بلفور وتداعياته الكارثية من هم الهمج . نحن ام هم؟ (الحلقة الرابعة)
سعيد مضية

2017-08-24

بلفور وتداعياته الكارثية من هم الهمج . نحن ام هم؟

(الحلقة الرابعة)

سعيد مضية

بن غوريون يحكم قبضته

فصلت بريطانيا شرقي الأردن عن فلسطين وأسقطته بذلك من وعد بلفور. ثارت ثائرة جابوتينسكي وأتباعه تحت مظلة الصهيونية المراجعة، متمسكا بالمبادئ التي اقرها المؤتمر الاول للحركة الصهيونية. استمر مع اتباعه يرددون للأردن ضفتان لنا هذه وتلك لنا. أما بن غوريون فبوحي من براغماتيته قبل الإجراء البريطاني مشترطا ان يبقى الأردن ضعيفا متخلفا لا يشكل خطرا على المشروع الصهيوني؛ فهو يمتد بمحاذاة بطن الدولة الموعودة. اقترح تجزئة المعونة البريطانية المقدمة للوحدة العسكرية الأردنية على اشهر السنة، كي لا يتبقى فائض يستثمر في مشروع تنموي. إن فقر الأردن وتخلفه إرادة صهيونية كانت ولم تزل. كانت حكومة رشيد طليع ، أول حكومة تشكل في شرقي الأردن بتكليف من الأمير عبد الله، قد أقدمت سرا على توفير مدخرات من شانها أن تسهم في تنمية بعض جوانب الحياة الاجتماعية.  اكتشفت الحيلة واعفي رشيد طليع من منصب رئيس الحكومة بعد ستة اشهر من تشكيلها، ثم أبعد وجماعته الاستقلاليين خارج الأردن. فقد احتجت فرنسا على وجود أحمد مريود، احد زعماء الاستقلاليين ينظم مقاومة في سوريا من ربوع الأردن.

ومعارضة من جانب آخر برزت بوجه بن غوريون. من الوسط اليهودي برزت  جماعة من  المثقفين الليبراليين، توفرت لديهم المناعة ضد العنصرية واخترق توجههم الليبرالي الحواجز القومية، رفعوا مطلب إقامة المركز الثقافي اليهودي في فلسطين. حتى أربعينات القرن الماضي ظل بن غوريون يخفي فكرة الدولة ؛ لكنه طرح في لقاءاته مع المندوب السامي فكرة تهجير غير المالكين من الفلسطينيين خارج البلاد. هكذا جاءت معارضة أنصار الصهيونية الثقافية  في الوسط اليهودي ليبرالية ترفض خيار الدولة وتدعو لصهيونية روحية. عارضت جماعة الصهيونية الثقافية الدولة حفاظا على القيم اليهودية؛ الدولة تلوث القيم اليهودية. يختلف جماعة الصهيونية الثقافية عن مجموعة زعمت انها يسار صهيوني، تحركت وكتبت كي تمنح الصهيونية واجهة إنسانية زائفة وتتستر على نواياها الاقتلاعية. 

لكن تيار القومية المنغلقة اليميني، ممثل مصالح الاحتكارات في بناء قاعدة للامبريالية في منطقة استراتيجية، اكتسح المعارضة وجرفها في تياره. فيما بعد، إتر تشكيل دولة إسرائيل برزت معارضة جذرية ظلت تتنامى. رغم قيام الدولة وتمتين علاقاتها بالامبريالية وإنجاز دولة إسرائيل تطورا اقتصاديا وعسكريا وعلميا – ثقافيا فإن اليهود المقيمين في إسرائيل لا يشكلون سوى 35 بالمائة من يهود العالم، حسب تقديرات الصهيوني السابق، أبراهام بورغ. ولا يتوقف سيل الهجرة من إسرائيل، وتحتفظ نسبة منهم جوازات سفر غير إسرائيلي’.

تحت العنوان"ليس هذه هو الطريق" نشرأشر غينسبيرغ (1856-1927) مقالة بالاسم المستعار أحد هعام (أحد أبناء الشعب). ومنذ نشر هذه المقالة بات يعرف بهذا الاسم . كان قد حضر المؤتمر الأول للحركة الصهيونية في مدينة بازل السويسرية عام 1897. وجد نفسه في صف المعارضة، إذ أيد معظم نواب المؤتمر تأسيس دولة يهودية كهدف رئيسي للحركة الصهيونية.  اعتزل الحركة وقاطع مؤتمراتها. دعا في المقالة إلى انعطاف فكري في الحركة ، وعرض لأول مرة مبادئ التيار الفكري المسمى لاحقًا "الصهيونية الروحية". في هذه المقالة قال آحاد هعام إن إقامة المركز اليهودي الرئيسي في فلسطين ليس من شأنه أن ينقذ اليهود من الاضطهاد الذي يتعرضون له في بعض البلدان، وإنما من شأنه أن يكون مركزا يهوديا روحيا مثاليا يؤثر بصورة إيجابية على مجتمعات يهودية في أنحاء العالم وعلى شعوب أخرى. في رأي آحاد هعام يكون المبرر الأرفع لإقامة المركز اليهودي الرئيسي في فلسطين هو السعي إلى جعله مركزا روحيا مثاليا وليس النية لجعله كيانا سياسيا.

و زعيم آخر، آرثر روبين، حذر في رسالة بعثها العام 1911 من الخطة الكارثة. وفي رسالة ثانية بعثها عام 1914 اقترح تسليم الأراضي المشتراة إلى مستأجرين عرب يقيمون عليها مزارع تعاونية. لم تجد أفكاره ولا بقية الأفكار الخارجة على خطة الصهيونية العملية القبول لدى القيادة الصهيونية.

ونقل البروفيسور ساند عن المثقف اليهودي يسرائيل بلكيند (1861ـ 1929)، "كان من أوائل المستوطنين، واختلف عن التيار العام إذ آمن دوما بالرابطة بين السكان القدامى وبين الفلاحين المحليين في أيامه. وعشية موته لخص موقفه في كتيب خاص كرس موقفه في هذه القضية؛ ونجد في عمله هذا جميع الفرضيات الفضائحية التي شطبت لاحقا من أجندة المؤرخين الصهاينة . قال في المفكرة: ’ اعتاد كتبة التاريخ اليهودي القول أنه بعد خراب اورشليم على يد تيتوس تبعثر اليهود في كل بلاد الكون. ولكننا نقف هنا أيضا أمام خطأ تاريخي يجب إزالته وإبانة الأمور على حقيقتها'. من وجهة نظر بلكيند أن تمرد باركوخفا عام 70 تدل على أن معظم الشعب ظل موجودا لفترة طويلة أخرى على أرضه. الذين غادروا هم الطبقات العليا والحاخامات وعلماء التوراة، الذين فضلوا الدين على البلاد.... لكن الفلاحين ظلوا مشدودين إلى أرضهم."

ورفض  فرويد، عالم التحليل النفسي المشهور، الفكرة الصهيونية من أساسها. لم ينخدع بتمظهر الصهيونية. تلقى عام 930 1، رسالة من حاييم كوفلر، عضو "مؤسّسة إعادة توطين اليهود في فلسطين"، تطلب منه، بحكم مكانته العلمية الرفيعة كعالم سيكولوجي، التوقيع على النّداء الذي وجّهه إليه من أجل دعم قضيّة الصهيونية في فلسطين، ومساندة حقّ اليهود في إقامة شعائرهم بحائط المبكى. رد فرويد في الرسالة التي أبقيت مغيبة " كان من الأجدى، فيما يبدو لي، بناء وطن يهوديّ على أرض غير مشحونة تاريخيّا. لكنّني أعرف أنّ فكرة عقلانيّة من هذا القبيل لا يمكن أن تستدرّ حماسة الجموع ولا معونة الأثرياء. وأقرّ أيضا، وبكلّ أسف، أنّ تعصّب مواطنينا غير الواقعيّ يتحمّل نصيبه من المسؤولية في إثارة الارتياب لدى العرب. لا يمكن لي أن أبدي أيّ تعاطف ممكن مع تديّن مؤوّل بطريقة خاطئة".

في ثلاثينات القرن الماضي برزت مجموعة "الصهيونية الروحية"، تقصر نشاطها في الميدان الثقافي، وعلى رأسها جودا ماغنيس، زعيم تيار "برت شالوم" (تحالف السلام) ودافع عن "التعاون والتصالح  بين اليهود  والعرب"(16/60) . توفي ماغنس ميتة غامضة(16/62)، شأن عدد من أبرز المعارضين لبن غوريون. كتب اينشتين مؤلفا يسرد سيرة حياته، حيث عين  رئيسا للجامعة العبرية. ونقل الفرد ليلينتال في كتاب له صدر عام 1979 قول ماغنس " يبدو اننا فكرنا في كل شيء ما عدا العرب".

وتحدث نوعام تشومسكي ، المفكر الأميركي البارز، عن التحاقه وهو في سن الشباب بالحركة الصهيونية.

"كان والدي من أتباع أحد هعام داعية الصهيونية الثقافية، وكذلك والدتي والأقارب والجيران المحيطين. عينت في اوائل  ثلاثينات القرن الماضي بالمركز الثقافي اليهودي ونظمت في ما كان يطلق عليه آنذاك جماعة شباب صهيون، وبالنسبة للوقت الحالي تعتبر مناهضة للصهيونية، فلم تطالب بدولة يهودية. التزمت مبكرا في سن المراهقة بدولة اشتراكية ثنائية القومية، وانضممت لمنظمة هشومير هتصعير(الحرس الفتي) واتفقت مع طروحاتهم بصدد فلسطين. أمضيت فترة في كيبوتس الحرس الفتي مع زوجتي وتركت التنظيم بسبب انقسامه بين ستالينيين وتروتسكيين. كان ذلك في عقد الأربعينات. ترأست منظمة شبابية. شعرنا بالحزن خين أعلن قرار تقسيم فلسطين"(11)

من انصار الصهيونية الثقافية مارتن بوبر، أستاذ الفلسفة بالجامعة العبرية، وكان يرى في العلاقات مع العرب مؤشرا للحفاظ على الإنسانية اليهودية"[16/133]. وشاركت في معارضة إقامة الدولة اليهودية هنريتا شولد، إحدى مؤسسات حركة هداسا للنساء، وكذلك الفيلسوفة الألمانية حنه آرندت.

 بخلاف فرويد انخدع أينستين بالحركة الصهيونية. منح بمكانته العلمية وهجا للصهيونية، لكنه تعاون مع الصهيونية الثقافية. انحاز للحركة الصهيونية احتجاجا على العداء للسامية، متوهما في الصهيونية ترياقا لدائها. من خطاب له ألقاه في فندق أمبسادور في لوس أنجلس(16شباط 1930) يقول: "لقد جرى الإعلان بوضوح أننا لا نسعى لخلق مجتمع سياسي، وبأن هدفنا هو هدف ثقافي بأوسع معاني الكلمة ، وبما أن الأمر كذلك فإن علينا أن نحل مشكلة العيش بروحية الجيرة جنبا لجنب مع إخوتنا وأقاربنا العرب ، بطريقة نبيلة وصريحة وكريمة " [16/87].

وفي شهادة قدمها عام 1946، امام لجنة تحقيق دولية أفاد "في ظل الظروف الحالية لا يوجد امل في تحسين الوضع  ما دام الانتداب في يد بريطانيا." وقال " إن اقتراحي هو شبيه باقتراح ماغنس-حكومة ثنائية القومية تحت إشراف مباشر لهيئة الأمم المتحدة. ارفض إقامة دولة يهودية لأن ذلك أمر غير ممكن عمليا في ظل توزيع السكان الحالي". أشار في شهادته إلى ضابط البوليس البريطاني دوغلاس دوف، مؤلف كتاب "سيوف للإيجار:قصة رفيق حر حديث" المنشور عام 1934، وفيه يتحدث عن دوره في اضطرابات هبة البراق1929" [16/143] 

 انتهت علاقة اينشتين بقطيعة مع الصهيونية؛ إذ بوفاة وايزمن عام 1952 عرض عليه بن غوريون تسلم منصب رئيس الدولة الجديد. لكن العالم المرموق رفض العرض. قلّة من الناس عرفت حينذاك سبب الرفض. فسر العالم موقفه بعزلته عن الجمهور الإسرائيلي : "سيتعين علي أن أقول للشعب الإسرائيلي أشياء لا يحب سماعها". فقد ظل أينشتين معارضا لإقامة الدولة، ووقف ضد الكوارث التي سببتها حرب التطهير العرقي. تعمقت ثقافة الكراهية العنصرية. أما بن غوريون فكشف عن تردي العلاقة مع اينشتين: "اضطررت لعرض المنصب عليه لأنه من المستحيل أن لا أفعل، ولكن إذا قبل فسنقع في ورطة". وفي 17 آذار  1952 وجه رسالة عتاب إلى لويس رابينوفيتش، الذي أيد قيام الدولة، تضمنت رؤية نبوئية إذ كتب ،" ألم يخطر ببالك ان (الحجّاج) الذين جاءوا من انجلترا لاستعمار هذه البلاد(يقصد أميركا) قد اتوا لتحقيق مشروع مماثل لمشروعنا؟ هل تعرف أيضا كيف اصبح هؤلاء الناس بعد فترة قصيرة استبداديين وعدوانيين وغير متسامحين؟".

تُرك آينشتين يعاني العزلة الباردة يذوي في النسيان: "سأظل مقيما هنا (بالولايات المتحدة)بقية حياتي، عازلا نفسي كلية عن الآخرين قدر استطاعتي. إن كل ما أحاول عمله في المجال الإنساني يتدهور بشكل ثابت إلى كوميدا سخيفة"، كما جاء في رسالة إلى صديق(16/283).

كشف النقاب عن معاناته القاسية البروفيسور استيفان ميساروش عالم الاقتصاد البريطاني(10) "خاض اينشتين نضالا لسنوات طويلة ضد عسكرة العلم، ومن أجل نزع السلاح النووي. وأصيب بخيبة أمل نتيجة إلغاء مؤتمر لبحث هذه القضية؛ واستمر في النضال حتى وفاته متحديا التهديدات والتشهير العلني. تمكن خصومه من عزله (..) نظرا" لافتقاد حركة جماهيرية تردد أصداءه وتسانده، حركة جماهيرية قادرة على مواجهة قوى رأس المال المدمرة والمتمترسة فتجردها من سلاحها من خلال رؤيتها البديلة للعملية الحيوية لتنظيم شئون الإنسانية"(10).

وقف الصهاينة في الجبهة المعادية، ذلك أن التجمع الصناعي – العسكري حليفها  وراعيها. رغم ذلك تجاهلت صحيفة نيويورك تايمز مواقف العالم الشهير واستهلت مرثيته  بالقول "إن إسرائيل التي كرس الفقيد حياته من اجل إنشائها..." وحذت حذوها معظم صحف اوروبا واميركا!!

استثمرت الحركة الصهيونية سمعته العلمية ونفوذه الأدبي لأغراضها وفشلت عواطفه الإنسانية في ردع التوجهات العنصرية للصهيونية. الثقافة حصيلة ثمرة السياسة وما ترسبه في حياة الجماهير.

الصهيونية العملية عمقت العداء اليهودي- العربي

حيث أن الثقافة تحيل على السياسة العملية التي تصنع الحقائق على الأرض فقد احتضنت سياسات الانتداب براغماتية بن غوريون ، راح يبني قواعد الدولة مدماكا فوق مدماك. في العام 1931 تسلم سير  أرثور واتشوب منصب المندوب السامي في فلسطين. وعد البريطانيون إثر انتفاضة البراق 1929، بالحد من الهجرة اليهودية؛ لكن واتشوب تعاطف مع الهجرة؛ إذ شهدت السنوات الأربع الأولى من انتدابه زيادة حادة في عدد المهاجرين قرابة الثلاثة أضعاف (من 174606 إلى 329358) حسب إحصاء مكتب الهجرة لحكومة الانتداب. بينما بلغت الزيادة في الممتلكات اليهودية عام 1931 مقدار18585 دونما، فقد بلغت الزيادة 72905 دونمات عام 1935. كما ان مجالات العمل والتجارة حققت انتعاشا ملحوظا. انتهج بن غوريون مواقف براغماتية. انهمك في النشاط العملي داخل البلاد ؛ بينما بقي معارضوه في الخارج. من الاشتراكية الصهيونية وقيادة الهستدروت، اللتين كانتا موضوع نشاطه الرئيس صعد بن غوريون إلى قيادة المجتمع الذي راح يتشكل مع تدفق سيل الهجرة.

احدث بن غوريون ثورة جعلت من العمل المنتج مهنة محترمة؛ فرض على الأستاذ الجامعي خوض النشاط الزراعي، وفرض على التجار أعمال النجارة والحدادة. ثورة في العقل يقول اوري أفنيري انها أساس السير نحو مجتمع صناعي حديث، خاصة في بلدان الشرق الأوسط.

ومنذ ذلك الحين تدفقت هجرات المزارعين العرب المطرودين من الأراضي المشتراة، و حُظر إشراك العرب في النقابات العمالية (الهستدروت)، مما اوجب على العناصر الديمقراطية بين اليهود أن تنشغل بالدفاع عن حق العرب في العمل في المشاريع اليهودية وتشكيل النقابات المشتركة مع العرب. العمل العبري والملكية العبرية والدفاع العبري كانت مرتكزات "الاشتراكية" الصهيونية خلال النصف الأول من القرن العشرين، والقاعدة التي شيد عليها الكيان اليهودي. وبسببها انحرف الجناح "الاشتراكي"نحو التطرف القومي اليميني متجاوزا في يمينيته اليمين البرجوازي(5/86).

تشكلت الهاغاناة بمسوغ كاذب زعم انها لحماية المستعمرات. كانت المستعمرت اليهودية تقام بناء على تقديرات الحرب القادمة مع العدو وليس بناء على اعتبارات اقتصادية او امنية في حينه. هذا ما كتبه ييغئال آلون في كتابه "إنشاء الجيش اليهودي". قال ان بناء "المستوطنة" خضع لاعتبارات عسكرية ، واعد تنظيم الهاغاناه طبقا لاعتبارات الصراع المسلح مع العرب. وفي الكتاب سرد آلون حكاية التعاون مع الانتداب في ضرب الثورة الفلسطينية، ودور البريغادير الإنجليزي، الكولونيل وينغيت، المتعاطف مع الصهيونية ، الذي تولى العناية بوحدات الهاغاناة وتدريب افرادها وتزويدها بفنون الهجوم وتوجيه الضربات الخاطفة. وفي حرب التطهير العرقي اظهرت وحدات الهاغاناة ذات القيادة الموحدة والخبرات القتالية مهارة فائقة تفوقت بها على عناصر المقاومة الفلسطينية ووحدات الجيوش العربية المعدة لمراسم تحية الملوك والرؤساء.

في إحدى ليالي حزيران 1933اغتيل حاييم الدوزوروف على شاطئ تل أبيب. كان شابا لامعا تسلم رئاسة هيئة إدارة  الوكالة اليهودية، وكان يمقت التطرف العنصري. بقيت ظروف اغتياله غامضة؛ لكن المستفيد الأول من غيابه كان بن غوريون. حل مكانه، وبات يشغل  مدير الوكالة، (5/90) المعادل لمنصب رئيس وزراء إسرائيل.

 وتوفي إلياهو غولوب ميتة طبيعية. كان احد ابرز مؤسسي الهاغاناة، وعرف عنه الأناة والدماثة. وبموته تولى بن غوريون مهمة وزير الدفاع .بات الرجل الذي قاد النضال ضد العرب في بيارات برتقال بتاح تيكفاه وحقول سيجيرا رئيسا للهستدروت، مسئولا عن وزارة الحرب. (5/94) في بداية يناير/ كانون ثاني 1948 عقد اجتماع سري في مقر بن غوريون بشارع كيرن كاجيميث في تل أبيب حضره افراد القيادة العليا للهاغاناه وخبراء الوكالة اليهودية للشئون العربية. لم يصدق بن غوريون كلام الخبراء عن خطورة تدخل الجيوش العربية بجانب الفلسطينيين. حدد بن غوريون علاقات إسرائيل.. يجب ان تتحالف مع الغرب وان السلم مع العرب مستحيل. (5/97)

عارض وايزمن في البداية خطة تهجير الفلسطينيين ، ثم عدل عن موقفه.  ووجه رسالة  إلى وزير  المستعمرات البريطاني عام 1930 قال فيها "بكل تاكيد إذا لم نستطع اجتياز نهر الأردن فإن العرب يمكنهم ذلك". وفي نوفمبر من نفس العام كتب مقالة في ويك إند ريفيو طالب  فيها ترحيل العرب المعدمين في الحال إلى شرقي الأردن.

هناك دلائل  على ان بريطانيا كانت تود السير في تنفيذ الفكرة ؛ في اجتماع مع المندوب السامي البريطاني بفلسطين ، سير آرثر  واتشوب، في 9يونيو1936، وشارك فيه موشيه شرتوك دافع بن غوريون عن موضوع ترحيل الفلسطينيين، ممن  لا أرض لهم إلى شرقي الأردن. وقال ان الصهاينة سوف ينفقون المال بسرور... لتوطين العرب المهجرين في شرقي الأردن. وفي اجتماع ضم وزير المستعمرات مع وايزمن وبن غوريون في 8حزيران/ يونيو  1937 توصلوا إلى وجوب ترحيل العرب الموجودين في الجزء اليهودي من فلسطين.

وكتب يوسف فايتس، المسئول الكبير في الصندوق القومي اليهودي ( كيرن كايميت) في مذكراته عام 1941 "أليس الآن هو الوقت الملائم للتخلص منهم ؟ لماذا نستمر في ترك هذه الأشواك بيننا وهي خطر علينا؟ يجب ألا تترك حتى قرية واحدة ولا عشيرة واحدة".

في العام 1942 عقد المؤتمر الصهيوني بفندق بلتيمور في نيويورك؛ آذن مؤتمر بلتيمور انتقال ولاء الحركة الصهيونية إلى اميركا، حيث برزت الدولة ذات النفوذ المتصاعد على المسرح الدولي.

لم تتشكل جبهة موحدة عابرة للقوميات والأديان تصمد بوجه التطرف القومي الصهيوني؛ أسقطت المقاومة الفلسطينية من حسابها الوحدة العضوية بين الصهيونية والامبريالية ؛ مارست مقاومتها على شكل فزعات ارتجالية مشتتة.

تأثرت المنظمات الشيوعة اليهودية بطروحات بن غوريون وظهرت في أدبياتها الدعوة لاعتبار المجتمع اليهودي المتشكل قومية في طور التكوين، ورفعت شعار دولة فلسطينية لقوميتين، وذلك مقابل شعار طرحته الأممية الشيوعية دولة فلسطينية ديمقراطية وتبنته العصبة. توقف نشاط الحزب الشيوعي بسبب الانحراف القومي الذي قاده شموئيل ميكونيس. تناقض موقف العصبة بصدد حل المسألة الفلسطينية مع موقف الحزب الشيوعي الفلسطيني (عضوية يهودية)؛ طالب الأخير بدولة فلسطينية لقوميتين، أي الإقرار بحق تقرير المصير للتجمع الكولنيالي اليهودي. ونقل الرفيق الباحث نعيم الأشهب عن مقابلة أجريت مع الشيوعي الراحل، ماير فيلنر (4/9/1997)، أنه نقل لمؤتمر شيوعيي المستعمرات البريطانية في لندن مطلب الحزب الشيوعي الفلسطيني، ورفض الطلب لأن" الشيوعية لا تقر بحق تقرير المصير لتجمع كولنيالي أقيم على حساب شعب آخر".

العصبة طموح مجهض

تشكلت عصبة التحرر الوطني في فلسطين في كانون ثاني 1943، أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت حزبا ديمقراطيا يسترشد بالفكر الماركسي. استمر نشاط العصبة حتى العام 1948، حين تفكك المجتمع الفلسطيني. امتازت الفترة القصيرة بخصوبة النشاط الوطني وعقلانية الطروحات السياسية، تلاحمت فيها مهام التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي. إن ربط القضية الوطنية بتصفية التخلف وفق رؤية ديالكتيكية يضوي درب النضال ويرشده، خاصة في ظروف معقدة للنضال الوطني التحرري الفلسطيني مع الغزو الاستيطاني الصهيوني. لدى قيامها، اجنهدت العصبة لإيجاد حل  لمشكلة وجود أكثر من 600000 يهودي على أرض فلسطين.

كانت مسألة الوجود اليهودي في فلسطين ومستقبله من المسائل المركزية التي واجهها الفكر السياسي الفلسطيني في عهد الانتداب البريطاني. من جهة رفضت ادعاءات الصهيونيين بأنهم يعبّرون عن مصالح كل اليهود، وأكدت أن الصهيونية تتعارض مع مصالح اليهود أنفسهم. ومن جهة ثانية انتقدت مواقف القيادة القومية العربية التقليدية التي كانت تعلن دوماً أنها "لا يمكن أبداً ان تعيش بسلام مع السكان اليهود في فلسطين، وأن تؤمن لهم أي حق ديمقراطي من حقوقهم، أو الوصول إلى تفاهم معهم". حذرت العصبة من مخاطر هذه "السياسة غير العملية"، التي قد تقود إلى تقسيم فلسطين، "والتقسيم هو أخطر حل يجر البلاد إلى المصائب والاضطرابات الداخلية". هكذا كان التقدير السياسي الموضوعي في ذلك الظرف الملموس، وهو متغير بطبيعة الحال.

لم تدرك قيادة الحركة القومية الفلسطينية التغيّرات العميقة التي راحت تتولد عن الحرب، والتي حوّلت المستوطنين اليهود في فلسطين إلى قوة سكانية وسياسية واقتصادية كبيرة، وخلقت أجواء من التعاطف الدولي الواسع معهم، لاسيما  تسريب اخبار المذابح الجماعية، التي تعرض لها يهود أوروبا على أيدي النازية؛ كما لم تتنبّه إلى خطورة التوجه الذي أُقرّ في مؤتمر الصهيونيين  بفندق بالتيمور في الولايات المتحدة، في أيار 1942، لإقامة دولة يهودية في فلسطين تكون جزءاً عضوياً من "العالم الديمقراطي الجديد"، وهو التوجه الذي صادق عليه المجلس العام للمنظمة الصهيونية العالمية، في تشرين الثاني من العام نفسه، وكان إيذاناً ببدء وقوع الحركة الصهيونية تحت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية.

حاولت العصبة رسم حدود واضحة بين الصهيونية، من جهة، والسكان اليهود في فلسطين..

حددت العصبة موقع حركة تحرر فلسطين ضمن الجبهة العالمية لمكافحة النازية والعنصرية. في نشرة داخلية اصدرتها قيادة العصبة في 12 نيسان 1944 ذكرت أن القضية الفلسطينية "جزء من القضية العالمية، قضية القضاء على النظم العنصرية، قضية استقلال جميع الشعوب ضمن أوطانها.. جبهة مناهضة للنازية ، وتآخي الشعوب ومساواتها، قضية سلام عالمي دائم".

إن نضال الشعب الفلسطيني من أجل حريته واستقلاله هو جزء من نضال الشعوب "ضد النازية والفاشستية ونظمها العنصرية"، وهو جزء من نضال "الشعوب السوفيتية، والشعوب الانجليزية والأمريكية والفرنسية واليوغوسلافية وغيرها من الشعوب، المناضلة للقضاء على أكبر خطر يهدد الحريات الوطنية". وأكدت، في هذا السياق، "أهمية العمل على توحيد القوى التقدمية في العالم ضد الفاشستية". تعينت الديمقراطية، في رؤية العصبة، بالملموس في مواقف مبدئية لو تضافرت ظروف انتهاجها لوفرت الكوارث والنكبات على الشعب الفلسطيني، ولاختصرت المتاهة التي انجرفت إليها القضية الفلسطينية. إنها مواقف مبدئية. دعت عصبة التحرر الوطني الأوساط الوطنية العربية إلى تأمين حقوق السكان اليهود الديمقراطية في فلسطين، والوصول إلى تفاهم معهم. انتقدت موقف القيادة القومية الرافض للتفاهم مع اليهود وحذرت من ان الرفض يصب في طاحونة تقسيم فلسطين. رأت العصبة في إشاعة الديمقراطية في السياسة والاقتصاد الشرط الذي لا بدّ منه لضمان ممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير، وذلك "لأن الديمقراطية هي من الضرورات الأولية لكل حركة وطنية تطالب بالحرية"، ولأن السياسة الديمقراطية هي وحدها التي ستضمن الحفاظ على السلم في فلسطين ... وفي الشرق العربي بأسره. ودعت العصبة حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين إلى أن تسير على خطة ديمقراطية في تسيير دفة الحكم في فلسطين، بحيث "يشترك الشعب بجماهيره الواسعة في إدارة شؤونه"، وهو ما يعني بلغة الواقع "إجراء انتخابات ديمقراطية للمجالس البلدية وإجراء انتخابات ديمقراطية لمجلس تشريعي ومنح الشعب حريات واسعة في إدارة شؤونه وتحقيق آماله".

قدمت العصبة تجربة عملية كان بالإمكان البناء عليها لإنجاز التفاهم العربي اليهودي وتحقيق وحدة العمال العرب واليهود ضد الاستعمار البريطاني. إذ بفضل نفوذها الكبير داخل "مؤتمر العمال العرب" (شغل فؤاد نصار منصب الأمين العام)، أمكن تحقيق نجاحات هامة على هذا الصعيد، تجسدت في الإضرابات المطلبية الموحدة التي شارك فيها العمال العرب واليهود في دوائر ومؤسسات الحكومة في نيسان 1946 وفي المعسكرات البريطانية في أيار1946.

انبرت العصبة بجرأة ومسئولية وطنية عالية بالتصدي لنهج الإرهاب السياسي الفردي والاغتيال الفسيولوجي في العمل الوطني. وبتكليف من قيادة العصبة أعد فؤاد نصار كراسا صدر عن لجنة العمل الثقافي التابعة للعصبة تجلى في فكر عصبة التحرر الوطني الفلسطينية التقدير العالي للديمقراطية في النشاط السياسي المرتبط جدليا بالثقافة. ورد في التقرير أن المستعمر يشجع الإرهاب الفردي والقتل السياسي كي يتمكن "من تفريق صفوف الأمة أثناء خوضها معركة النضال الوطني في سبيل الحرية".  الاغتيال السياسي "عدا عن أنه يشل النضال الوطني ويقضي على حرية الرأي ويبعد أقساماً كبيرة من الجماهير الشعبية عن الحركة الوطنية، فهو يترك آثاراً بعيدة الغور على حاضر النضال الوطني ومستقبله". وانتقد لجوء بعض أوساط داخل قيادة الحركة الوطنية إلى هذا الأسلوب كوسيلة " لمعالجة بعض القضايا الوطنية مثل بيوع الأراضي والسمسرة عليها، وفي مسألة مقاطعة البضائع اليهودية، وغير ذلك"، معتبراً بأن جميع هذه القضايا "لا يمكن معالجتها بمعزل عن قضية البلاد الرئيسية، وهي قضية الحرية والاستقلال"، وذلك لأن "هذه القضايا كلها متفرعة عن وجود الاستعمار في وطننا، وهو أصل الداء والبلاء، وهو الذي قاد البلاد إلى أزمات اقتصادية وسياسية... لا يمكن لفرد ان "يجيز لنفسه أن يحكم على الناس بالقتل أو بإتلاف أموالهم"، لأن ذلك هو من حق محاكم الشعب فقط، وأسلوب الإرهاب "لا يردع خارجاً عن غيه"، بل " يشيع الفوضى والفساد في الصفوف المتراصة، ويفتح ثغرات يتسرب منها المستعمر".

في نهايته أكد  التقرير أن"طريق الكفاح الشعبي المنظم ضد الاستعمار وأعوانه في سبيل الحرية هو طريق طويل ولا شك ؛ وليس هناك من طريق أقصر منه وأسلم عاقبة".

تشكلت عام 1945 لجنة عربية عليا من الأحزاب والكتل المتعاونة مع الحاج امين. جرت اولى المحاولات التخريبية في فلسطين من قبل الجامعة العربية عام 1946. حضر مبعوثها جميل مردم، رئيس وزراء سوريا، إلى فلسطين ومارس الضغوط على الأحزاب الفلسطينية والزعامات التقليدية كي تبعدها عن العمل المشترك مع العصبة والمنظمات الجماهيرية المرتبطة بها. وشكل مردم الهيئة العربية العليا. انتقدت العصبة تدخل الجامعة العربية في شئون فلسطين، فدولها مرتبطة بالامبريالية البريطانية، السند الرئيس للصهيونية. كتب فؤاد نصار، أحد قادة العصبة، يقول: إن الجامعة العربية تنتزع زمام المبادرة من أيدي الشعوب العربية وتحد من نضالها ضد الامبريالية، وتتدخل في الأمور الصغيرة والكبيرة ، متخذة مقررات " سرية " وعلنية لا تشفي غليل الشعب العربي الفلسطيني الظامئ للحرية.

في شهادة الدكتور خليل البديري، "قمت شخصيا بلقاء العضو اليوغوسلافي في اللجنة الدولية مرات عدة في منزلي بالقطمون، حيث جاء برفقة أحد الأعضاء البارزين في عصبة التحرر الوطني، وشرحت له موقف "اليسار". كانت العصبة قد قدمت تقريرا مكتوبا  إلى اللجنة الدولية. تم اخذ الموقف بنظر الاعتبار عندما قدمت مجموعة الأقلية تقريرها الذي، وبعكس تقرير الأكثرية، كان معارضا لتقسيم البلاد. يمضي خليل البديري إلى القول:"... قبلت واقع التقسيم على أساس انه لم يكن في الامكان تنفيذ أي حل آخر. ولكني لم اعتقد للحظة واحدة أنه القرار الصحيح. لم افكر ولا افكر الآن، انه سيكون الحل للقضية الفلسطينية على المدى الطويل... لم تكن الحرب عام 1948حربا شعبية كما جرى خلال السنوات 1936-1939... اعتقلت مثل غيري في غزة، أسوة بالآخرين مثل حمدي الحسيني  على اثر توزيع بيان الأحزاب الشيوعية العربية  الداعي إلى قبول قرار التقسيم  والثورة على أنظمة الحكم العربية  الخاضعة للاستعمار البريطاني.(4/123)

وفي شهادة اميل توما، "يوم صدور قرار التقسيم سافرت مع توفيق طوبي الى القدس لحضور اجتماع سكرتاريا العصبة وكنت الوحيد المعارض لقرار التقسيم. كان راي فؤاد نصار ان التقسيم واقع وأن العرب لن يقاتلوا. اما انا فقد قلت ان " الدم سيجري". ... عندما أعود بالذاكرة الى تلك الأيام لم تكن الحرب الباردة ظاهرة بعد، ومن المفيد التأمل في انه لو تأجل الانفجار لعام او عامين لكانت النتيجة مختلفة... كتبت في النقد الذاتي الذي قدمته لرفاق الحزب (طلب منه ذلك لدى عودته من لبنان حيث أرسل في مهمة) ان مؤتمر الأحزاب الشيوعية في البلدان الخاضعة للامبراطورية البريطانية الذي عقد عام 1947 كان قد اقر قرارات كلاسيكية  في معارضة التقسيم والدعوة الى إقامة الدولة الواحدة، وقد طلب مني حذفها من الوثيقة (4/250).

وردا على السؤال، ماذا كان الموقف الذي كان يجب أن تتخذه العصبة ؟

"كان موقف العصبة صحيحا حتى صدور قرار التقسيم. ولكن كجزء من حركة عالمية يجب ان تأخذ أمورا أوسع بعين الاعتبار ، وان تغير موقفها. لا يمكن إهمال ميزان القوى العالمي ، وأثر العلاقات السياسية الدولية  على مجريات الأمور".

----------------------------------------------

5-Uri Avniri: Israei Without Zionism   A Plea for Peace In The Middleeast,NewYork The Macmillan Company-London Collier – Macmillan Limitedon -

-Renny Brenner: Zionism in the Age of Dictators-Counterpunch,Feb24,20149

10- استيفان ميزاروش:أبعد التطورات الجارية ترجمة مازن الحسيني، دار النوير 2003

11- نوعام تشومسكي: مقابلتان أجراهما معين رباني في14 أيار 2009، و21 نوفمبر 2010_كاونتر بانش29تموز 1012

16- فرد جيرومي: آينشتاين حول العرق والتعصب العرقي، إصدار روجرز يونيفيرسيتي بريس، تموز 2005 - ترجمة مازن الحسيني، الناشر وكالة أبوغوش، رام الله، 2011