الأصــولية
دومنيكـو لوسـوردو

مراجعه: نعيـم ناصـر

2016-06-02

الأصــولية

دومنيكـو لوسـوردو

ترجمة: مازن الحسيني

مراجعة

 نعيـم ناصـر

الكتاب موضوع القراءة هذه هو عبارة عن بحث نشر للمرة الأولى باللغة الإيطالية في عام 1997، ثم نشرت ترجمة له باللغة الألمانية.  وقام الأستاذ مازن الحسيني بترجمته الى العربية استناداً الى نص الترجمة الإنجليزية، الذي نشر في مجلة Naturescience and Thought، المجلد 17، العدد 1 (2004) التي تصدر في الولايات المتحدة الأميركية، ونشرته دار التنوير للترجمة والنشر والتوزيع في رام الله.

ومؤلفه هو دمنيكو لوسوردو عضو في هيئة التدريس في كلية الفلسفة في جامعة أوربانو بايطاليا، ويرئس جمعية هيجل-ماركس للتفكير الجدلي الدولية.

يؤكد هذا البحث، كما يقول الكاتب، على الخطر الذي ينجم عن استخدام مفهوم الأصولية بطريقة دوغماتية ومبتذلة، وذلك بتطبيقه دائماً على أعداء الغرب، وفي شكل خاص على الإسلام.

ومعروف أنه جرى بعد نشر هذه الدراسة بعامين، أي في العام 1999، أن شنت الولايات المتحدة حرباً ضد يوغسلافيا، تزامنت مع محاولات محمومة لتبرير تلك الحرب أخلاقياً، علماً أن قصف دولة ذات سيادة لم ترتكب أي عمل عدواني، هو أمر يتناقض مع القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وحتى ميثاق حلف شمال الأطلسي.  ولكن كل هذا اعتبر أقل أهمية من تأكيد صورة احترام حقوق الإنسان والمعايير الأخلاقية المقدسة، كما يقول الكاتب في خاتمة كتابه.

وهنا يستطرد الكاتب قائلاً: "لقد جرى بكل وضوح فصل المعايير القانونية الإيجابية عن المعايير الأخلاقية المقدسة، التي لا يمكن انتهاكها.  وفي حالة الصدام بين المجموعتين، أي المعايير القانونية الإيجابية والمعايير الأخلاقية المقدسة، تصبح القوانين، التي صاغها المجتمع غير ذات بال ولا قيمة لها". فأولوية المقدس على العلماني هذه –يضيف لوسوردو- يجرى التأكيد عليها في شكل واضح وجلي في تصريحات رئيس الولايات المتحدة السابق بوش، ويتم اختتام هذه التصريحات دائماً بالدعاء "ليبارك الله أمريكا".

وهنا يرى الكاتب أن هنالك انسجاماً تاماً كان بين بوش وبن لادن حول نقطة واحدة على الأقل،وهي حرب الخير ضد الشر "ولا بد أن الله يقف الى جانب الخير.. انها حرب مقدسة".

وفي السياق نفسه يستشهد الكاتب بقول للبابا يوحنا بولص الثاني مفاده "ان السلطة مستمدة من الله، ويتم التعبير عنها من خلال النظام الأخلاقي، فاذا تناقضت القوانين مع هذه النظام ومع ارادة الله، فإنها لا تستطيع التغلب على ضمير المرء واجباره.. وفي هذه الحالة تفقد السلطة استحقاقها وتتحول الى ظلم ومفسدة".

ويقابله بنص مشابه للفقيه الإسلامي الباكستاني المودودي الذي يعتبر  المرجع الروحي للتنظيمات الإسلامية التكفيرية، ليثبت أن الأصولية واحدة في الديانات، وإن احتلف المؤمنون بها.. يقول المودودي: ".. ان القضية الأساسية هي أن كل من يتنكر للقانون المقدس ليتخذ منه قانوناً آخر سنه هو نفسه أو آخرون، انما يرتكب معصية، ويمارس استبداداً يجافي الحقيقة.  وكل من يحكم وفق قانون من هذا القبيل انما يكون مغتصباً".

وفي موضع آخر من الدراسة يشير الكاتب الى أن موضوع الحرب المقدسة، التي يخوضها "الشعب المختار"، يلعب دوراً هاماً في تاريخ التوسع الكولونيالي الغربي.  ويستشهد بالنص التالي الذي كتبه المؤرخ الإنجليزي الشهير أرنولد توينبي: "ان المسيحي الذي يؤمن بالكتاب المقدس وينحدر من العرق والأصل الأوروبي، الذي استقر فيما وراء البحار بين شعوب غير أوروبية، تماهى بشكل محتوم مع اسرائيل في اطاعة مشيئة يهوه (الله) باستيلائه على الأرض الموعودة، من ناحية، ومن الناحية الأخرى، حدد، خلال تقدمه هوية غير الأوروبيين الذين لقيهم، والكنعانيين، الذين جرى ايقاعهم بأيدي شعب الله المختار كي يتم القضاء عليهم أو يستعبدوا.  ان المستوطنين البروتستانت الإنجليز في العالم الجديد يبيدون الهنود في أمريكا الشمالية بالطريقة ذاتها، التي يبيدون بها الثيران الأميركية في طول القارة وعرضها، من شاطئ الى آخر على الطرف الغربي".

ويقرن لوسوردو موضوع الحرب المقدسة (بشكل ديني صريح أو شكل أضيفت عليه مسحة دينية علمانية سطحية) بوصول الولايات المتحدة الى مكانتها كالدولة العظمى الوحيدة في العالم.  ويورد  كيف استخدم الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريجان ايديولويجية أصولية عندما شن حملة صليبية ضد "امبراطورية الشر" ويقصد بها الاتحاد السوفياتي السابق.  ثم يستشهد بالقول الأصولي التالي لبوش الإبن: "لقد اختار الله أمتنا التي عُهد اليها بالرسالة التاريخية، رسالة أن تكون نموذجاً للعالم بأسره".  ويورد الباحث أن احدى الصفات المميزة للأصولية هي محاولة بناء تقاليد نمطية تجري مقارنتها دون أن يكون هناك صلة لها ببعضها البعض. ويقول: "لقد اتهم الإسلام بأنه غير قادر على الفصل بين السياسة والدين في المجال الدولي، وكأن مفهوم الحرب المقدسة الوارد في القرآن لا يتماهى مع مثيله في العهد القديم، وهو النص المقدس نفسه، الذي ما يزال يلعب دوراً مهماً للغاية في التاريخ الغربي".

وينتقل الكاتب الى الحديث عن محاولة الغرب التأليب ضد الإسلام ويشير الى أن الأصولية الغربية تعكس نفسها في الحملة التي تحاول تأجيج الحرب المقدسة ضد الإسلام، زاعمة أن الانتحاريين يوجدون فقط في التعاليم الدينية الإسلامية.  ومن الواضح –كما يذكر الكاتب- أن هذا القول يقوم على جهل بالمعارف التاريخية. ويتعين على كل امرئ أن يكون قد عرف بظاهرة "الطيارين الكاميكازيين" وهم الطيارون اليابانيون الذين كانوا سقطوا بطائراتهم عمداً فوق الأسطول الأميركي في المرحلة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.  ويورد الكاتب مثالاً آخر من الصين في القرن التاسع عشر بعد القضاء على ثورة تايبينغ، حيث فضل مئات الألوف من الصينيين الانتحار على الاستسلام.  وليست العمليات الانتحارية بغريبة على الأصولية اليهودية.  ففي عام 1944 -يقول الكاتب- دخلت الشخصية اليهودية المعروفة حنة ارندت، في نقاش حاد مع المجموعات الصهيونية التي كانت تداعب خيالها فكرة انشاء "فرق انتحارية" للتسريع في خلق الدولة اليهودية.

ويضيف أن هذا يجب ألا يثير أحداً. فالعهد القديم يمجد شخصية شمشون الذي هدم المعبد على رأسه ورأس من فيه من الفلسطينيين. ويذكر سفر "القضاة" كلمات شمشون الأخيرة: "يا سيدي الرب، اذكرني وشددني هذه المرة أيضاً. دعني أمت مع الفلسطينيين".  ويفيد لوسوردو أن هذه الواقعة حدثت في المنطقة ذاتها، التي تشهد اليوم أشخاصاً من المجموعات الإسلامية المتطرفة يفجرون أنفسهم.  والفارق –كما يقول- هو أن شمشون كان يشارك في نضال تحرري وطني ضد الفلسطينيين القدامى، بينما يخوض الفلسطينيون اليوم حرب تحررهم الوطني ضد اسرائيل. 

ويخلص الكاتب الى أن التأكيد، أن العمليات الانتحارية هي اختراع اسلامي، هو مجرد اسطورة خيالية من أساطير الأصولية الغربية.

ويقول: "ان من الصعب العثور على شعب يلفه الشعور باليأس أكثر من الشعب الفلسطيني، الذي أخذت مأساته تنمو منذ عقود طويلة، بينما المجتمع الدول يبدي عدم مبالاة كلية تقريباً".

ويعود المؤلف مرة أخرى ويتهم الولايات المتحدة بأنها الدولة الوحيدة، التي ترجع في معاملاتها الدولية الى أيديولويجية الحرب المقدسة.  فالرئيس بوش الإبن –يضيف الكاتب- مثله مثل عدد من سابقيه يتحدث بصراحة عن "الحملة الصليبية" ضد "الشر"، ويستخدم لغة الصليبيين في العصور الوسطى.  "فوفق وجهة نظر القديس برنارد (من كليرفو) إن الصليبي الذي يقتل مسلماً لا يرتكب جريمة قتل، بل يقوم بعمل صالح فهو لم يقتل شخصاً، بل تجسيداً للشر مبتذلاً".  وينتهي الكاتب الى أن أي تحليل للأصولية يدعم قيام العالم "الغربي العلماني والمتمدن" بحملة صليبية ضد الإسلام "البربري الديني"، ما هو الا تحليل سخيف تاريخياً ومنطقياً، لا بل هو مأساة سياسية.

وفي الختام لا بد من الإشارة الى أن الحركة الصهيونية "العلمانية" التي عملت على اقامة الدولة العبرية استندت في مشروعها على الأصولية اليهودية، وعلى نصوص الكتب الدينية، لتجنيد يهود العالم واقناعهم بأن أرض فلسطين ما هي الا الأرض المقدسة، التي ورد ذكرها في التوراة، والتي وعدهم الله بها..

وهي الحجة نفسها، التي يستخدمها الأصوليون اليهود للاحتفاظ بالأراضي، التي احتلتها اسرائيل في العام 1967، ويعارضون أي انسحاب منها.. ووفق هذه الفلسفة يعارض هؤلاء انسحاب اسرائيل من الأرض الفلسطينية المحتلة، ويحضوا المستوطنين والجنود على عدم تنفيذ قرار الحكومة الإسرائيلية، المتعلق بذلك، بحجة أنهم ينتهكون نصوص الوصايا العشر الواردة في التوراة.

وهناك تيار في الأصولية اليهودية يصر على الاختلاف النوعي بين اليهود وغير اليهود، ولديها نزعة لخلع الصفة الإنسانية، في شكل خاص، عن الشعب الفلسطيني.

وانطلاقاً من هذا الفهم يعتبر الكاتب أن الأصولية في العالم واحدة، وكل منها تحاول أن تحتكر الحقيقة، وتقنع الآخرين بأن الله يقف الى جانبها.. وهي جاهزة لتجند نفسها لخدمة القوى السياسية "العلمانية" التي ترغب في خدماتها!

(naim@palestinercs.org)