"فلسطين في الكتابة التاريخية العربية"
د. ماهر الشريف

2016-08-01

"فلسطين في الكتابة التاريخية العربية"

(عن هذا الكتاب الصادر حديثاً  عن دار الفارابي في بيروت)

 د. ماهر الشريف

العلاقة بين فلسطين، من جهة، والتاريخ وكتابته، من جهة أخرى، هي علاقة خاصة بل فريدة، نجمت، في الأساس، عن كون الصهيونية مشروعاً سياسياً جعل من التراث اليهودي، الواقعي والأسطوري، أداة لاستيلاد أمة وإقامة دولة. ويفسر وليد الخالدي، في تمهيد كتابه: "قبل الشتات: التاريخ المصوّر للشعب الفلسطيني " هذه العلاقة بين فلسطين والتاريخ، فيكتب: "غالباً ما ينغمس أطراف النزاع في تاريخ نزاعهم، ويستحوذ تاريخ الظلم وخلفيته على المظلوم أكثر مما يفعل على الظالم. وتتأثر شدة هذا الاستحواذ وطوله على المظلوم بعدة عوامل: فهناك طبيعة الحيف الذي حلّ في المقام الأول؛ ثم موقف الأطراف الأخرى من هذا الحيف؛ وأخيراً لا آخراً مسلك الطرف المستبد الظالم بعدما اقترفت يداه ما اقترفت". ويتابع الخالدي: "وفي حالة الفلسطينيين، وهم الطرف المظلوم في صراعهم مع الصهيونية، فإننا نجد أن هذه العوامل قد تضافرت معاً لتطيل وتشدد من وطأة استحواذ التاريخ عليهم".

بيد أن هذا الصراع مع الصهيونية لم يفرض على الفلسطينيين، والعرب الآخرين، أن يجعلوا من التاريخ سلاحاً من أسلحة المواجهة، المتواصلة منذ أكثر من قرن، وإنما فرض على كتابتهم التاريخية، في أحيان كثيرة، موضوعاتها ومحاور بحثها. وهو استخلاص زكته دراسة كنت قد أعددتها قبل سنوات طويلة لمشروع المؤرخ الفلسطيني الراحل إميل توما، الذي اشتمل على أربعة عشر مؤلفاً هدف معظمها، عبر رواية مغايرة للرواية الصهيونية، إلى إبراز استمرارية وجود الفلسطينيين على أرضهم، وتأكيد انتمائهم العربي ومشروعية نضالهم من أجل حقوقهم الوطنية، وإلى دحض المقولات والأساطير التي أشاعتها الصهيونية، ومن ضمنها مقولة أن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وأسطورة التاريخ "الأزلي" للصهيونية، ومقولة أن الفلسطينيين لم يمتلكوا، قبل بداية الهجرة والاستيطان اليهوديين، أية خصائص ثقافية مميزة.

***************************

بدأ اهتمامي بدراسة حالة البحث في تاريخ فلسطين منذ سنة 2007 عندما شاركت في مشروع: "تقويم القدرات العلمية والتقنية والابتكارية لبلدان حوض المتوسط"، الذي أشرف عليه معهد بحوث التنمية في باريس، ببحث بعنوان: "حالة البحث العلمي في حقل التاريخ (وعلم الآثار) في سورية ". ومع الوقت راح هذا الاهتمام يتعمق، الأمر الذي شجعني، في إطار عملي السابق كباحث في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى بدمشق، على تنظيم ندوة عربية تحت عنوان "هل هناك اتجاهات جديدة في كتابة التاريخ العربي؟"، انعقدت في دمشق يومي 15 و 16 نيسان (ابريل) 2010، وشارك فيها عدد من الباحثين والباحثات من سورية، وفلسطين، والأردن، ولبنان، والعراق، وتونس ومصر. ونظراً إلى أن كتابة تاريخ فلسطين هي جزء من الكتابة التاريخية العربية، فقد ارتأيت أن أعد لتلك الندوة بحثاً عن هذا الموضوع، تطرقت فيه إلى موقع التاريخ وأهميته  في العالم العربي، وإلى مكانة المؤرخ ودوره الاجتماعي والعلاقة بين التاريخ وبين أشكال التعبير الأدبي  والفني، ثم توقفت عند أبرز الإشكاليات التي تواجهها الكتابة التاريخية العربية، وسلطت فيما بعد الضوء على حقول هذه الكتابة وعلى مصادرها وعلى مهنة المؤرخ والتحديات التي تواجهها اليوم.

***************************

يضم هذا الكتاب أبحاثاً كنت قد أعددتها خلال السنوات الماضية عن كتابة تاريخ فلسطين، بعضها نُشر  أو قُدم في ندوات ومؤتمرات علمية، وبعضها الآخر أُعد خصيصاً لهذا الكتاب.

والواقع، أنني لم أطمح، منذ البداية، إلى إعداد كتاب جامع عن تاريخ فلسطين عبر حقبه المختلفة، ولا أن أرصد  كتابات كل من اهتم بحقول الكتابة التاريخية عن فلسطين؛ فهذه مهمة لا أدعي القدرة على القيام بها، وهي تحتاج إلى فريق عمل، بل ربما إلى فرق عمل بحثية تقوم بجرد حساب لكل ما كتب عن تاريخ فلسطين.

وعليه، فقد اخترت أن أعاين بعض حالات بحثية  في كتابة  تاريخ فلسطين، وذلك بالرجوع إلى مساهمات عدد من الباحثين الفلسطينيين والعرب الذين تناولوا، استناداً إلى مناهج مختلفة، هذا التاريخ في حقبه المختلفة: القديم، والإسلامي، والعثماني، والمعاصر. أما مقاربتي لمساهماتهم هذه، فقد حكمتها، إلى حد كبير، الإشكاليات التي تصدوا لها والأسئلة التي سعوا إلى الإجابة عنها، وكذلك  المصادر والمراجع التي استندوا إليها.

وضمن حدود مشروعي هذا، قصرت اهتمامي على الكتابات التي صدرت باللغة العربية وحدها، ولم أتناول بالبحث كتابات عن التاريخ الفلسطيني صدرت لباحثين فلسطينيين وعرب، باللغات الأجنبية، وذلك على الرغم من أهمية هذه الكتابات.

 ***************************

استأثر الاشتغال على حقل تاريخ فلسطين المعاصر بالقسط الأكبر من اهتمام الباحثين الفلسطينيين والعرب. وبينما بقي الاهتمام بحقلي تاريخ فلسطين القديم والإسلامي محدوداً، نشهد، في السنوات الأخيرة، تعاظماً للاهتمام بحقل تاريخ فلسطين العثماني، وبخاصة في المرحلة المتأخرة منه.

وعليه، يبدو أن القضية الفلسطينية وتفاعلاتها ستبقى تحتل موقع القلب في جسم الكتابة التاريخية العربية عن فلسطين، وستظل إشكالية النكبة وتداعياتها في محور اهتمام العديد من الباحثين، وذلك – كما يكتب جوزيف مسعد - بسبب "ديمومة المسألة الفلسطينية" واستمرار "المأساة" الناجمة عن "احتكاك الفلسطينيين بالصهيونية".

بيد أن الاعتراف بهذه الحقيقة لا يعني أن هذه الكتابة ظلت تراوح مكانها وتدور حول نفسها؛ فالواقع أن مركزية القضية الفلسطينية، وهيمنة إشكالية النكبة، لم يحولا دون ارتسام  آفاق تأريخ عربي جديد، راحت توجهاته تتبلور منذ سنوات عديدة، وتنحو في اتجاه تطوير أساليب الكتابة التاريخية العربية عن فلسطين، وتنويع وإغناء مصادرها وتوسيع دائرة اهتماماتها.

وفي هذا الصدد، سأتوقف عند ثلاثة من هذه التوجهات:

أولاً- بهدف تجاوز شحة المصادر الأولية، أو صعوبة الوصول إليها، يبرز توجه للوصول  إلى محفوظات لم يجر استثمارها بعد، أو لم يجر استثمارها بما فيه الكفاية، مثل محفوظات الجيشين الأردني والمصري، ووثائق جامعة الدول العربية، ومحفوظات منظمات دولية، كالصليب الأحمر الدولي في جنيف وهيئة الأمم المتحدة في نيويورك. كما يتزايد اهتمام الباحثين الفلسطينيين، ومنهم صالح عبد الجواد، بالتاريخ الشفوي من خلال جمع شهادات فاعلين شهدوا الأحداث أو شاركوا في صنعها. ويتصدى العديد منهم، مثل سليم تماري وعصام نصار، لمهمة تحقيق المذكرات ونشرها، وجمع الأوراق والوثائق المحفوظة لدى بعض العائلات الفلسطينية، وكذلك أرشيفات الصور.

ثانياً- خلافاً لما يشيعه بعض الباحثين الإسرائيليين، كانت الروح النقدية حاضرة في الكتابة التاريخية العربية عن فلسطين. وقد تعاظم التوجه لدى المؤرخين الفلسطينيين نحو تعميق هذه الروح النقدية في أبحاثهم، إذ راحت تبرز في السنوات الأخيرة دراسات –كدراسات يزيد صايغ ورشيد الخالدي - متسلحة بنظرة نقدية إلى "الداخل" ومتجردة من العواطف، وهي دراسات ينبغي تعميقها أكثر فأكثر في إطار السعي إلى الإجابة عن سؤال كبير ما زال معلقاً، وهو: لماذا تغلبت إسرائيل وما زالت متغلبة، في حين بقينا نحن، على الرغم من صعود قيادات جديدة بعد نكبة 1948 ونكسة 1967 إلى مسرح الأحداث السياسي وتطوّر إستراتيجيات وأساليب المواجهة، ننتقل من هزيمة إلى أخرى؟

ثالثاً- أخذ يبرز مؤخراً، في حقل الدراسات التاريخية العربية عن فلسطين، توجه واضح للانتقال من الماكرو– تاريخ إلى الميكرو- تاريخ، ومن التركيز على "القضية" إلى التركيز على صاحب هذه القضية، بما يضع الشعب الفلسطيني وتجمعاته المتنوعة، في الوطن والشتات، في مركز اهتمام الكتابة التاريخية، وذلك عبر السعي إلى اكتشاف المذابح التي تعرض لها الفلسطينيون وتدوين أحداثها، كما فعل وليد الخالدي وبيان نويهض الحوت، أو كتابة تجارب تجمعات فلسطينية محددة، كما فعلت روز ماري صايغ، أو كتابة تاريخ المدن العربية في فلسطين، وبخاصة في أواخر العهد العثماني وفي عهد الانتداب البريطاني، كما فعل اسبير منيّر ومي إبراهيم صيقلي ومحمود يزبك وجوني منصور ومصطفى العباسي وموسى سرور وغيرهم، أو تاريخ القرى الفلسطينية، وبخاصة المدمرة منها.

وهكذا، تنفتح أمام الكتابة التاريخية عن فلسطين آفاق جديدة، ويبرز، شيئاً فشيئاً، تاريخ جديد لا يفرّط بالمكتسبات المعرفية التي تحققت حتى الآن، ولا يساوم عليها بل يسعى إلى تعميقها وإثرائها.