نجا منهم بعد استقلال الجزائر في العام 1962 قضى سنوات طويلة في غياهب السجون الجزائرية بتهمة الشيوعية.

وقد حاولت أثناء إقامتي في الجزائر في الفترة من 1971 و 1980، الاستفسار من بعض المجاهدين الكبار والصغار في صفوف جيش التحرير الجزائري، ممن ساهموا في الثورة، عن دور الشيوعيين الجزائريين في الكفاح التحرري، فكان جوابهم تقريباً واحداً، وهو أن الشيوعيين كانوا ضد استقلال الجزائر، وضد الكفاح المسلح، وهم إضافة إلى ذلك "كافرون وملحدون لا يطمأن لهم".  وقال البعض من هؤلاء أنه عاملهم معاملة "الحركية" (الخونة).  وحتى من التقيته من الشيوعيين الجزائريين، لم يجب على استفساراتي، كما أحب، واكتفى بالقول إنهم – أي الشيوعيين – ساهموا كغيرهم من المواطنين في الثورة، واستشهد منهم الكثيرون، مؤكداً أن الظرف ليس مناسباً للتوسع في هذا الحديث.  وظل موقف الشيوعيين الجزائريين من الثورة ومشاركتهم فيها ملتبساً في أذهان الكثيرين من المهتمين بالشأن الجزائري في فلسطين ودول عربية عديدة، ولكل آراؤه وتفسيراته وتحليلاته وتجنياته..  الأمر الذي انتهزته عند قراءتي الثانية لهذه الرواية لأسهم مع الطاهر وطّار في إلقاء الضوء على تضحيات الشيوعيين من أجل وطنهم، وهو ما سأبينه لاحقاً.

تدور أحداث قصة "اللاز" في إحدى القرى الجزائرية، التي لم يعطها المؤلف اسماً، كون القرى الجزائرية كلها كانت متشابهة في ظروف الفقر والفاقة، وكلها كانت واقعة تحت نير الاستعمار الفرنسي منذ العام 1830، وذلك إبان الثورة التحررية التي انطلقت في الأول من تشرين الثاني 1954، وكان على رأس المجاهدين في تلك المنطقة، التي تقع فيها القرية، مناضل شيوعي التحق بصفوف الثوار دون إذن من الحزب.  "يوم التحقت بالثورة لم استشر أحداً.  لا الحزب ولا غيره، رغم أنني عضو اللجنة المركزية.  أوجبت الظروف المحيطة بي ذلك، ففعلت، وإذا ما سئلت هل انسلخت من حزبي، فسأجيب فوراً بالنفي، وإذا ما طلب مني ذلك، فسأظل أسأل عن الدوافع.. لن انسلخ، ولن أدفع الاشتراك، ولن أسعى لتكوين خلايا جديدة، وسأظل أكافح من أجل الاستقلال الوطني"  (ص 203).

وبفضل تفانيه في النضال، وحبه للناس والرغبة في مساعدتهم وخدمتهم اكتسب ثقتهم وجذب شباباً كثيرين منهم إلى صفوف المجاهدين.

وقد كان هذا المناضل، الذي اسمه في القصة "زيدان" أمياً نشأ في أسرة فقيرة معدمة يعمل يوماً ويمكث أياما عديدة من دون عمل، ارتبط بعلاقة عاطفية مع ابنة عمه، انجب منها في غفلة من الزمن ابناً غير شرعي "اللاز" ولم يعترف بأبوته إلا بعد حين.  وعندما عضه الجوع بنابه هاجر إلى فرنسا، مثله مثل عشرات الآلاف من الجزائريين للبحث عن مصدر للقمة العيش.  وفي إحدى مكاتب العمل في باريس يتعرف على مناضلة شيوعية فرنسية تشجعه على التعليم وتساعده في ذلك.  وبعد تخرجه من صفوف محو الأمية تدفعه إلى الالتحاق بالجامعة الشعبية في باريس، وفي تلك الأثناء ينضم إلى صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي ويتزوج من رفيقته.  وفي وقت لاحق ينتخبهما الحزب للسفر إلى موسكو للدراسة، وبعد مكوثها في الاتحاد السوفياتي عاماً كاملاً تعود زوجته إلى موطنها بسبب مرض والدها، ويبقى زيدان هناك حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، حيث يقطع دراسته ويعود إلى الجزائر ويلتحق بصفوف الحزب الشيوعي الجزائري، ويبقى منتظماً فيه حتى اندلاع الثورة، ليلتحق في صفوف المجاهدين الجزائريين، ويصبح مسؤولاً عسكرياً سياسياً عن إحدى القطاعات العسكرية للمجاهدين.. وعندما اشتد الخلاف داخل صفوف جبهة التحرير الوطني وجيشها، وبدأت التصفيات داخل صفوفهما، يذبح زيدان على يد ابنه "اللاز" هو وخمسة شيوعيين أوروبيين، أربعة فرنسيين واسباني، كانوا التحقوا في صفوف المجاهدين دون إذن من حزبيهما.

وقد بدأ الطاهر وطّار التفكير في كتابة هذه القصة في شهر أيلول عام 1958 "بعد أن بلغني مقتل المناضل الشيوعي الكبير، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الجزائري يومها، العيد العمراني، من طرف قيادة الولاية الأولى (منطقة الأوراس) لجبهة التحرير الوطني الجزائرية، وجيش التحرير الوطني.. رحت أتساءل عن الأسباب.. رحت أبحث.. رحت أعرض نفسي لوضع الخلاف، الخلاف في الرأي مع رفاقنا في جبهة التحرير الوطني.. واتضح لي أن هذا الذبح هو إقصاء متعمد للفكر.. للرأي الآخر، للمعرفة السياسية في حركة التحرر الوطني الجزائرية" (من حوار مع المؤلف أجراه معه الروائي الفلسطيني الراحل اميل حبيبي، نشر في مجلة "مشارف"، العدد الخامس، كانون الأول 1995).

وشرع وطّار في كتابة هذه الرواية في شهر أيار من عام 1965، بعد تراكم الخلافات داخل صفوف جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وبعد الشروع في وضع أسس لإنجازات متعددة، اقتصادية واجتماعية، وفرغ من كتابتها عام 1972.

وعلى عكس ما كان مألوفاً في الروايات، التي كانت تصدرها دار "التقدم" في موسكو، عن البطل الشيوعي "المعصوم" عن ارتكاب الأخطاء، و"السوبرمان" في أعماله، والمنظر الفذّ في عرض أفكاره، التي لا تقبل النقد أو التأويل أو المحاججة، قدم لنا الطاهر وطّار بطله "زيدان" أو العيد العمراني، في صورة مناضل متواضع، يصيب ويخطئ، له هفواته ونزواته، يملك ثقافة واسعة اكتسبها بجده واجتهاده، بمساعدة رفاقه الشيوعيين، ومقتنع اشد الاقتناع بفكره ومبادئه "المسؤول الكبير سألني في المرة الأخيرة هل ما زلت شيوعياً أحمر.. أفهمته بأن الشيوعية ليست رداء ننزعه في الوقت الذي نشاء، وانما عقيدة تقوم أول ما تقوم على الإقناع المدرك للحياة .." (ص 105).

ولم يتعامل "زيدان" بفوقية مع المجاهدين معه، وانما بأخوية ورفاقية، ولم يميز نفسه عنهم أو يستأثر بشيء لنفسه، بل هو واحد منهم يتألم لألمهم ويفرح لفرحهم، ويحس بهم ويحترم أحاسيسهم.. وهو ما أزعج رؤساءه ودفعهم إلى النقمة عليه.. "حمّو يتساءل عن الفرق بينه وبين أخيه (زيدان) ويرفع بصره إلى النجوم المتلألئة في الفضاء البعيد..

لا فرق.. نقاتل جنباً الى جنب، ونتحمل نفس المشاق.. ننظر الى العدو نظرة واحدة.. فقط زيدان يفكر أحسن مني، أحسن منا جميعاً.. وآراؤه دائما صائبة، وأحكامه سليمة، وتنبؤاته صادقة.. ربما السبب في ذلك أنه متعلم بينما أنا أمي.. معنا بعض المتعلمين مثله، ولكنه يفكر أحسن منهم.  إذا كان هذا لأنه أحمر، فيجب أن نحمّر كلنا، يجب أن تحمّر الثورة كلها لتفكر تفكيراً سليماً، وتصدر احكاماً صحيحة.. ترى هل الشيوعية شيء محرم مثل الخمر والزنى والسرقة والخيانة؟  حسبما أكد المسؤول الكبير فإنها أكثر من كل هذه المحرمات.. ما هي يا ترى؟  انهم يتحدثون عنها كما لو أنها جنية تسكن الإنسان.. حتى الجنيات فيها الكافرات وفيها المسلمات" (ص 106).

وحرص وطّار من خلال "زيدان" على عرض موقف الحزب من الجبهات الوطنية المتعددة الأحزاب والقوى والأيديولوجيات، ويجمعها هدف وطني واحد يتمثل في الحرية والاستقلال.. ولم يطرح الحزب الشيوعي الجزائري نفسه كطليعة لقيادة هذه الجبهة أو تلك، على غرار ما كان قائماً في دول عديدة، وانما كقوة سياسية همها حرية الوطن، مع التأكيد على استقلال الحزب الفكري والسياسي والتنظيمي.. ولكن كان المطلوب في حينه (في الفترة من 1956 و 1958) من قبل قيادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية، حل الحزب والدخول كأفراد إلى هذه الجبهة، على غرار ما طلب من الحزب الشيوعي المصري، ولاحقاً من الحزب الشيوعي السوري، عقب الوحدة المصرية السورية عام 1958، وإذا ما رفض سيكون مصيره الحل قصراً وزج أعضائه في غياهب السجون، وقتل بعضهم تحت التعذيب.. وقد صاحب ذلك كله موجة عاتية من العداء للشيوعية في معظم الدول العربية.. "موقف الحزب من الانضمام إلى الجبهة هو الذي يثيرهم.. لأول مرة في التاريخ يطرح تكوين جبهة وطنية من أفراد لا من أحزاب.. هذا يعني تكوين حزب جديد.  إذا كانت الخلافات والتصدعات داخل الحركة الوطنية تدعو بعض أعضائها إلى تكوين هذا الحزب، فانه ليس من الضروري أن يطلب من الأحزاب الأخرى أن تحل نفسها.. خاصة ونحن في بداية الطريق، وان الجزائريين الخارجين عن أي حزب أكثر من المنضمين للأحزاب والحركات، ويمكنهم أن ينضموا إلى هذا الحزب الجديد.. ترى هل أعلنوا الكفاح المسلح من أجل تحرير الوطن، أم من أجل تكوين حزب.؟  يريدون ضرب عصفورين بحجر واحد.. لكن الطريق طويل وشاق.. هذه القاهرة، أم الدنيا وجدّتها، التي ما يزال اتجاه الحركة، التي حدثت فيها غامضاً، هي التي سبقت إلى حل الأحزاب، وأغلب الوطنيين الجزائريين شديدو الحساسية لما يجري هناك.. وضع الشيوعيين في هذا الهيكل العظمي المسمى بالعالم العربي أو الإسلامي، كان شيئاً، وها هي مصر تزيده تعفناً (...) الموقف المبدئي لكل حزب ألا يحل نفسه.  وفي مثل هذه الظروف لا بد من أسس واضحة وشروط أبسطها وضع ميثاق عمل وطني يساهم في تحريره"  (ص 201 – 202).

وقد بالغ قادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية في موقفهم العدائي من الشيوعيين، سواء من كانوا خارج صفوف الجبهة أو داخلها، على الرغم من أن الأخيرين انضموا إليها في شكل فردي وطواعية.. واتخذ هؤلاء القادة قراراً "بتصفية" الفكر الشيوعي داخل صفوف الجبهة، عبر تخيير الشيوعيين بين الذبح أو التنكر لمبادئهم الشيوعية "أطرق الشيخ قليلاً، ثم قال باللغة الفرنسية وبصوت جد خافت: اتخذ القرار في شأنكم.. بالنسبة لزيدان لا بد من تبرؤه من العقيدة وانسلاخه من الحزب واعلان انضمامه إلى الجبهة.. وبالنسبة لكم (للأوروبيين) التبرؤ أيضاً والدخول في الإسلام.

وقال زيدان: وإذا لم تتم الاستجابة لهذه الطلبات، فهل هناك حل آخر؟

  • آه. نعم.  الذبح.‍
  • فرفع الإسباني رأسه وتساءل:
  • وهل يمكن أن تصدقونا بسهولة إذا أعلنا لكم عن استجابتنا لرغباتكم؟
  • تكتبون بياناً تدينون فيه مواقف أحزابكم، نتولى إرساله إلى الصحافة العالمية.. نعم نصدقكم بسهولة، ولم لا.

قال زيدان:

  • الذبح للخونة، وللمضادين للثورة، أما نحن.. أما نحن بأي عنوان نذبح؟
  • لسنا في مجال مناقشة يا زيدان.. أمامنا أمر يجب أن ننفذه جميعاً.

رد الشيخ في صرامة.  فتساءل فرنسي كان مزارعاً:

  • نحن متطوعون جئنا نعينكم، إذا لم تقبلوا تطوعنا وإعانتنا، لا يجوز لكم أن تساومونا في حياتنا وعقائدنا.
  • لسنا بصدد مناقشة قلت.

كرر الشيخ، فساد الصمت لحظات ليقطعه زيدان:

  • أنا شخصياً لم التحق بالجبل (المقصود الثورة) باسم حزبي.
  • وأنا أيضاً.  تمتم الباقون.

فعلق الشيخ في هدوء تام:

  • رغم أنه لا مجال للنقاش، فاني أسألكم، وخاصة أنت يا زيدان، هل انسلختم عن الحزب قبل ذلك؟

وسأل الإسباني:

  • ولكن ما الداعي إلى هذا الانسلاخ والمطروح علينا هكذا؟
  • آه.  نعم.  هذا سؤال موضوعي.  لقد قررنا حل الأحزاب جميعاً وتكوين جبهة موحدة" (ص 221، 222، 223).

ويثير وطّار حواراً ثنائياً بين "زيدان" والشيخ (ممثل قيادة الثورة الجزائرية المسؤول عن تنفيذ القرار المتعلق بالشيوعيين) بخصوص موقف الحزب الشيوعي الجزائري من حل نفسه ومن الثورة، ويبين موقف الحزب من هاتين المسألتين.

"الحزب الشيوعي الجزائري يرفض حل نفسه ويعارض الثورة (قال الشيخ).

  • لا يعارضها، انه بدوره يخوضها.  علق زيدان.  فبادر الشيخ:
  • ليكن ذلك، ولكن هل تنكرون أنه يعرقل وحدة الصفوف في مثل هذه المرحلة الحاسمة؟
  • رغم أنني في انقطاع تام ما يزيد عن سنتين عن الحزب، فإنني أستطيع أن أؤكد أن أمر تكوين جبهة من الأفراد، وليس من الأحزاب غير مفهوم.. لقد اضطرتكم خلافاتكم مع قيادة حزبكم (حزب الشعب الجزائري الذي يعتبر أب الثورة الجزائرية) إلى تكوين حزب جديد على حساب جميع الأحزاب، وعلى غرار حزبكم المنهار أيضاً.  الكفاح المسلح، الذي توفرت شروطه فاندلع شيء، واستغلال هذا الكفاح لتكوين حزب وحل جميع الأحزاب الأخرى شيء آخر.
  • هذا هو بالضبط موقف حزبك.  علق الشيخ على كلام زيدان، وأفسح المجال لأحد الفرنسيين ليتساءل:
  • طيب وما ذنب باقي الأحزاب العمالية وباقي الشيوعيين؟

قال الشيخ:

  • الحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الشيوعي الجزائري شيء واحد.
  • لا.  ليسا شيئاً واحداً.

عارض زيدان، وتساءل الإسباني:

  • بالنسبة للحزب الشيوعي الإسباني ما قولك؟
  • كلكم شيوعيون، كلكم على السواء، وقد جئتم إلى ثورتنا لتخربوها. علق الشيخ"    (ص 223 – 224).

عقب هذا الحوار المطول حول أهم مبدأ (حل الحزب) ليس في حياة الحزب الشيوعي الجزائري، فحسب، وانما في حياة الحركة الشيوعية العالمية، وخصوصاً في حقبة الخمسينات، يعتبر من "الكبائر"، ولذلك رفض من قبل الكل.  وكان عليهم اتخاذ موقف من جبهة التحرير المنضوين في صفوفها، والتي تساومهم على مبادئهم.  "الموقف المبدئي يحتم مساندة هذه الحركة (جبهة التحرير الوطني الجزائرية) مهما كان الثمن.  إلا أنه عند تصنيفها ينبغي القول إنها حركة تحررية تحمل أفكاراً مسبقة ضد الشيوعية"  (ص 226).

لقد منح الشيخ زيدان ورفاقه الأجانب مهلة مدتها 24 ساعة ليناقشوا الخيار الذي طرحه عليهم باسم الثورة الجزائرية، ونصح زيدان في شكل خاص بأن لا يركب رأسه ويختار الذبح بدل التخلي عن شيوعيته.

واجتمع الرفاق الستة، وتداولوا الأمر فيما بينهم، وناقشوا الطريقة المثلى لإعلان رأيهم، في صورة فردية أو جماعية، وأخيراً تبنوا رأي الإسباني "نشكل لجنة أممية يمثل كل منا حزبه فيها، مهمتها درس الموقف واعلان قرارها.. نضع قانوناً أساسياً مؤقتاً ونشير في بنده الأول الى أن مهمة اللجنة وقتية، تنتهي بالإعلان عن القرار.. يا رفاق ان الحزب الشيوعي الجزائري مستهدف، ونحن مستهدفون من أجل عدم اتخاذ أي موقف منه، من ناحية، ولكوننا شيوعيين من ناحية ثانية.  هذه فرصة نتدارس فيها الوضع، ونعلن عن موقفنا نهائياً.. هل موقف الحزب الشيوعي الجزائري مبدئي أم لا؟  هل نسانده أم لا؟  هل نخون مبدأنا أم نضحي بأنفسنا؟  هذه  المسألة المطروحة على اللجنة" (ص 254).  وانتخب المجتمعون بالإجماع زيدان أميناً عاماً للجنة.. " هؤلاء الرفاق وضعوا مصيرهم بين يدي، انهم يعلمون اننا مهما درسنا ومهما حللنا، ومهما قررنا ننحدر إلى مصير واحد محتوم.  لقد بلغنا نهاية النهاية: الموت.. فليس أمامنا أن نختار سوى الموت، الموت النضالي الحزبي أو الموت الجسدي" (ص 255).

وفي صباح الغد أُخطر الشيخ بأن المساجين الستة يطلبون الإعلان عن موقفهم.  "نظر إلى ساعته وفكر أن هذه السرعة ليست إلا دليلاً عن قبول الانسلاخ (عن أحزابهم) وان هذا أمر فيه شيء مما يسر.. طلب إحضارهم وحالما وصلوا بادرهم مبتسماً:

  • هاه ماذا قررتم؟  أنت يا زيدان هل هداك الله؟  بيد أنهم رفضوا كلهم الادلاء بأي تصريح، معلنين أن لديهم لائحة، وانهم كلفوا زيدان بقراءتها... " (ص 258).

أخرج زيدان الورقة من جيبه واعتدل ليقرأ، غير أن الشيخ رفض الاستماع الى المقدمة والحيثيات والاعتبارات، وحتى صيغة القرار، وطلب الاكتفاء بتوضيح موقف زيدان شخصياً.. وهذا يفسر أن حياة الشيوعيين الأجانب لا تهم الشيخ لا من قريب أو بعيد، وهم في نظره ليسوا سوى أعداء اندسوا في صفوف الثورة، وأن مصيرهم سيكون الموت، حتى لو "أعلنوا إسلامهم"، كما طلب منهم الشيخ ذلك.. أما زيدان فهو مسلم ويستطيع إنقاذ نفسه لو تخلى عن مبادئه.

"نطلب المحاكمة كأعضاء في الثورة، وليس كأجانب عنها.

  • هذا أيضاً خطأ فادح ارتكبتموه يا زيدان.. تعلم جيداً أن الرسائل والعرائض الجماعية ممنوعة في الثورة منعاً باتاً.  علق الشيخ" (ص 269).

أخذ الشيخ اللائحة وقال "سأقرأها فيما بعد.. أما الآن فعليّ أن أنفذ قرار القاهرة.  إذا ما صحّ فهمي، فإنكم ما تزالون تصرون على...

  • لمن نأت بأسماء أحزابنا، ولكن لا نستطيع التخلي عنها، وبالتالي عن عقيدتنا"     (ص 270).

فهم الشيخ أن الرفاق الستة اختاروا الموت على التخلي عن مبادئهم.

أمر الشيخ بتوثيق الستة، وسرعان ما حضر الذبّاح.  وعملية الإعدام بالذبح، كانت شائعة إبان الثورة الجزائرية، وربما كان يقصد منها الاقتداء بالسلف، أو التلذذ بمشهد الجسد وهو يتلوى قبل أن تغادره الروح.

"عندي طلب شخصي، أرجو أن تلبوه.  قال زيدان بصوت خافت، وبالعربية فسأله الشيخ:

  • وما هو؟
  • أن لا تحضروا اللاز للعملية، ولا تخبروه.. اللاز ابني يا سي الشيخ، ولم يلتحق بالعمل المسلح إلا منذ خمسة أيام.
  • هذا هو طلبك.  سندرسه على أية حال"  (ص 270).

ويرسم الطاهر وطّار في ختام قصته مشهداً ملحمياً درامياً مؤلماً لعملية ذبح الرفاق الستة: "طرح الفرنسي الأول فظل يتساءل: هل يمكن اتخاذ موقف عدائي من هذه الحركة، إلا أنه قبل أن يقرر أن الشيخ وكل الشيوخ في القاهرة شيء، وان الحركة شيء آخر، كان السكين قد حز عنقه.

طُرح الفرنسي الثاني، فراح يقرر، انه كان من واجب اللجنة أن تتخذ موقفاً تكتيكياً وأن تنافق حتى تجد مخرجاً.. لقد اقترحت البارحة ذلك، فرد الإسباني بأن التكتيك لا يكون على حساب المبدأ.. قطع السكين عنقه، وتطاير دم غزير هنا وهناك (...) " ( ص 271).

وبالوسيلة والمصير نفسه تُنهى حياة الشيوعيين الفرنسيين والإسباني. وحل دور زيدان.

"أعطيتك فرصة أخيرة يا زيدان.  بعض كلمات تقولها، وهذا كل ما في الأمر (التخلي عن مبادئه).

  • ليس لي اتخاذ أي موقف شخصي في مسائل تعود الى الحزب، يجب أن تعلم هذا عن الشيوعي يا الشيخ" (ص 272).

وهنا تبلغ مأساة زيدان أوجها: "ألحقوه بالكفار... دمدم الشيخ، ثم رفع يده صائحاً:

  • انتظروا.

فكر هنيهة، ثم أمر:

  • هاتوا ابنه، يجب أن يتعود حمل الأعباء الكبيرة، منذ الآن.  ان تجنّد بالإخلاص، فسيزيده هذا إيماناً وعزيمة...

ظلّ اللاز لحظات يقف مشدوهاً لا يصدق عينيه، وعندما انفجرت الدماء من قفا أبيه، صاح في رعب:

  • ما يبقى في الوادي غير الحجارة (بمعنى لا يصح الا الصحيح) ثم ارتخت عضلاته، ودارت به الأرض، ومد يديه يحاول التشبث بشيء ما، ثم هوى"  (ص 273).

هكذا تنتهي قصة "اللاز" بمشهد مأساوي للبطل الشيوعي..

وهنا تثار أسئلة افتراضية عديدة.

لماذا اختار الكاتب هذه النهاية الدرامية لبطله؟  هل لأنه شخصية حقيقية انتهى نهاية مأساوية، أم ليثبت للقارئ أن المبادئ أهم من الحياة؟  أيريد الطاهر وطّار بعمله هذا أن يحاكي أبطالاً شيوعيين لاقوا المصير نفسه على يد النازيين أمثال الصحافي التشيكي يوليوس فوتشيك، رئيس تحرير جريدة "رود برافو" السرية، التي كان يصدرها الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي.  ولماذا لم ينه حياة بطله الشيوعي بطريقة أخرى كأن يأمر الشيخ بأن يرسله في عملية ضد الاحتلال الفرنسي، إمكانية النجاة منها صفراً وبهذا يتخلص منه؟  هل يقصد من وراء خاتمته أن يفهمنا أن الجبهات الوطنية المناضلة كذبة كبيرة إذا لم يقدها الشيوعيون، أم يريد إعادة الاعتبار ولفت الأنظار إلى الحزب الشيوعي الجزائري الذي غبن من قيادة الثورة الجزائرية؟

كل هذه الأسئلة وأسئلة أخرى وتداعياتها تترك للقارئ، فقد يستنتج إجاباتها بعد أن يلم بموقف الحزب الشيوعي الجزائري الحقيقي من الثورة الجزائرية.

الحزب الشيوعي الجزائري والثورة

قبل أن نتطرق إلى موقف الحزب الشيوعي الجزائري من الثورة الجزائرية لا بد من إلقاء الضوء ولو بإيجاز إلى الحركة الوطنية الجزائرية وأحزابها العلمانية قبل انطلاقة الثورة.  وفي هذا تشير الأدبيات التاريخية الجزائرية إلى أن أول حزب علماني جزائري ظهر في باريس عام 1926 في كنف الحزب الشيوعي الفرنسي، حمل اسم حزب نجم شمال افريقيا، وبرز فيه تياران: الأول عكس وجهة نظر الحزب الشيوعي، وكان يخضع فكرة الاستقلال لتحقيق الاشتراكية، والثاني أعطى الأولوية لاستقلال دول المغرب العربي: الجزائر، المغرب وتونس، وكان على رأسه مناضل معروف هو مصالح الحاج، وقصر نشاطه على عمال هذه الدول في فرنسا.  وفي عام 1937 أنشأ التيار الثاني في حزب نجم شمال افريقيا حزب الشعب الجزائري، ونقل نشاطه الى الجزائر.  وعندما حظره الاحتلال الفرنسي عمل في اتجاهين: علني تحت اسم حركة انتصار الحريات الديموقراطية، وأبقى نشاطه السري باسم حزب الشعب.  والى جانب هذا الحزب تأسس في عام 1946 حزب آخر عرف باسم "الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري" برئاسة فرحات عباس، اضافة الى الحزب الشيوعي الجزائري، الذي استقل عن الحزب الشيوعي الفرنسي في عام 1936.

وقد برز داخل حزب الشعب الجزائري الأب الروحي للثورة الجزائرية تياران، تيار يريد التعجيل بالثورة، وآخر يريد التروي.  وفي عام 1954 انفصل التيار المتعجل عن الحزب وشكل جبهة التحرير الوطني الجزائرية، التي فجرت حرب الاستقلال.

وكما سبق، ناضل الشيوعيون الجزائريون في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي كان يرى أن تصفية الاستعمار في الجزائر تتم عبر انتصار الثورة الاشتراكية في فرنسا وبالتالي في مستعمراتها، وهكذا كان الموقف السياسي لأغلب الشيوعيين الجزائريين، وحصر نشاطه في النضالات الطبقية، ولم يكن يولي أهمية كافية لمطلب استقلال الجزائر عن فرنسا.  وظل هذا الموقف يحكم الحزب الشيوعي الجزائري بعد انفصاله عن الحزب الأم (الفرنسي) وكان يدعو إلى "حل ديموقراطي يحترم مصالح كل سكان الجزائر" ورفض استخدام العنف في نضاله، ولم يدع في شكل واضح إلى مطلب الاستقلال.

وعندما اندلعت الثورة في الفاتح من نوفمبر عام 1954 انقسم الشيوعيون الجزائريون إلى فريقين، فريق يريد المشاركة في الكفاح المسلح، وأغلب أنصاره من الجزائريين، والآخر لا يحبذ ذلك، وأغلب مؤيدوه من الأوروبيين.  وأخذ أنصار الفريق الأول، وخصوصاً أولئك الذين يقطنون في منطقة الأوراس، وأغلبهم من البربر، يلتحقون في شكل فردي، ودون قرار من الحزب، بجيش التحرير الوطني، الذراع العسكري لجبهة التحرير الوطني الجزائرية، من بينهم العيد العمراني، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الجزائري، (زيدان) في قصة "اللاز".  وبعد شهر حزيران 1955 تبعهم المناضلون الشيوعيون في مناطق وسط الجزائر.  وعقب هذه الانسلاخات شكل الحزب الشيوعي الجزائري في شهر آذار 1956 منظمة عسكرية اسماها "مقاتلو التحرير" وكانت قيادتها مؤلفة من سبعة أشخاص، ثلاثة أوروبيين واربعة جزائريين.  وبعد نحو أربعة أشهر من تشكيلها، وتحديداً في شهر تموز 1956، تم الاتفاق مع قيادة جبهة التحرير الوطني على دمج "مقاتلو التحرير" في جيش التحرير، التابع للجبهة، شرط أن يقطعوا صلتهم بالحزب الشيوعي الجزائري، مع احتفاظ هؤلاء المناضلين بقناعاتهم السياسية والأيديولوجية.

ولكن هذا الاتفاق ما لبثت أن نقضته جبهة التحرير الوطني، حيث تم نزع أسلحة المقاتلين الشيوعيين، ودفعهم إلى خوض المعارك مع المحتلين الفرنسيين من دونها، وذلك بهدف التخلص منهم.  ومع هذا كانوا على قدر المسؤولية، ولم يخونوا رفاقهم في جبهة التحرير الوطني..  وأفضل تعبير عن بسالتهم ما كتبه عنهم أحد قادة الجبهة، المؤرخ محمد حربي، في كتابه: جبهة التحرير الوطني، الأسطورة والواقع، الطبعة الأولى 1983، الصادر عن مؤسسة الأبحاث العربية في لبنان، حيث قال: "لا جدال في أن الشيوعيين كانوا مقاتلين أماجد، وأحياناً مقاتلين نموذجيين، عندما توفرت لهم الفرصة، بمن فيهم الشيوعيون الأوروبيون، الذين انقطعوا عن أصولهم، دون أن يعترف بهم الشعب الجزائري كلياً.. كانوا عظيمين في مأساتهم".

وعودة إلى مضمون قصة "اللاز"، فعلى الرغم من أن وطّار استند إلى التاريخ في كتابتها، إلا أنه يقول في كلمة المؤلف التي صدّر بها كتابه "إنني لست مؤرخاً، ولا يعني أبدا أنني أقدمت على عمل يمت بصلة كبيرة إلى التاريخ، رغم أن بعض الأحداث المروية وقعت، أو وقع ما يشابهها.. إنني قاص، وقفت في زاوية معينة لألقي نظرة – بوسيلتي الخاصة – على حقبة من حقب ثورتنا".

وبعد،

لقد اعتبر النقاد قصة "اللاز"، الذي يعني اسمها باللهجة الجزائرية "اللقيط" ومجازاً الشعب الجزائري، من أهم إنجازات الرواية العربية المعاصرة، من حيث شمول الرؤية، واحكام البناء والقدرة على تحديد ملامح الشخصيات واللغة الطيّعة.

naim@palestinercs.org