أزمة حركة التحرر القومي العربية
د. هشام غصيب

2017-10-30

أزمة حركة التحرر القومي العربية

د. هشام غصيب

هل هي أزمة في حركة التحرر القومي العربية؟ ولكن، لكي تكون هناك أزمة في حركة التحرر القومي العربية، فلا بد أن تكون هناك حركة تحرر قومي عربية؟ فهل هناك مثل هذه الحركة؟

يمكن القول إن بذور هذه الحركة موجودة في حركة المقاومة العربية: في مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الصهيوني، وفي المقاومة اللبنانية، والمقاومة العراقية، وفي مقاومة الجيش العربي السوري للإرهاب المعولم ومموليه وداعميه، وفي مقاومة الشعوب العربية للنيوليبرالية وإملاءاتها. لكنها ما زالت مقاومة محدودة، ملجومة بالجغرافيا (القطر)، وفي موقف الدفاع عن وجودها. وما زالت تفتقر إلى المضمون الاجتماعي الثوري العميق والمشروع التاريخي البديل. فمع أنه ليس هناك أمة في العصر الحديث قاومت المحتل وقدمت من الشهداء بقدر ما قاومته الأمة العربية وما قدمته من شهداء، إلا أن أمتنا أخفقت حتى الآن في تحويل حركات المقاومة العربية الملجومة بالجغرافيا، وربما بالطائفة والفكر الضيق أيضا، إلى حركة تحرر قومي عربية نهضوية تنموية شاملة، على غرار ما حدث في روسيا والصين وجنوبي شرقي آسيا وكوبا.

من الواضح إذاً أننا لسنا بإزاء أزمة في حركة التحرر القومي العربية، وإنما بإزاء أزمة غياب هذه الحركة. ولكن، هل يشكل هذا الغياب أزمة لنا (من نحن، على أي حال؟!)؟ وعمّن نتكلم؟ ما هو مفهوم حركة التحرر القومي العربية وما علاقته بالواقع العربي؟ وبماذا يتسم هذا الواقع اليوم؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، فلنبدأ بالواقع التاريخي الحديث للأمة العربية. ولننطلق من الملاحظة التاريخية بأن الأمة العربية جابهت الإمبريالية الغربية منذ البداية مجزأة متخلفة عارية سياسياً.

وأعني بذلك أنها لم تكن موحدة في ظل الدولة العثمانية، وإنما كانت مجزأة ومتشرذمة ضمن إطار واحد غريب عنها. وعندما جابهت العدوان الإمبريالي الغربي، فإنها فعلت ذلك من دون كيان سياسي يوحدها ويقودها. فعندما رحلت الدولة العثمانية عن ديارنا، تركتنا عراة مجزأين متخلفين نجابه وحدنا أعتى قوة عدوانية في التاريخ. وبالمقارنة، فإن الأمة الصينية أيضاً جابهت العدوان الإمبريالي الغربي في مطلع القرن العشرين متخلفة، لكنها جابهته موحدة ومغطاة بدولة قومية تاريخية واضحة الحدود والمعالم. ولربما كان ذلك هو السبب الحقيقي في إخفاق الإمبريالية في تجزئة الصين ونجاحها في تكريس تجزئة الوطن العربي وتعميقها.

لكن الإمبريالية الغربية لم تكتف بإعادة رسم الحدود، وإنما خلقت أيضاً آليات في كل قطر عربي وعلى الصعيد القومي لتجديد حالة التجزئة والتبعية والتخلف، وفي مقدمتها الكيان الصهيوني. بيد أن الكيان الصهيوني نما محلياً وعالمياً، فأضحى مركزاً إمبريالياً في حد ذاته واكتسب دوراً آيديولوجياً عالمياً، أي أضحى تجسيداً محلياً للجناح الأكثر ظلامية في الإمبريالية العالمية. وأخذ يخطط لنظام جديد للتجزئة في الوطن العربي يتخطى في عنفه ولاعقلانيته ولجمه لقوى الإنتاج العربية نظام سايكس-بيكو الاستعماري القديم. فهو يسعى إلى بلقنة الوطن العربي على أسس إثنية وطائفية وقبلية ضيقة ومغرقة في تخلفها ورجعيتها. وسخر في سبيل تحقيق ذلك المطامع الإمبريالية لبعض الدوائر الفاشية في الولايات المتحدة الأميركية. والنتيجة هي ما يحصل في العراق وسوريا وليبيا ولبنان واليمن وفلسطين ومصر والسودان والجزائر، والحبل على الجرار. وقد تم ذلك من أجل ترسيخ الكيان الدخيل في الأرض العربية ولجم تطور الأمة العربية والتحكم في الموارد العربية ونهبها.

وبالطبع، فإن الرد المنطقي (ولا أقول التاريخي) على هذا الوضع المريع هو ما نسميه حركة التحرر القومي العربية. فلما كانت الإمبريالية العالمية تسعى إلى تفكيك الأطراف (ما أمكنها ذلك) وتجزئتها وتقسيمها والتحكم في مواردها المادية والبشرية، فإن الحركة النقيض، حركة التحرر القومي العربية، تسعى إلى تحقيق المهمات الآتية:

توحيد ما فككته الإمبريالية، أي توحيد الجماهير العربية وطاقاتها الثورية على أساس المصالح التاريخية المشتركة والثقافة التاريخية المشتركة والعدو الاستراتيجي المشترك. لذلك فإن حركة التحرر القومي العربي هي بالضرورة حركة عروبية وحدودية.

2. تحرير الموارد العربية، المادية والبشرية، من ربقة الإمبريالية والصهيونية والمافيات المتعاونة معهما، ووضعها تحت تصرف القوى والمؤسسات الديموقراطية الشعبية، التي تمثل الجماهير العربية وتعبر عنها وعن أشواقها وطموحاتها التاريخية، أي تحويل علائق الإنتاج والملكية في الوطن العربي بما يحقق ذلك. ولما كان هذا فعلاً اشتراكياً في جوهره، باتت حركة التحرر القومي العربية حركة اشتراكية في جوهرها.

3. وضع خطة تنموية تصنيعية شاملة للوطن العربي من جانب المؤسسات الديموقراطية الشعبية، التي تنبع من الجماهير العربية وتعبر عنها وتمثلها وتقودها، من اجل التسخير الأمثل للموارد العربية في بناء الوطن العربي والإنسان العربي، بل والإنسان أينما كان.

4. وحتى يتسنى لهذه الحركة ذلك كله، فلا بدّ أن تستلم هذه المؤسسات الديموقراطية الشعبية (الأحزاب والمجالس والهيئات الشعبية) السلطة السياسية، أي لا بد للجماهير العربية أن تقيم دكتاتورية الكادحين، حتى يتسنى لها تحقيق مهمات حركة التحرر القومي العربية وحماية نفسها والدفاع عن منجزاتها ومساندة حركة التحرر العالمي.

5. ولا بدّ لهذه المؤسسات أن تقودها نخب متطورة الوعي، مسلحة بوعي علمي نقدي قادر على تملك الواقع التاريخي في حركته وسيرورته تملكاً معرفياً نقدياً في سياق تغييره وتثويره، ومن ثم قادر على التخطيط التنموي الواقعي وقيادة الجماهير في تنفيذ ذلك.

هذا هو المفهوم المنطقي لحركة التحرر القومي العربية، الذي يفرزه الواقع التاريخي للأمة العربية، بالضرورة المنطقية. هذا هو المثال الموضوعي الذي يحرك التاريخ الحديث للأمة العربية.

أما على الصعيد التاريخي الفعلي، فالأمر غير ذلك. لقد ولد واقع العدوان الإمبريالي الصهيوني على الأمة العربية نقيضاً ما هو المقاومات القطرية هنا وهناك: الجزائر، ليبيا، مصر، السودان، فلسطين، لبنان، سوريا، العراق، عُمان. وقدمت هذه المقاومات مئات الآلاف من الشهداء. كذلك، فقد نشأت حركات تنموية قومية التوجه واستقلالية النزوع (الناصرية، البعث العربي الاشتراكي، القوميون الاجتماعيون، القوميون العرب، الشيوعيون). ووصل بعضها إلى السلطة وإلى مواقع التأثير والفعل، هنا وهناك. لكنها وصلت إلى هذه المواقع بالطرق الانقلابية والنخبوية، الأمر الذي حدّ كثيراً من وقعها وفعلها وأثرها الثوري.

ولا شك أن الأنظمة الوطنية العربية قد حققت بعض الإنجازات المهمة على صعيد تغيير بعض بنى الإنتاج وعلائقه والتنمية والاستقلال والحفاظ على الوحدة الوطنية. لكنها أخفقت في تحقيق أي شكل من أشكال الوحدة القومية، وفي تحرير فلسطين وغيرها من الأراضي العربية المحتلة ( الإسكندرون والأحواز والجزر المحتلة في الخليج العربي)، وفي تصنيع أي قطر من الأقطار العربية، وفي بناء قاعدة علمية وتقانية عربية، وفي تحديث النخب العربية والثقافية العربية الحديثة، وفي تحريك الجماهير العربية وإتاحة المجال لها للتحرك بقواها الذاتية (معركة الديموقراطية)، وفي بناء دولة تنموية منظمة للإنتاج والتطور والحريات ( دولة مؤسسات ديموقراطية). نعم! لقد أخفقت هذه الحركات التنموية الاستقلالية في ذلك كله. وهي إخفاقات كبيرة بالفعل. ومع ذلك، ومع ذلك كله، فلم تنجُ من شر الإمبريالية والصهيونية وعدوانهما.

فظلت الإمبريالية والصهيونية تحيكان المؤامرات، واحدة تلو الأخرى، وتخططان لتفكيك الكيانات القطرية الوطنية العربية على أسس طائفية وإثنية. وكانت نتيجة ذلك تدمير الناصرية في مصر، وتمزيق الحركة الوطنية الفلسطينية، وتدمير الدولة الوطنية في العراق، ومحاولة تدمير الدولة الوطنية في سوريا بالأدوات الإرهابية الممولة والمدعومة إمبرياليا ورجعيا، وتغذية الاحتراب الأهلي في ليبيا وسوريا والجزائر ولبنان والعراق ومصر. والحق أن تدمير الوحدة الوطنية في الأقطار العربية بهذه الصورة المريعة ما كان له أن يتحقق لولا العدوان العسكري غير المسبوق الذي شنته الإمبريالية والصهيونة على مصر الناصرية والعراق وسوريا وليبيا، الأمر الذي يؤكد ما أحرزته الأنظمة العربية الوطنية من إنجاز على صعيد الوحدة الوطنية. كذلك، فإن شراسة هذا العدوان ليؤكد أن التوجه التنموي الاستقلالي الوحدوي العروبي لهو ضمانة الوحدة الوطنية وسلامة القطر.

إن أساس المحنة العربية لهي إخفاق أمتنا في تحقيق ثورتها وتحريك جماهيرها ثورياً، في الوقت الذي أفلحت فيه الأمة الإيرانية في تحقيق ثورة شعبية عارمة، وأفلحت الأمة التركية في تحقيق نوع من الثورة البرجوازية. كذلك فقد أخفقت امتنا في تحديث وعي نخبها وثقافتها (انظر في هذا الخصوص ياسين الحافظ).

إن الوطن العربي اليوم يتداعى ويشهد انهياراً متسارعاً. وليس هناك معادلة سحرية لوقف هذا التفكك والانهيار. لكننا نستطيع الاستدلال على بعض العناوين اللازمة لخلق النقيض الفعال. ويتمثل ذلك في رد الاعتبار إلى المفهومات الآتية: الثورة الاجتماعية والاشتراكية والتخطيط التنموي والوحدة القومية والعروبة وحركة التحرر القومي العربية وتحديث الوعي الاجتماعي.

إن وقف حالة الانهيار لا يمكن أن يتم بالشعارات والعناوين القطرية البائسة ولا بنظيرتها الدينية واللاهوتية ولا بتكريس الحدود القطرية القائمة. بل يمكن القول إن حماية القطر والحدود لا يمكن أن يتم بالآيديولوجيا القطرية، وإنما بآيديولوجيا التحرر القومي الوحدوية والاشتراكية والأممية.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الشرخ بين الحركة القومية والحركة الشيوعية، والذي أصاب قلب حركة التحرر القومي العربية منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، شكل بداية الأزمة المزمنة لحركة التحرر العربي. ولا شك أن الروح الانقلابية النخبوية، التي تغلغلت في هذه الحركة، عمقت هذه الأزمة وفاقمتها. إذ ساهم ذلك في إبقاء الجماهير العربية مغيبة خارج الفعل التاريخي، ومن ثم حد من تطورها وارتقائها ثقافياً وسياسياً، الأمر الذي شل إرادتها ووعيها وجعلها عرضة للمؤثرات الإعلامية الإمبريالية من جهة والرجعية (السلفية) من جهة أخرى.

أضف إلى ذلك أن إخفاق النخب التقدمية العربية في تحديث وعيها الاجتماعي، أي في تحقيق ثورتها الثقافية، حدّ من جذرية حلولها وثورية فعلها، وشل حركتها، وأضعف قدراتها التنظيمية وقدرتها على قيادة حركة التحرر والتغيير. كما إنه حال دون فهمها الواقع العربي والعالمي بعيانيته وحركيته، ودون وضع خطة لتفكيك بنى الثورة الثقافية المضادة الموروثة من العصر الوسيط.

إن الشارع العربي تحرك وانتفض-- في تونس ومصر واليمن والبحرين-- لكنه ظل بعيدا عن أفق التحرر القومي، وظل أسير الأفق البرجوازي الليبرالي القطري الضيق. فأين قياداته الطبيعية؟ أين اليسار؟ أين الماركسيون؟ ألم يحن الوقت لكي يتحرر اليسار العربي من أوهامه القطرية والليبرالية ويتملك تراثه الماركسي الثوري؟ لقد استقال اليسار من وظيفته الشعبية منذ عقود خلت، ولاذ بالقطرية الضيقة والأوهام الليبرالية. لكن الشارع لم يقف عند أزمة اليسار.

كما إنه لا ينتظر عودته إلى الوعي. فقد ظل يتحرك بفعل الصراع الطبقي، برغم تنكر اليسار العربي لمفهومي الثورة والصراع الطبقي. ظل يتحرك قدماً حتى وصل إلى مرحلة الانتفاضة الشعبية، واليسار العربي ما زال تائهاً في الفراغ الآيديولوجي الذي خلقه انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. الشارع يغلي والقادة نيام. أما آن الأوان للتحرر من فيروس الليبرالية والقطرية؟

هل نحن في حاجة إلى أممية شيوعية جديدة؟ هل نحن في حاجة إلى ناصرية شعبية أو بعثية جماهيرية أو شيوعية جديدة في سياق أممي جديد؟ لدينا على أي حال مثال أميركا الجنوبية. فلندرسه بعناية ونستخلص العبر. إن الزمن لا يرحم. فالبلاد ضاعت والوطن تفكك. فلا يخمد نار الاحتراب الأهلي الحارقة سوى نار الثورة الاجتماعية المطهرة. ثمة شبح يسكن الوطن العربي اليوم: شبح ثورة الجماهير الجائعة والعطشى.