مئوية سايكس بيكو .. والتشظي العربي الراهن

2016-05-29

مئوية "سايكس بيكو".. والتشظي العربي الراهن

تناولت جهات عربية وأجنبية الوضع العربي في الذكرى المئوية لسايكس -  بيكو. ويجري التركيز عربياً بشكل عام على أن إتفاقية سايكس -  بيكو كانت مؤامرة لتقسيم البلاد العربية. أما دولياً فإن غالبية ما نشر بهذه المناسبة، وهو كثير، يحاول تحليل نتائج هذه الإتفاقية. ويعود غالبية الكتاب والمحللين بهذه المناسبة الى الوثائق التاريخية والى البرهة التاريخية التي تم من خلالها توقيع هذه الإتفاقية.

ولا شك أن الوضع العربي الراهن والاضطرابات في العديد من البلدان العربية والظروف العامة في الشرق الأوسط هي السبب في شدة الاهتمام بهذه المناسبة. فالحرب ضد الارهابيين في سوريا والتلويح بإحتمالات تقسيمها وتعمق النزاع الشيعي السني، مع شراسة داعش المجرمة، وإنفجار الوضع السياسي في العراق، وتفاقم الأوضاع في اليمن وليبيا وغيرها، كلها اوضاع تعيد الى الأذهان بالنسبة للكثيرين إحتمالات حركة تقسيم واسعة في البلدان العربية.

ويجدر هنا التأكيد بان إتفاقية سايكس بيكو لم تكن إتفاقية لتقسيم الدول العربية، فلم تكن هناك آنذاك دول عربية، بل هي إتفاقية لتقسيم الممتلكات العثمانية/ ممتلكات الرجل المريض/ بما فيها الولايات العربية التي كانت تحت الاحتلال العثماني بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. ولم تكن سايكس بيكو الاتفاقية الوحيدة لهذا الغرض، ولكنها كانت الاهم. إذ قبل سايكس بيكو في آذار 1915، توافقت بريطانيا وفرنسا وروسيا، بموجب إتفاقية القسطنطينية على منح روسيا القيصرية ممر المضائق العثمانية وما جاورها من أراضٍ بما في ذلك اسطنبول. وفتح التوصل الى هذه الاتفاقية الباب واسعاً لبريطانيا وفرنسا للعمل من أجل تحديد أنصبتها من تركة العثمانيين. ولذلك ابتدأت المباحثات بين سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي على امتداد أسابيع، أسفرت عن التوصل الى إتفاق بتاريخ 3 كانون الثاني 1916، وجرى التوقيع الرسمي عليه بتاريخ 16/1/1916 وسُمّي إتفاق سايكس بيكو،  والذي نص على تقسيم المشرق العربي وجنوب تركيا الى مناطق إدارة مباشرة، فرنسية او بريطانيا ومناطق اخرى خاصة للطرفين، وإبقاء منطقة القدس وجوارها دولية. وفي منتصف عام 1917 وافقت بريطانيا وفرنسا على منح ايطاليا، جنوب غرب الاناضول بموجب اتفاقية لهذا الغرض. وهكذا تم بموجب هذه الاتفاقيات الثلاث وضع تصور لتقسيم أراضي السلطنة العثمانية وتحديد مناطق نفوذ كل من الدول الأربع، روسيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا. وشكلت هذه الاتفاقات، وخاصة سايكس- بيكو، مشروعاً إستعمارياً لتقسيم السلطنة العثمانية وإحلال قوى إستعمارية مكانها، بما في ذلك تقسيم الولايات العربية.

ووردت مجموعة من الملاحظات وردود الفعل من الجانب البريطاني على سايكس - بيكو، أهمها انها لم تأخذ بعين الاعتبار طموحات اليهود والحركة الصهيونية في فلسطين. وفي ضوء هذه الملاحظات فتحت بريطانيا حواراً مع قادة الحركة الصهيونية، وقامت بتقديمهم للفرنسيين والايطاليين والفاتيكان. وبرز واضحاً أن بريطانيا أصبحت معنية بوضع مطالب الحركة الصهيونية واليهود على طاولة المفاوضات المتعلقة بتقسيم المنطقة. وهكذا قادت رغبة بريطانيا وسعيها الدؤوب الى التوصل لاحقاً الى وعد بلفور، الذي جرى التمسك به من قبل بريطانيا والدول الرأسمالية من أجل إقامة دولة يهودية في فلسطين.

الا أن التطورات على الأرض، خلال الحرب العالمية الاولى، أدت الى إبطال مفعول معظم الاتفاقات الثلاث، وإجبار الاطراف المختلفة على إعادة التفاوض. ففي روسيا انتصرت ثورة اكتوبر، وأعلن البلاشفة التخلي عن الاتفاقيات مع بريطانيا وفرنسا، ونشروا مضمون الاتفاقات الذي كان سرياً حتى ذلك الوقت. اندلعت ثورة الاستقلال في تركيا ونسفت الاتفاقات مع روسيا وايطاليا. ولكن بريطانيا التي دخلت في تحالفات مع قادة الثورة العربية ضد السلطة العثمانية، عادت وتراجعت عن وعودها بعد ان ساهم رجالات الثورة العربية في طرد العثمانيين من العديد من الولايات العربية. وأما الدول العربية التي نعرفها اليوم فقد نشأت بموجب إتفاقية سان ريمو في نيسان 1920، نتيجة لاتفاق أساسي بين فرنسا وبريطانيا، حيث تم تقسيم مناطق النفوذ العربية بينهما ووضعت فلسطين تحت الإنتداب البريطاني فيما بعد.

في هذه الأيام، عندما يتوقف الكثيرون عند الذكرى المئوية لسايكس – بيكو، وفي ظل  الاوضاع السائدة في البلاد العربية، يتبادر للأذهان أن العالم العربي أمام موجة إنقسامات جديدة. ومع أن الاوضاع في بعض البلدان العربية توحي باحتمالات التقسيم، الا ان الظروف الحالية تختلف تماماً عما كان سائداً إبان توقيع سايكس بيكو. فالمنطقة حالياً تجتاز مرحلة صعبة بسبب النهوض الثوري الذي شهدته قبل عدة سنوات من أجل الخلاص من الديكتاتورية والسيطرة الأجنبية. ولمواجهة هذا النهوض، تداعت قوى كثيرة، أجنبية ومن المنطقة لوأد هذا التحرك، الامر الذي فجر الصراعات الدموية التي نشاهدها حالياً.

والمعركة في المنطقة مستمرة في ظل تحالف قوى العولمة الرأسمالية المجرمة والقوى الرجعية المرتبطة بأشرس الدوائر الامبريالية العالمية، ويستند هذا التحالف غير المقدس على القوى الارهابية والتكفيرية التي نشأت في أحضان الاحتكارات العالمية، وتطورت وكبرت في ظل صراعات الامبريالية مع دول العالم، وخاصة في العالم العربي وافريقيا.

وقاد هذا التطور الى إنقسامات كبيرة في العالم العربي، حيث تقف الرجعية العربية وتركيا مع الدول الامبريالية، ويجري تدعيم القوى الارهابية لإثارة وتعميم أسباب الانقسام في المجتمعات العربية. وأدت هذه التطورات لإضعاف جامعة الدول العربية وإلغاء دورها.

نعم هناك تهديد جديد للإبقاء على وحدة وتماسك العديد من البلدان العربية، ولكن هناك تحالف مفضوح بين الرجعية العربية والدوائر الامبريالية والصهونية. ولذلك يبدو جلياً أن اسرائيل أكثر المستفيدين في المنطقة من تعمق الصراعات في البلاد العربية وأكثر المستفيدين من هجمات قوى الارهاب التكفيرية، في ظل توسع احتمالات تقوية علاقاتها مع بعض البلدان العربية، وفي مقدمتها بعض الدول النفطية الخليجية.