الذكرى المئوية لثورة أكتوبر: (الحلقة العاشرة) - الاتحاد السوفييتي في عهد ميخائيل غورباتشوف - د.ماهر الشريف

2018-03-24

الذكرى المئوية لثورة أكتوبر

(الحلقة العاشرة)

  الاتحاد السوفييتي في عهد ميخائيل غورباتشوف (1985-1987)

د. ماهر الشريف

كان طموح ليونيد بريجنيف أن يخلفه في الأمانة العامة للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي مدير مكتبه  وأقرب معاونيه قسطنطين تشيرنينكو. وكان موت ميخائيل سوسلوف، مسؤول الدائرة الإيديولوجية والرجل الثاني في المكتب السياسي،  في 25 كانون الثاني 1982، قد فتح أبواب معركة الخلافة على مصراعيها. وعند وفاة بريجنيف، في 10 تشرين الثاني 1982، دعم أندريه غروميكو، وزير الخارجية، وديميتري أوستينوف، وزير الدفاع، ترشيح يوري أندروبوف، مسؤول جهاز أمن الدولة (كي.جي.بي) لمنصب السكرتير العام للجنة الحزب المركزية للحزب الشيوعي، وهو ما تحقق في 12 تشرين الثاني.

يوري أندروبوف: المبادر إلى تبني نهج الإصلاح

ولد يوري أندروبوف سنة 1914، في بلدة "ناغوتسكويه" في شمال القفقاس، وكان والده يعمل  في مصلحة السكك الحديدية. أما هو، فقد بدأ حياته المهنية عاملاً  في دائرة التلغراف، ثم ملاحاً في سفينة تعبر نهر الفولغا، وذلك قبل أن يلتحق بالمعهد العالي للتقنيات. وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، انضم في "كاريلي" إلى مجموعات الأنصار بصفته كادراً  من كوادر الشبيبة الشيوعية (الكومسومول). وبعد انتهاء الحرب، أصبح السكرتير الثاني لمنظمة الحزب الشيوعي في "بتروزافودسك"، ثم استدعي، في سنة 1951، إلى موسكو حيث عمل سنوات عديدة  في قسم التفتيش التابع للجنة المركزية للحزب الشيوعي. بعد انتقاله إلى السلك الدبلوماسي، عُيّن، في سنة 1955،  سفيراً لبلاده في هنغاريا، فكان شاهداً  على الاضطرابات السياسية التي اندلعت في ذلك العام في هذا البلد. وفي سنة 1957، عاد إلى موسكو ليشغل منصب رئيس قسم في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وانتخب في المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي، الذي انعقد في سنة 1961، عضواً في اللجنة المركزية، ثم  في سنة 1962 سكرتيراً للجنة المركزية  ومسؤولاً عن العلاقات مع الأحزاب الشيوعية الحاكمة. وفي سنة 1967، تسلّم رئاسة جهاز أمن الدولة (كي.جي.بي) ، كما  انتخب عضواً احتياطياً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي  ثم عضواً كامل العضوية في سنة 1973.

تميّز يوري أندروبوف  بثقافة واسعة  ومعرفة دقيقة بأوضاع البلاد الداخلية، وأدرك، نظراً لموقعه على رأس جهاز أمن الدولة، التناقضات التي كان يواجهها الاتحاد السوفييتي ونقاط ضعفه، وطمح، بعد وصوله إلى الموقع الأول في قيادة الاتحاد السوفييتي، إلى الإصلاح وإلى تحديث البناء السوفييتي وتجديد شباب الحزب الشيوعي، ومحاربة النزعة الطفيلية، وسمح للصحافة بأن تتحدث بحرية عن الصعوبات الاقتصادية، وأكد ضرورة محاربة الفساد والإدمان على الكحول بحزم، وبدأ باستبدال بعض الكوادر الحزبية.

كانت الأزمة الاقتصادية التي يخفيها منذ منتصف السبعينيات ارتفاع أسعار النفط قد تفاقمت بعد انخفاض هذه الأسعار، كما تناقص حجم الإنتاج الزراعي، وبات الاتحاد السوفييتي في حاجة دائمة لاستيراد كميات كبيرة من الحبوب من الولايات المتحدة الأميركية، بلغت أكثر من 20 مليون طن من القمح كل سنة، ووصلت إلى 40 مليون طن في سنة 1981. كما استمرت النفقات العسكرية في التزايد، وخصوصاً في ظل السياسة العداوانية التي انتهجها الرئيس الأميركي رونالد ريغان وبرنامج "حرب النجوم" أو "مبادرة الدفاع الاستراتيجي" الذي طرحه في 23 آذار 1983، وكذلك نتيجة الحرب في أفغانستان، والدعم المقدم إلى البلدان المستقلة، وخصوصاً إلى كوبا والفيتنام وأنغولا.

وبدأ أندروبوف، في مجال السياسة الداخلية، بمحاربة المظاهر الفاقعة للفساد الذي تعمم في بعض "الحلقات العائلية" في الحزب الشيوعي في عهد ليونيد  بريجنيف. ففي 1981-1982، انفجرت عدة "فضائح" كشفها جهاز أمن الدولة الذي كان يديره، ومنها فضيحة طاولت رومانوف، عضو المكتب السياسي، الذي "استعار" من متحف الإرميتاج في لينينغراد "أواني مائدة" كاترينا الثانية للاحتفال بعرس ابنته، وفضيحة "الكافيار" التي طاولت وزير الصيد إشكوف، وفضيحة "الماس" التي طاولت غالينا ابنة بريجنيف وزوجها يوري تشوربانوف، نائب وزير الداخلية. وبدعم من اندروبوف، قام إدوارد شيفارنادزه سكرتير الحزب الشيوعي في جمهورية جورجيا، في إطار هجومه على ظاهرتي المحسوبية والفساد، بفصل نحو 300 مسؤول كبير من جمهوريته. وفضحت مجلة الحزب النظرية "كومونيست" "الوصوليين الذين يحاولون الانضمام  إلى الحزب الشيوعي، والمستفيدين، والكسالى". وفي 11 كانون الأول 1982، نشرت "البرافدا"، في سابقة لم تحصل من قبل، محضر الاجتماع الأخير للمكتب المكتب السياسي للحزب الشيوعي الذي خُصص لمناقشة "العديد من رسائل العمال والفلاحين، الذين يعربون عن استيائهم من تراجع العمل، وتزوير الإحصائيات، ومنح المساكن بصورة تعسفية، والتلاعب في الموارد المالية ومن  انتهاكات أخرى للشرعية والعدالة".

وقد مثّل هذا النضال ضد الفساد والمحسوبية تحدياً للنخب المحلية في بعض الجمهوريات، وخصوصاً في آسيا الوسطى؛ ففي جمهورية أوزبكستان، التي كان يقف على رأسها رشيدوف المقرّب من بريجنيف، منذ عشرين عاماً، وصلت إلى اللجنة المركزية للحزب آلاف الرسائل التي تدين تجاوزات المسؤولين الذين يعيشون مثل أسياد القبائل، ويستحوذون على الثروات، ويقومون برعاية الوصوليين ويضخمون حجم  منتوج القطن المباع للدولة. وبغية وضع حد لـ "انتهاكات القانون الخطيرة "هذه، أوفد اندروبوف، في 31 تشرين الأول 1983، إيغور ليغاتشيف على رأس لجنة تحقيق إلى هذه الجمهورية، أسفرت النتائج التي توصلت إليها عن تسريح عشرات  القادة المحليين وإحلال موظفين محلهم  قادمين من مناطق أخرى، ولا سيما من روسيا، وهو ما أثار استياء السكان المحليين. 

وعلى الصعيد الاقتصادي، طرح يوري أندروبوف برنامجاً يدعو إلى تحسين الإدارة، وزيادة فعالية الاقتصاد عبر زيادة إنتاجية العمل  وزيادة استقلالية المؤسسات الصناعية، والكولخوزات والسوفخوزات على أن يستفاد في ذلك من "تجارب البلدان الشقيقة"، وخصوصاً هنغاريا. كما اقترح الحد من هدر الموارد وتعزيز الانضباط في مواقع العمل.  

وفي مجال السياسة الخارجية، سعى أندروبوف إلى تخفيف حدة التوتر مع الغرب، وقدم، في 21 كانون الأول 1982، تنازلاً مهماً عندما اقترح تقليص عدد الصواريخ السوفيتية المتوسطة المدى في أوروبا إلى 162 صاروخاً، بحيث لا يتجاوز عددها عدد الصواريخ الفرنسية والبريطانية، على أن يتم نقل الصواريخ السوفيتية المنزوعة من أوروبا إلى المناطق الآسيوية، وهو المقترح الذي رفضته إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان، بذريعة أن نقل هذه الصواريخ إلى آسيا سيغيّر موازين القوى ويشكّل تهديداً لحلفاء الولايات المتحدة الأميركية، وخصوصاً اليابان. وفي 26 آب 1983، أعلن أندروبوف أن بلاده مستعدة لتدمير الصواريخ المتوسطة المدى التي كانت تعتزم نقلها إلى مناطق آسيوية، لكن هذا المقترح الجديد غطت عليه سريعاً حادثة  قيام الطيران الحربي السوفييتيي بإسقاط طائرة الخطوط الجوية الكورية الجنوبية في 1 أيلول 1983 التي دخلت المجال الجوي للاتحاد السوفييتي، وعلى متنها أكثر من 260 راكباً.  وقد استغلت الإدارة الأميركية هذه الحادثة كي تصعّد حملتها على الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي دفع أندروبوف إلى الرد، في 28 أيلول 1983، في خطاب نقلته جميع وسائل الإعلام السوفيتية، وشن فيه هجوماً، لم يسبق له مثيل منذ عشرين عاماً، على الإدارة الأميركية متهماً إياها بمحاولة استغلال حادثة الطائرة الكورية الجنوبية كي تواصل السير على طريق سباق التسلح. وفي 24 تشرين الثاني 1983، وضع الاتحاد السوفييتي حداً للمفاوضات الدائرة في جنيف حول الصواريخ المتوسطة المدى في أوروبا، وأعلن أنه سيواصل نشر هذه الصواريخ، وهو ما تسبب في زيادة نفقاته العسكرية وفي إنهاك اقتصاده.  

ميخائيل غورباتشوف على رأس الحزب الشيوعي

توفي يوري أندروبوف في 9 شباط 1984، واختير قسطنطين تشيرنينكو لخلافته، بينما احتل ميخائيل غورباتشوف الموقع الثاني في المكتب السياسي بصفته مسؤولاً عن الدائرة الإيديولوجية. 

بيد أن قسطنطين تشيرنينكو لم يبقَ في منصبه سوى نحو سنة، إذ توفي في 10 آذار 1985، ورشح أندريه  غروميكو، في اليوم التالي، ميخائيل غورباتشوف لخلافته، وتم اختياره سكرتيراً عاماً جديداً للجنة المركزية للحزب الشيوعي وله من العمر 54 عاماً. بينما أصبح إيغور ليغاتشيف، الذي يعود الفضل أيضاً إلى يوري أندروبوف في اكتشافه وإحضاره إلى موسكو  من "تومسك" في سيبيريا، حيث كان يشغل منصب السكرتير الأول لمنظمة الحزب الشيوعي، وانتخابه في سكرتارية اللجنة المركزية سنة 1983 مسؤولاً عن قسم الكادر، أصبح  الرجل الثاني في القيادة  الذي يترأس اجتماعات المكتب السياسي في غياب غورباتشوف.  

ولد ميخائيل غورباتشوف في قرية "بريفولنو" التابعة لمنطقة "ستافروبول" الواقعة في شمال القفقاس في 2 آذار 1931، وكان والده يعمل في الزراعة سائق تراكتور. بعد إنهائه دراسته الثانوية، انتسب غورباتشوف إلى كلية الحقوق في جامعة موسكو، وفيها تعرّف إلى رايسا التي تزوجها في سنة 1953. وكان قد انتسب إلى منظمة الشبيبة الشيوعية (الكومسومول) في سنة 1950، ثم انضم إلى الحزب الشيوعي في سنة 1952. بعد تخرجه في كلية الحقوق، عاد إلى "ستافروبول" في سنة 1955، ليشغل منصب سكرتير لجنة الشبيبة الشيوعية في المدينة، ثم في الإقليم حتى سنة 1962. في 10 نيسان 1970، أصبح غورباتشوف السكرتير الأول للجنة الحزب القيادية في منطقة "ستافروبول"، بدعم من  يوري أندروبوف الذي كان قد تعرّف إليه خلال قضائه عطلته الصيفية في المنطقة. كما تعرّف غورباتشوف، في الفترة نفسها تقريباً، إلى أليكسي كوسيغين عندما كان يقضي عطلته في منطقة "ستافروبول".

في سنة 1971، وخلال انعقاد المؤتمر الرابع والعشرين للحزب الشيوعي، انتخب غورباتشوف عضواً في اللجنة المركزية للحزب، وكان قد انتخب في سنة 1969 نائباً في مجلس السوفييت الأعلى .  وسعى غورباتشوف إلى منح المؤسسات الصناعية  والكولخوزات شيئاً من الاستقلالية، وتميّزت منطقته، في بعض السنوات، في تحقيق محاصيل زراعية جيدة. وفي 27 تشرين الثاني 1978، انتخب الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب الشيوعي غورباتشوف عضواً في سكرتارية اللجنة المركزية، فانتقل بصورة نهائية إلى موسكو. وفي 21 تشرين الأول 1980، انتخب عضواً في المكتب السياسي. وكانت قد أتيحت له فرصة زيارة العديد من البلدان، إذ  زار في سنة 1966 ألمانيا الشرقية، وفي سنة 1969 بلغاريا وتشيكوسلوفاكيا، وفي سنة 1972 بلجيكا، وفي سنة 1975 ألمانيا الغربية، وفي سنة 1977 إيطاليا، كما أمضى، في سنة 1976، ثلاثة أسابيع في فرنسا بدعوة من الحزب الشيوعي الفرنسي.

غورباتشوف و"بيروسترويكا" الاقتصاد

طرح غورباتشوف  أفكاره الإصلاحية الأولى في 3 كانون الأول 1984، قبل أشهر قليلة من وفاة قسطنطين  تشيرنينيكو، في خطاب ألقاه  أمام زعماء الحزب والدولة الرئيسيين، اعتبر فيه  أن التحدي الرئيسي  يكمن في "قدرة الاتحاد السوفييتي على ولوج  الألفية القادمة بصفته قوة عظمى ومزدهرة"، وهو ما يتطلب "عدم فصل العمل عن المنافع المادية للمنتجين، وتسريع سيرورة الثورة العلمية التقنية". وبعد تسلمه الأمانة العامة للحزب الشيوعي، أحاط غورباتشوف نفسه بفريق من الاقتصاديين الإصلاحيين، واستند إلى الأفكار الرئيسية التي تضمنها التقرير الاقتصادي الذي عُرف باسم "تقرير نوفوسيبيرسك"، وهو تقرير تناول الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها الاتحاد السوفييتي وسبل تجاوزها، أعدته  عضو أكاديمية العلوم في روسيا تاتيانا زاسلافسكايا وعرضته، في نيسان 1983، في ندوة مغلقة  عُقدت في مدينة "نوفوسيبيرسك"، وحضرها نحو خمسين عالماً في حقول العلوم الاجتماعية، قدموا من مختلف المعاهد السوفيتية  وتعهدوا بالامتناع عن نشر التقرير، الذي وردت فيه كلمة "بيروسترويكا" أو إعادة البناء لأول مرة. ومنذ انطلاق البيروسترويكا برز محوران رئيسيان للإصلاح الاقتصادي تمثّلا في: تطوير استقلالية المؤسسات الإنتاجية، وتوسيع حيز المبادرة الفردية.

وفي اجتماع  اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، الذي عقد في حزيران 1985، أكد غورباتشوف  ضرورة "استخدام أفضليات  الاقتصاد الاشتراكي بصورة أعمق"، معتبراً أن تسريع التنمية الاقتصادية الاجتماعية "لا تعني مجرد النهوض بوتائر نمو الاقتصاد الوطني، بل بلوغ نوعية جديدة في النمو والانتقال إلى التنمية المكثفة (العمودية)، وتغيير بنية الاقتصاد، واستخدام أشكال فعالة لإدارة العمل وتنظيمه وتحفيزه"، وهو ما يتطلب "التركيز على إعادة تجهيز المؤسسات تقنياً، والتوفير في إنفاق  الموارد، والنهوض بنوعية المنتوجات". وانتقد غورباتشوف، في هذا السياق، "التبذير" في توظيف الموارد، وقدّر أن تقادم عمر الجهاز الإنتاجي أدى إلى "تضخم قطاع التصليح بدرجة هائلة"، كما أشار إلى "قصور" تخزين المنتجات الزراعية وحفظها ونقلها، ورأى أن نوعية المنتجات ومستواها الاقتصادي والجمالي "يشكلان واحدة من أضعف الحلقات في الاقتصاد السوفييتي".

ودعا غورباتشوف  إلى إحداث توسع محسوس في الاستقلالية الاقتصادية للمؤسسات، واستخدام الأشكال والطرائق الأكثر مرونة في الإدارة وفي الميزان الاقتصادي والعلاقات السلعية النقدية، معتبراً أن مفتاح النجاح هو "في وحدة جهود المركز والأطراف، وفي تنوع ومرونة أساليب الإدارة الاقتصادية وفي التطوير الواسع لمبادرات الجماهير". وانتقد، في هذا الصدد، عمل بعض الوزارات، ولجنة الدولة لشؤون العمل، ولجنة الدولة للتخطيط، التي تضع استقلالية المؤسسات في "قماط محكم"، وتفسر قرارات اللجنة المركزية للحزب والحكومة تفسيراً "لا يبقي من هذه المبادئ عملياً حجر على حجر". كما أكد غورباتشوف على أهمية "إقامة صلة وثيقة بين نتائج كدح جماعات العاملين ونظام دفع الأجور"، وذلك بعد أن أشار إلى أن "مستوى الأجور الآن لا يتوقف عملياً على مردود الإنتاج، وعلى ما إذا كان المنتوج جيداً أو رديئاً".

وبعد اجتماع حزيران 1985 للجنة الحزب المركزية، اتخذت الحكومة  قراراً برفع أجور عدد من فئات العاملين في الرعاية الصحية والعلوم ورفع  أجور المهندسين والفنيين، وتحسين الوضع المادي لقسم كبير من المتقاعدين، وتقديم قرابة مليون قطعة من الأرض مجاناً في السنة لغرض تطوير البساتين الخاصة للمزارعين.

وتوقع غورباتشوف في مشروع الخطة الخمسية الذي قدمه في اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، في تشرين الأول 1985، أن يتضاعف الدخل الوطني خلال خمسة عشر عاماً، وأن يتحقق تقدم كبير على طريق تحديث التجهيزات وزيادة إنتاجية العمل.

ثم انتقد بشدة في التقرير الذي قدمه، في 25 شباط 1986، أمام مندوبي المؤتمر السابع والعشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، السياسة الاقتصادية التي اتبعت في عهد  ليونيد  بريجنيف، معتبراً أنه "خلال بضع سنوات، تخلفت الأفعال العملية لهيئات الحزب والدولة عن مقتضيات الزمن، وبرز شلل في أشكال التسيير وطرائقه، وانخفاض الدينامية في العمل، ونمو البيروقراطية، وكل هذا سبب ضرراً مهماً، وتسبب في بروز ظاهرات الركود  في حياة المجتمع". ومنذ ذلك الحين، صارت كلمة "ركود" شائعة بكثرة لوصف عهد ليونيد بريجنيف. وأكد غورباتشوف، في التقرير نفسه، أن تسريع التنمية الاقتصادية الاجتماعية "هو مفتاح حل كل قضايانا القريبة والمستقبلية"، وذكر أنه تقرر "تخصيص أكثر من 300 مليار روبل من التوظيفات الأساسية لتعمير الإنتاج وتزويده بالتقنيات الجديدة، وخصوصاً في قطاعي النقل والمواصلات، وإعطاء الأولوية لتطوير الصناعة الخفيفة العاملة على تلبية احتياجات السكان".

وفي حزيران 1986، ألقى غورباتشوف تقريراً في اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي حول "الخطة الخمسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لفترة 1986-1990"، أشار فيه إلى أن الخطة تنص "على زيادة في الدخل الوطني بمقدار 124 مليار روبل مقابل 79 ملياراً في الخطة الخمسية السابقة"،  مؤكداً  "أنه سوف تجري على نطاق واسع مكننة وأتمتة الإنتاج واعتماد تكنولوجيات جديدة، بما يؤدي إلى تحسين ظروف العمل وتحرير ما يربو على 5 ملايين شخص من العمل اليدوي قبل حلول سنة 1990".

كما تولي الخطة اهتماماً خاصاً لمعالجة المشكلة السكنية، "إذ من المزمع بناء 595 مليون متر مربع من المساكن مع تحسين نوعيتها"، كما سيولى اهتمام خاص "لتطوير قاعدة البحث العلمي والتجارب، وستخصص نسبة كبيرة من الاستثمارات لعمليات إعادة التجهيز التقني للمؤسسات والتطوير المعجل لبناء المكائن، والنهوض بنوعية المنتجات". واعتبر غورباتشوف أن التوفير في الموارد "هو المصدر الأهم لتغطية الاحتياجات المتزايدة إلى الخامات والمواد والوقود والطاقة الكهربائية، فهناك عدد كبير من المؤسسات التي ما برحت تهدر أنفس الخامات والمحاصيل، ولم يعد في وسعنا احتمال هذا التبذير"، وأن السبيل المفضي إلى تحقيق إنتاجية عالية في الزراعة وتربية المواشي "يمر عبر الاعتماد الواسع على التكنولوجيات المكثفة، وتتمثل المهمة الرئيسية في زراعة محاصيل الحبوب والثمار والخضراوات والأعلاف وجنيها بالكامل، وحفظها وحمايتها من التلف". وفي 19 تشرين الثاني 1986، أقرت الحكومة قانوناً يسمح بالممارسة الفردية لثلاثين نشاطاً في مجالي الحرف والخدمات.

وفي الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب الشيوعي، الذي عقد في كانون الثاني 1987، اقترح غورباتشوف إجراءات ملموسة لإشاعة الديمقراطية في حياة المؤسسات  الإنتاجية، تسمح للعاملين بانتخاب مدرائهم. وطوّر، في الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب الشيوعي الذي عقد في حزيران 1987، ملف البيروسترويكا الاقتصادي، معلناً  "إصلاحاً جذرياً شاملاً" للاقتصاد، بحيث تدخل عليه آليات اقتصاد السوق: استقلالية أكبر للمؤسسات، إصلاح نسق الأسعار، الحد من ثقل التسيير المركزي، وتحفيز الطاقات الفردية. وفي تموز 1987، نشرت الحكومة قانون استقلالية المؤسسات المالية، ولكن في إطار التخطيط المركزي المستمر، وهو قانون  لم يدخل حيز التطبيق سوى في مطلع سنة 1989. كما تمّ تعديل قواعد التجارة الخارجية، بحيث صار في إمكان بعض الوزارات والمنشآت الكبرى عقد اتفاقيات تجارية مع الخارج.

وعمم مرسوم صدر في أيلول 1987 نظام الفرق الكولخوزية التي تنجز عملاً ما مقابل مبلغ من المال، وذلك بغية تشجيع المبادرة الفردية داخل الكولخوز. كما صار في الإمكان منح الأراضي للخولخوزيين على أساس عقد إيجار، وبات في وسع الكولخوز، بعد أن يسلّم إلى الدولة ما يتوجب عليه من مستحقات، أن يبيع فوائض منتجاته  في السوق الكولخوزي أو إلى التعاونيات. واعتبر غورباتشوف أن التعاونيات والعمل الفردي "هما شكل من أشكال الاعتراف بالاقتصاد الخاص"، وأنهما سيساعدان على "تلبية حاجات الناس في المقام الأول" والقضاء على "اقتصاد الظل"، مؤكداً أن البيروسترويكا "هي لإعادة بناء الاقتصاد الاشتراكي وليس لتدميره".

 وبغية زيادة إنتاجية العمل، تابع ميخائيل غورباتشوف  سياسة يوري أندروبوف في مجال مكافحة  الظواهر التي تضعف هذه الإنتاجية، فأطلق  حملة لمكافحة  ظواهر التغيب عن العمل والكسل، والعمل الأسود، والسوق السوداء، و"اقتصاد الظل"، وصدر في سنة 1986 قانون ضد المداخيل غير الشرعية. بيد أن هذا القانون طرح مشكلات من طبيعة أخرى، وأدى إلى خلل في تشغيل  الاقتصاد السوفييتي وتسبب في خفض شعبية غورباتشوف، إذ كانت نسبة كبيرة من السكان تعتمد على "اقتصاد الظل" لزيادة مداخيلها. كما تابع غورباتشوف ما بدأه أندروبوف في مجال مكافحة الإدمان على الكحول، الذي كان يضعف إنتاجية العمل، وينقص جودته، ويترك تأثيره على العسكريين وعلى طلاب المدارس، ويتسبب في ولادة أطفال معوقين وفي زيادة معدل الوفيات.

وحاول غورباتشوف تحقيق مهمة القضاء على الإدمان على الكحول، التي "ما برحت من بين أكثر المهمات إلحاحاً" كما قال عنها، باللجوء إلى رفع أسعار المشروبات الكحولية، بمقدار 25 في المئة في سنة 1985 و 20 في المئة في سنة 1986، الأمر الذي أدّى إلى انخفاض استهلاك الفودكا بنسبة 32 في المئة في سنة 1986 و 20 في المئة في سنة 1987، وإلى انخفاض استهلاك النبيذ بنسبة أكبر. وصارت الدولة تنظّم  جلسات لمعالجة المدمنين وتخليصهم  من إدمانهم. بيد أن نجاح هذه الحملة  كان محدوداً، إذ برزت ظاهرة تكرير الكحول بصورة سرية، الأمر الذي أدى إلى نضوب السكر من المخازن في بعض مناطق الاتحاد السوفييتي. وفي 2 حزيران 1987، نشرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي تقريراً عن حصيلة النضال خلال سنتين ضد ظاهرة الإفراط في تناول الكحول، رأت فيه أن الحملة حققت نجاحاً محدوداً، إذ  ظل واحد من أصل كل اثنين من المواطنين يفرط في تناول الكحول، واستمر تصنيع  الكحول السيء بصورة سرية.

بيد أن إصلاحات 1985-1987 الاقتصادية لم تعطِ  النتائج المرجوة منها، لا في القطاع الصناعي ولا في القطاع الزراعي، وذلك نتيجة عدم التوافق بين المشروع الإصلاحي والواقع، من جهة، وثقل القوى المتناقضة التي أطلقها المشروع الإصلاحي، من جهة أخرى. فقد ولّدت سياسة الحكومة المالية عجزاً في الموازنة وتضخماً، كما أن  بيروقراطيات الوزارات المركزية  وضعت العراقيل أمام استقلالية المؤسسات على صعيدَي الإدارة والإنتاج. ففي ظل نظام اقتصادي تغلب عليه إدارات الدولة، ويعاني من نقص الموارد، كان من السهل على المؤسسات الحصول على الموارد الضرورية إن هي بقيت تحت وصاية وزارة أو إدارة مركزية. 

غورباتشوف و"الغلاسنوست"

في تقريره أمام مندوبي المؤتمر السابع والعشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، الذي عقد في شباط 1986، دعا غورباتشوف إلى اتخاذ تدابير ملموسة لتعميق ديمقراطية النظام الاشتراكي، ومنها زيادة فعالية مجالس  السوفييتات والنقابات والكومسومول (الشبيبة الشيوعية)، وتطوير الرقابة الشعبية وإجراءات تعزيز "الغلاسنوست" أو العلنية/الشفافية. واعتبر أن توسيع العلنية هي مسألة مبدئية، سياسية، "إذ بلا علنية لا توجد ولا يمكن أن توجد ديمقراطية وإبداع سياسي للجماهير واشتراك لها في الإدارة"، مؤكداً أن الشيوعيين "يحتاجون إلى الحقيقة دائماً، وعليهم التحدث عن نواقصهم وصعوباتهم". ومنذ ذلك التقرير ، دخلت كلمة "غلاسنوست" إلى الأدبيات السياسية السوفيتية، إلى جانب كلمة "بيروسترويكا". 

في ليلة 25 -26 نيسان 1986، وقع حادث هز الاتحاد السوفييتي والعالم وهو انفجار المفاعل النووي في محطة تشيرنوبيل الكهروذرية، الواقعة بالقرب من مدينة كييف، وهو ما تسبب في سقوط آلاف الضحايا وهدد حياة الملايين في أوكرانيا وروسيا البيضاء. وأظهرت هذه الكارثة تخلف إجراءات الحماية وعدم كفاءة إدارة المحطة، وأحيت النقاش حول حرية الإعلام، وحماية البيئة، وأعطت دفعاً كبيراً لسياسة الغلاسنوست (العلنية/الشفافية)، التي مهدت الطريق أمام حدوث تحولات جذرية في النظام السياسي السوفييتي، وأمام ثورة سياسية حقيقية لم تكن العقول مهيأة لها. ورأى غورباتشوف في هذا الحادث "اختباراً صارماً" لبلاده، ودعا إلى أن تكون "مصيبة تشيرنوبيل" "تحذيراً جدياً لمن لم يدرك بعد، على الوجه الأكمل، الخطر النووي المحدق بالعالم، ولمن يواصل اعتبار السلاح النووي أداة للسياسة".

وما ان انطلقت الغلاسنوست حتى أعطى غورباتشوف معنى أوسع للبيروسترويكا. ففي تموز 1986، عرّفها بأنها "لا تشمل فقط الاقتصاد، وإنما أيضاً كل جوانب الحياة الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، والنظام السياسي، والمجال الروحي والإيديولوجي، ونمط وطرائق عمل الحزب". وأضاف: "يمكنني ان أضع إشارة مساواة بين البيروسترويكا  والثورة. فتحولاتنا، وإصلاحاتنا، تعبران عن ثورة حقيقية في كل نسق علاقات وروح وقلب الناس"، مؤكداً أن الإجابات الجديدة عن الأسئلة التي يطرحها الواقع "ينبغي البحث عنها ليس خارج حدود النظام الاشتراكي وإنما في إطاره". وفي الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب الشيوعي، المنعقد في كانون الثاني 1987، فرض غورباتشوف سياسة الغلاسنوست، وصرّح في ذلك الاجتماع: "هل نمتلك الضمانات بأن سيرورة التحولات التي انطلقت ستصل إلى نهاياتها؟ وأن الأخطاء السابقة لن تتكرر؟ إن المكتب السياسي للحزب يجيب بالإيجاب عن هذين السؤالين؛ نعم لدينا ضمانات: إنها تطوير ديمقراطية النظام الاشتراكي، وإسترجاع أسس العلنية اللينينية؛ فإعادة البناء غير ممكنة إلا من خلال الديمقراطية وبفضل الديمقراطية".

وسريعاً، حققت الغلاسنوست نجاحات كبيرة في ثلاثة ميادين: في مجال التاريخ، وفي مجال العلوم الإنسانية الأخرى، وفي مجال الأدب. وكان غورباتشوف من القادة القلائل الذين يقرأون الروايات، ويهتمون بالفن، ويترددون على المسارح والمعارض. واعتباراً من سنة 1986، راح ضغط الرقابة يخف على الإنتاج الأدبي والفني. فانعقد، ما بين 13 و 15 أيار سنة 1986، مؤتمر اتحاد السينمائيين، بحضور غورباتشوف، الذي انتقد سياسة لجنة الدولة المسؤولة عن السينما وانتخب إصلاحيين على رأسه  قاموا بالإفراج عن عشرات الأفلام التي احتفظت بها الرقابة في المستودعات، ثم حذا حذوه اتحاد المسرحيين، واتحاد الكتاب الذي عقد مؤتمره، في حزيران  1986، وغيّر رئيسه  بمباركة غورباتشوف.

كما تقرر تغيير رؤساء تحرير عدد من المجلات الرئيسية. وصارت الصحافة السوفيتية تنشر في كل يوم معلومات جديدة عن التاريخ السوفييتي. وتحرر الأدب، بصورة كاملة، من الرقابة، وانطلقت حملة إعادة الاعتبار  لعدد من الكُتّاب والأدباء، بمن فيهم اولئك الذين غادروا الاتحاد السوفييتي في السبعينيات، وفي مقدمهم ألكسندر سولجنيتسين. وفي 22 كانون الأول 1986، اتصل غورباتشوف بعالم الفيزياء أندريه سخارف في منزله في غوركي وأعلن له رفع الإقامة الجبرية عنه، وأنه بات في وسعه العودة إلى موسكو والعمل بحرية. واكتسب غورباتشوف، خلال شهور قليلة، تعاطف الأوساط الثقافية، من أدباء وفنانين.

وفي 2 تشرين الثاني 1987، وفي الاحتفال بالذكرى السبعين لثورة أكتوبر، ألقى غورباتشوف خطاباً  دعا فيه  المثقفين إلى التعامل مع التاريخ كما هو، وقال: "لا ينبغي أن يحتوي التاريخ بقعاً بيضاء ولا أسماء منسية"، مشيراً إلى التشريك القسري للأراضي في عهد ستالين، ودور تروتسكي، وكامنييف، وزينوفييف، وبوخارين، والقمع الستاليني، بوجه عام، الذي وصفه بأنه "خطأ فادح لا يغتفر"، وأعلن أن لجنة رسمية ستجتمع "لبحث الوقائع والوثائق الجديدة" عن تلك المرحلة، ودراسة حالة عدد من "الشخصيات التي أدينت ظلماً".

وكان غورباتشوف قد بدأ يحذر، منذ مطلع سنة 1987، من مخططات أعداء البيروسترويكا والغلاسنوست الرامية إلى وقف مسيرة الإصلاحات. ففي 25 شباط 1987، وأمام مندوبي المؤتمر الثامن عشر لاتحاد النقابات، اتهم القادة النقابيين بأنهم "متأخرون عن متطلبات البيروسترويكا، وخصوصاً فيما يتعلق بمهمتهم الأولى وهي الدفاع عن مصالح العمال وضمان العدالة الاجتماعية".وأشار في الخطاب الذي ألقاه، في 16 نيسان 1987، أمام مندوبي المؤتمر العشرين للكومسومول، إلى أن هناك "أشخاصاً معروفين يعارضون البيروسترويكا ويقفون  في أعلى المراتب: في اللجنة المركزية للحزب، وفي الحكومة، وبين الوزراء، وفي الجمهوريات والمناطق، وحتى بين صفوف الكومسومول".  وتابع أنه "ينبغي تدمير الكوابح التي تكبح الإصلاح". وعاد، في الخطاب الذي ألقاه في احتفال الذكرى السبعين لثورة اكتوبر، ليؤكد على "أننا سنخطئ إذا ما تجاهلنا تصاعد مقاومة القوى المحافظة التي لا ترى في البيروسترويكا سوى تهديد لمصالحها الخاصة وغاياتها الأنانية، ويتوجب علينا أن نظهر، ونفضح ونحيّد مناورات أعداء البيروسترويكا، الذين يريدون لنا أن نبقى أسرى الماضي".

بيد أن سياسة الغلاسنوست، التي كانت من أهم مكتسبات عهد غورباتشوف، صارت تهدد مستقبل النظام السوفييتي ومشاريعه الإصلاحية. وفي هذا الصدد، يرى محللون كثيرون أن الخطأ الكبير الذي ارتكبه غورباتشوف كان اقتناعه أن سياسة الغلاسنوست ستعزز هذا النظام وتقويه. فقد انطوت حرية التعبير على بروز آراء مختلفة، ليس فقط في المجال السياسي، تبناها دعاة نهاية حكم الحزب الشيوعي، وعودة الملكية على سبيل المثال، وبرزت في الشوارع والساحات في موسكو وبعض المدن الأخرى مجموعات متنوعة جداً، لم يغب عنها حتى أنصار الفاشية، كما رأت النور عشرات النوادي السياسية والجمعيات غير الرسمية التي تتبنى مطالب مختلفة، بما فيها استقلال الجمهوريات الاتحادية، وخصوصاً جمهوريات البلطيق.

قيادة الحزب الشيوعي وتناقضاتها

عرفت سنوات 1985-1987 تجديد هيئات الحزب الشيوعي القيادية على جميع  المستويات، إذ تم تجديد عضوية اللجنة المركزية للحزب وزيادة عدد ممثلي الجيل الشاب في صفوفها، كما تمّ تجديد عضوية المكتب السياسي على مراحل؛ فأبعد رومانوف من عضويته في تموز 1985، وتيخونوف في تشرين الأول 1985، وغريشين في شباط 1986، وكوناييف في كانون الأول 1986، وعلييف في تشرين الأول 1987، وانضم إليه  حزبيون جدد، مثل إدوارد شيفارنادزه، الذي أصبح في 2 تموز 1985 وزيراً للخارجية في محل أندريه غروميكو، الذي صار يشغل منصب رئيس مجلس السوفييت الأعلى، وألكسندر ياكوفليف، الذي كان يوري أندروبوف قد استدعاه من كندا حيث كان يشغل منصب سفير الاتحاد السوفييتي، ونيقولاي ريجكوف، الذي انتخب في عهد أندروبوف أيضاً سكرتيراً للجنة المركزية مسؤولاً عن الشؤون الاقتصادية، وأصبح رئيساً للوزراء، وفاديم ميدفيديف الذي أصبح من أقرب معاوني غورباتشوف.وفي هذا المكتب السياسي المجدد العضوية، كان على أنصار غورباتشوف، وعلى رأسهم شيفارنادزه وياكوفليف، أن يواجها معارضتين: معارضة "المحافظين" بقيادة إيغور ليغاتشيف، ومعارضة "المتسرعين" بقيادة بوريس يلتسين، الذي كان عضواً احتياطياً في المكتب السياسي.

وبوريس يلتسين، الذي سيسطع نجمه فيما بعد، له عمر غورباتشوف نفسه، وهو مثله من عائلة فقيرة في المحافظات، شغل منصب السكرتير الأول للجنة الحزب الشيوعي في "سفيردلوفسك"، وهي من أهم المناطق في قلب روسيا العميقة  وتقع في قلب المجمع العسكري-الصناعي. انتخب، في سنة 1976، عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، ثم استدعي، في  تموز 1985، إلى موسكو، وعيّن، في كانون الأول 1985، سكرتيراً لمنظمة الحزب في موسكو، ثم انتخب عضواً احتياطياً في المكتب السياسي، فراح يطبق سياسة غورباتشوف الإصلاحية، وبدأ باستبدال 21 سكرتير قطاع من أصل 34 في منظمته الحزبية، وهاجم امتيازات النخبة الحزبية، مثل وجود مخازن خاصة ومستشفيات ودور ضيافة  مخصصة فقط للموظفين والحزبيين الكبار. وفي اجتماع اللجنة المركزية الموسع للحزب الشيوعي، الذي عقد في 21 تشرين الأول 1987، طلب يلتسين الكلام، مع أنه لم يكن مدرجاً على لائحة المتحدثين رسمياً، فأشاد بغورباتشوف وانتقد أعداء البيروسترويكا  وهاجم بيروقراطيي الحزب وامتيازات القادة، فاعتبر كثيرون من المشاركين في الاجتماع أنه قد تجاوز حدوده، وصعد ليغاتشيف إلى المنصة وألقى خطاباً اعتبر فيه أن خطاب يلتسين "خاطئ سياسياً" وطالب بإدانته  بقرار من اللجنة المركزية، ثم وجّه 26 عضواً من أعضاء اللجنة المركزية انتقادات له، الأمر الذي دفع يلتسين إلى  تقديم استقالته، التي قرر غورباتشوف تأجيل البت بها إلى ما بعد الاحتفالات بذكرى الثورة. وفي11 تشرين الثاني، دعا غورباتشوف إلى اجتماع استثنائي للجنة الحزب في موسكو، فألقى باسم المكتب السياسي وسكرتارية اللجنة المركزية خطاباً انتقد فيه يلتسين لأنه يتبنى "مواقف سياسية غير ناضجة ومتناقضة"، وفضّل "طموحاته  الشخصية على مصالح الحزب"، واتّبع في منظمة موسكو سياسة "سلطوية إدارية". وبعد هذا الانتقاد، قام يلتسين بانتقاد ذاتي، فأعلن أنه "يعمل بصورة سيئة منذ فترة" وأن طموحه "كان في غير محله"، وأصر على استقالته.  ووافق المكتب السياسي على إقالته من منصب سكرتير الحزب في منطقة موسكو، ففقد بذلك موقعه كعضو احتياط في المكتب السياسي، لكنه بقي محافظاً على موقعه كعضو في اللجنة المكزية للحزب الشيوعي.

الإصلاحات  على مستوى برنامج الحزب الشيوعي وبنيته وطرائق عمله

في تقريره أمام مندوبي المؤتمر السابع والعشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، الذي عقد في شباط 1986، ذكر غورباتشوف أن الحزب الشيوعي يضم في صفوفه أكثر من 19 مليون عضو، وتوقف عند  مشروعي الصيغة الجديدة لبرنامج الحزب والتعديلات على نظامه الداخلي المقدمين إلى المؤتمر، فذكر أن مشروع الصيغة الجديدة للبرنامج يؤكد  أن الاتحاد السوفييتي ولج مرحلة "الاشتراكية المتطورة"، لكنه نبّه إلى أن هذا المفهوم انتشر في السنوات الماضية "كرد فعل على التصورات المبسطة عن سبل وآجال أداء مهام البناء الشيوعي"، ثم "أخذ تفسير الاشتراكية المتطورة ينحرف تدريجياً"، الأمر الذي بات يتطلب "توجيه الفكر النظري والسياسي لا نحو تسجيل ما تم بلوغه، بل نحو تعليل سبل وطرائق تسريع التقدم الاقتصادي الاجتماعي الذي ترتبط به التغيرات النوعية في مختلف ميادين الحياة". وأكد غورباتشوف ضرورة تركيز الاهتمام على إعداد  الكوادر ونشطاء الحزب، وتجديد أشكال وطرائق عمل المنظمات الحزبية، والتطوير الشامل للديمقراطية داخل الحزب، وتحقيق مبدأ القيادة الجماعية، وتطوير الانتقاد والانتقاد الذاتي وتوسيع الرقابة، كي يبقى عضو الحزب "نزيهاً عفيفاً".

وفي تقريره أمام اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، الذي عقد في حزيران 1986، انتقد غورباتشوف استمرار تركيز اللجان الحزبية على القيام بوظائف الإدارة عوضاً عن استيعاب الطرائق السياسية في القيادة، ودعا إلى التخلص من عناصر النزعة الإدارية على جميع المستويات، ابتداءً من المنظمات القاعدية ووصولاً إلى اللجنة المركزية، وأقر بأن إمكانات العمل بروح المبادرة "تتسع بوتائر بطيئة، وذلك نتيجة البيروقراطية"، التي وصفها بأنها "الأخت التوأم للنزعة الإدارية  والعدو اللدود لمشاركة جماهير الشعب الواسعة في شؤون الإدارة"، مؤكداً أنه لن يكون هناك أي تغيير "إذا لم تترسخ في الحزب، في جميع منظماته، روح عدم السكوت على النواقص والركود في العمل والتبجح الفارغ واللغو".

لقد  أراد غورباتشوف تمكين مجالس السوفييتات من لعب دورها كهيئات حكم اشتراكي وتفعيل دور المنظمات الاجتماعية،  وإعادة توزيع السلطات في إطار الحزب الشيوعي، من خلال تقديم عدة مرشحين متنافسين وليس مرشحاً واحدا إلى المواقع القيادية في هيئاته، وذلك بغية تعزيز شرعية الحزب وجعله قادراً على قيادة عمليات التغيير. ففي الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب في كانون الثاني 1987، اقترح  انتخاب سكرتيري الهيئات على مختلف مستويات الهرم الحزبي بالاقتراع السري، لكنه جوبه بمقاومة الجهازالحزبي الذي اكتفى ممثلوه بالحديث العام عن إشاعة الديمقراطية داخل الحزب، وظلت النتائج العملية لهذا الإصلاح محدودة، إذ لم تُقدم  الترشيحات المتنافسة  خلال الانتخابات الحزبية المحلية، التي جرت في 21 حزيران 1987، سوى في عدد قليل جداً من المنظمات. كما اقترح غورباتشوف تقديم عدة مرشحين لعضوية مجالس السوفييتات خلال الجمعيات الانتخابية، وهو الإصلاح الذي بقي خجولاً كذلك، في غياب التعددية السياسية.

غورباتشوف والمسألة القومية

في المؤتمر السابع والعشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، الذي عقد في شباط  1986، أنكر غورباتشوف في التقرير الذي قدمه أمام المندوبين وجود مسألة قومية في الاتحاد السوفييتي تحتاج إلى معالجة وحلول، وقال: "لقد قضي نهائياً، وإلى الأبد، على الظلم القومي وعدم التكافؤ القومي في جميع الأشكال والمظاهر، وتجذرت ودخلت وعي عشرات الملايين من الناس الصداقة الراسخة بين الشعوب واحترام الثقافة القومية والكرامة القومية لجميع الشعوب". وأضاف: "يبرز الشعب السوفييتي اليوم كوحدة اجتماعية جديدة نوعياً تجمعها وحدة المصالح الاقتصادية والإيدبولوجيا والأهداف السياسية". 

بيد أنه وقع  حادث في نهاية سنة 1986 بيّن خطر إنكار وجود مسألة قومية في الاتحاد السوفييتي، وهو الإنكار الذي رأي فيه محللون كثيرون الخطأ الكبير الثاني الذي ارتكبه غورباتشوف في تلك الفترة . ففي 16 كانون الأول من ذلك العام، وفي إطار الحملة على ظاهرة الفساد، صدر قرار بإبعاد السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي في جمهورية كازاخستان الاتحادية، دين محمد  كوناييف، من المكتب السياسي، على أن يحل محله الروسي غينادي كولبن. وما أن انتشر هذا الخبر حتى اندلعت في اليوم التالي تظاهرات عنيفة في عاصمة الجمهورية آلما أتا، قام بتنظيمها  شبان وتواصلت على مدى يومين وأسفرت عن سقوط عدد من القتلى. وقد  انتقد غورباتشوف بصورة غير مباشرة الدور الذي لعبه  ليغاتشيف في إيفاد  روسي ليقف على رأس الحزب في تلك الجمهورية، لا سيما وأن القاعدة التي كانت سائدة سابقاً هي أن يكون السكرتير الأول للحزب في الجمهورية الاتحادية  من سكان الجمهورية الأصليين ويكون السكرتير الثاني من روسيا الاتحادية.

غورباتشوف و "التفكير الجديد" في مجال السياسة الخارجية

منذ إسقاط طائرة الخطوط الجوية الكورية الجنوبية فوق الأراضي السوفيتية في 1 أيلول 1983، تدهورت العلاقات بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية. كما أن برنامج "حرب النجوم" الأميركي أعاد إطلاق المنافسة بين القوتين العظميين في مجال التسلح. واستمر التوتر شديداً بينهما بعد وصول قسطنطين  تشيرنينيكو إلى الكرملين، إذ بقي أندريه غروميكو مسؤولاً عن الشؤون الخارجية. ومع ذلك، وعندما تبيّن، خلال صيف 1984، أن رونالد ريغان سيعاد انتخابه لولاية رئاسية جديدة في تشرين الثاني من العام نفسه، قرر الزعماء السوفييت استنئناف الحوار بين البلدين، وقام غروميكو بزيارة واشنطن في 28 أيلول 1984 للقاء ريغان، وهو اللقاء الذي سمح بعقد محادثات في جنيف بين أندريه غروميكو وجورج شولتز وزير الخارجية الأميركي في 7 كانون الثاني 1985.

وبعد انتخاب ميخائيل غورباتشوف سكرتيراً عاماً، وحلول إدوارد شيفارنادزه محل  أندريه غروميكو على رأس وزارة الخارجية، قام الوزير الجديد  بتغيير 10 من أصل 12 من نوابه. وطرح غورباتشوف "التفكير الجديد" في مجال السياسة الخارجية، الذي انطلق من  الوعي بأن الحرب النووية لا يمكن أن تكون وسيلة لحل القضايا الكبرى التي تواجهها البشرية، وركّز على ثلاثة مبادئ هي: تخفيف حدة التوتر بين الشرق والغرب من خلال التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية حول نزع السلاح وحل النزاعات الإقليمية؛ وزيادة المبادلات التجارية مع الغرب؛ والاعتراف بالوضع الدولي  القائم وخصوصاً في أوروبا. وفي 2 أيلول 1985، أعلن البيت الأبيض عقد  قمة بين رونالد  ريغان وميخائيل غورباتشوف في جنيف ما بين 19 و 21 تشرين الثاني 1985، أكد الجانبان خلالها  أن الحرب النووية لا ينبغي إشعالها مطلقاً، وأن أي طرف لن يسعى إلى التفوق العسكري.

واستناداً إلى هذا "التفكير الجديد"،  طرح الاتحاد السوفييتي في 15 كانون الثاني 1986 برنامجاً متكاملاً لتصفية السلاح النووي قبل سنة 2000، وذلك بعد أن كان أعلن، في منتصف سنة 1985، وقف تجاربه النووية لفترة ستة أشهر.  وفي تقريره أمام مندوبي المؤتمر السابع والعشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، الذي عقد في شباط 1986، دعا غورباتشوف إلى تنظيم التفاعل الإبداعي الخلاق بين الدول والشعوب على نطاق العالم كله، معتبراً "أن هذا التفاعل ضروري للحيلولة دون وقوع كارثة نووية، وهو ضروري لحل المشاكل البشرية العامة المشتدة الأخرى، وأننا نعيش في عالم متناقض لكنه مترابط ومتكامل لدرجة كبيرة". وأكد أن النضال ضد الخطر النووي وضد سباق التسلح ومن أجل حفظ السلام العالمي"سيبقى الاتجاه الرئيسي  لنشاط الحزب الشيوعي على الصعيد العالمي". كما  أشار إلى أن الاتحاد السوفييتي اتخذ سلسلة من الخطوات من جانب واحد، إذ أوقف نشر الصواريخ المتوسطة المدى في أوروبا، وخفض عددها، وعلّق جميع التفجيرات النووية، ودعا إلى إيجاد حل واقعي لبرنامج "حرب النجوم" الأميركي من شأنه أن يضمن عدم انتقال سباق التسلح إلى الفضاء الكوني.

وفي 6 آب 1986، اتخذ المكتب السياسي للحزب الشيوعي قراراً بالاستمرار في وقف التجارب النووية  حتى الأول من كانون الثاني 1987، وذلك كخطوة على طريق إنجاح لقاء القمة السوفييتي-الأميركي الثاني، الذي عُقد  ما بين 11 و 12 تشرين الأول 1986  في مدينة  ريكيافيك في إيسلندا. وفي تلك القمة، طرح غورباتشوف على ريغان أفكاراً لإبرام ثلاث اتفاقيات بين البلدين تشمل تقليص الأسلحة الاستراتيجية الهجومية بنسبة  50 في المئة، والقضاء كلياً على الصواريخ السوفيتية والأميركية المتوسطة المدى في أوروبا، ووقف التجارب النووية وإبقاء "مبادرة الدفاع الاستراتيجية" المعروفة بـ "حرب النجوم" على مستوى الأبحاث المختبرية، وعدم نقل سباق التسلح إلى الفضاء الخارجي، لكن ريغان رفض الالتزام بالموافقة على هذه الاتفاقيات وأكد أن بلاده ستمضي قدماً في تنفيذ "مبادرة الدفاع الاستراتيجية" ولن توقف تجاربها النووية.

وبعد مباحثات صعبة جرت بين إدوارد شيفارنادزه ووزير الخارجية الأميركي جورج شولتز، وقع كل من ميخائيل غورباتشوف ورونالد ريغان في واشنطن في 8 كانون الأول  1987 اتفاقاً يمنع نصب الصواريخ متوسطة المدى في أوروبا. وهكذا سحب الاتحاد السوفييتي صواريخ (الأس س 20 و 21) من أوروبا الشرقية وسحبت الولايات المتحدة الأميركية صواريخ (بيرشينغ) و (كروز) من أوروبا الغربية. بيد أن الزعيمين لم يفلحا في الاتفاق على خفض الأسلحة النووية الاستراتيجية بنسبة 50 في المئة.

العلاقات في إطار معاهدة "حلف وارسو"

في حزيران 1986 انعقد في بودابست اجتماع اللجنة السياسية الاستشارية للدول الأعضاء في معاهدة وارسو، وأكد  غورباتشوف في ذلك الاجتماع  أنه "لا يجوز وضع مصائر العالم في يد الإمبريالية، والسماح لها بتعميق المجابهة العسكرية السياسية". وتدارس المجتمعون المآل الذي آلت إليه المفاوضات السوفيتية – الأميركية بشأن الحد من سباق التسلح، واتفقوا على التمسك بنهج البحث عن اتفاقية مقبولة لدى الطرفين في جنيف. كما طرح اجتماع بودابست اقتراحاً يقضي بتقليص الأسلحة التقليدية والقوات المسلحة في أوروبا كلها بنسبة 25 في المئة في غضون السنوات القريبة القادمة، وأكد أهمية الحفاظ على معاهدة وارسو وتجديد مدة معاهدته.

وفي أواخر حزيران 1986، شارك ميخائيل غورباتشوف في أعمال المؤتمر العاشر لحزب العمال البولوني الموحد الذي عقد في مدينة وارسو، وذلك بعد أن كان  الجنرال فويشخ ياروزلسكي، الذي فرض، في نهاية سنة 1981، الأحكام العرفية في البلاد ومنع نشاط نقابة "تضامن" المستقلة، قد صار يشغل منصب سكرتير اللجنة المركزية لحزب العمال البولوني الموحد. وفي الكلمة التي القاها أمام مندوبي المؤتمر، أشاد غورباتشوف بالدور البارز الذي لعبه  ياروزيلسكي، الذي نجح بفضل "نشاطه ونظره السياسي الثاقب وسعة أفقه" في "الذود عن مصالح شعبه وقضية الاشتراكية"، معتبراً أن أزمة أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات التي هزت بولونيا "كشفت بقوة عن المشاكل التي تواجه الاشتراكية في مرحلة الانعطاف المعقدة في تطورها". وقدّر غورباتشوف، في هذا السياق، أن بولونيا وقعت في فخ  الاعتماد على وارداتها من الغرب، ورأى أن الفكرة القائلة "إن شراء السلع في السوق الرأسمالية  أبسط من إنتاجها محلياً" كانت فكرة "ضارة بحد ذاتها"، مضيفاً أن هذا لا يعني "تقليص الصلات الاقتصادية مع الغرب" وإنما استخدام هذه الصلات "بصورة عقلانية، وإزالة التطرفات والحيلولة دون الوقوع في براثن التبعية"، ومنح الأولوية "للصلات  التعاونية مع البلدان الشقيقة وتسريع عملية التكامل الاقتصادي الاشتراكي". 

الانسحاب من أفغانستان وتحسن العلاقات مع الصين الشعبية

قررت القيادة السوفيتية وضع حد للتدخل العسكري في أفغانستان، الذي كلف الاتحاد السوفييتي مبالغ طائلة  ونحو  13000 قتيل و 37000 جريح، وأعلنت عزمها على سحب قواتها من هذا البلد على مراحل، وذلك بعد أن أُبعد عن الحكم، في أيار 1986، بابراك كارمال الزعيم الشيوعي الأفغاني الذي استدعى القوات السوفييتية في كانون الأول 1979. وفي تشرين الأول 1986، بدأت أولى الوحدات السوفيتية بمغادرة أفغانستان، ثم أعلن غورباتشوف رسمياً، في شباط 1988، انسحاباً كاملاً  للقوات السوفيتية، بدأ في 15 أيار 1988 واستكمل في غضون تسعة  أشهر.

وسهّل هذا الانسحاب الحوار بين الشرق والغرب، كما سمح بتحسين علاقات القيادة السوفيتية مع القيادة الصينية، التي جعلت من هذا الانسحاب واحداً من ثلاثة شروط لتحسين العلاقات السوفيتية-الصينية، إلى جانب تقليص حجم القوات السوفيتية على الحدود المشتركة بين البلدين وانسحاب الفيتناميين، المدعومين من السوفييت، من كمبوديا.

وكان غورباتشوف قد أعرب منذ نهاية  تموز 1986، في خطاب ألقاه في مدينة فلاديفوستوك عن تطلعه إلى تحسين العلاقات السوفيتية-الصينية، وخصوصاً في المجال الاقتصادي.

العلاقات مع البلدان المستقلة في "العالم الثالث"

بعد وصول ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة، في آذار 1985، شهدت السياسة السوفييتية تجاه البلدان المستقلة في "العالم الثالث" تحوّلاً  ملحوظاً، وذلك بعد توصل القيادة السوفيتية الجديدة إلى قناعة بأن سياسة بلادها تجاه هذه البلدان  أنهكت الاقتصاد السوفييتي، وتركت تداعيات سلبية على العلاقات مع الغرب، وخصوصاً مع الولايات المتحدة الأميركية، وأن من مصلحتها التخلي عن "سياستها التقليدية التي تقضي بتصدير الاشتراكية"، واحترام "مبدأ عدم التدخل". وكان الانسحاب السوفييتي من أفغانستان أكبر دلالة على التوجه نحو التخلي عن هذه السياسة.

لكن هذا التحوّل في السياسة السوفيتية لم يحصل دفعة واحدة، وإنما راح  يتبلور بصورة تدريجية. ففي السنوات الأولى من حكم غورباتشوف استمر الاتحاد السوفييتي في إمداد العديد من الدول، مثل نيكاراغوا، والفيتنام، وسوريا، وليبيا، واليمن الجنوبي، واثيوبيا، وأنغولا، بالأسلحة والمعدات العسكرية. كما واصل تضامنه مع هذه البلدان في مواجهتها مخططات الإمبريالية  العدوانية. فبعد أن قامت الطائرات الحربية الأميركية، في 15 نيسان 1986، بمهاجمة أهداف في مدينة طرابلس ومنطقة بنغازي في ليبيا، ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى، وذلك بذريعة  ممارسة  ليبيا الإرهاب الموجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أرسل غورباتشوف رسالة إلى معمر القذافي يعرب فيها عن تضامن قيادة الاتحاد السوفييتي وجميع المواطنين السوفيتيين مع ليبيا إزاء "العمل الإجرامي القرصني للإمبريالية الأميركية"، والعزاء بصدد "المصرع الفاجع لليبيين الذين سقطوا ضحايا الغارة الهمجية للطيران الأميركي"، مؤكداً ان القيادة السوفيتية،  وإلى جانب الدعم الذي تقدمه إلى ليبيا، وجهت إلى الإدارة الأميركية "أكثر من مرة تحذيرات جدية بصدد العواقب الخطرة لاستمرار سياستها المعادية لليبيا"، وأعلنت أيضاً "أن تطور الأحداث هذا لا بد وأن يؤثر تأثيراً سلبياً على العلاقات السوفيتية الأميركية".

 ولدى استقباله جوزه إدواردو دوش سانتوش رئيس مبلا-حزب العمل الأنغولي، في 6 أيار 1986، أكد غورباتشوف أن الوضع الدولي يمر "بمرحلة مسؤولة وخطيرة جداً"، وأشار إلى الاعتداء الأميركي على ليبيا، وكيف أن الإدارة الأميركية ظهرت أمام العالم "بصورة مشينة كخانق لحرية الشعوب واستقلالها"، ومنيت "بهزيمة معنوية سياسية"، وأعلن أن "أي تذرع بـ "الإرهاب الدولي"، الذي كان الاتحاد السوفييتي ولا يزال يتخذ موقفاً مبدئياً ضد أي شكل من أشكاله، لا يمكن أن يكون مبرراً لأعمال الولايات المتحدة" التي تمثل أعمالها "أسوأ مظهر للإرهاب، الإرهاب الرسمي". وانتقد غورباتشوف ظاهرة المديونية التي تعاني منها العديد من البلدان المتحررة و"التي أصبحت جزءاً من إجراءات الاستبداد الاستعماري الجديد المتفنن"، وتتسبب في "تفاقم القضايا الملتهبة، مثل التخلف والبؤس والمجاعة والأمراض والنسبة الفظيعة لوفيات الأطفال"، مؤكداً أن هدف الاتحاد السوفييتي هو "نزع التسلح من أجل التنمية"، إذ إن كل خطوة في طريق نزع السلاح "ستسمح بتوفير أموال للتخلص من التخلف، بما في ذلك تخلف البلدان الأفريقية طبعا". وهاجم سياسة التدخل والعدوان التي تنتهجها جمهورية جنوب أفريقيا العنصرية بتأييد من الولايات المتحدة الأميركية تجاه أنغولا، معرباً عن تضامن الاتحاد السوفييتي مع نضال الشعب الأنغولي، وداعياً إلى منح ناميبيا استقلالها بلا تأجيل، والقضاء على نظام الأبارتهيد اللاإنساني.

أهم  المصادر:

- إيلنشتاين، جان (Elleinstein, Jean )، من روسيا إلى أخرى: حياة وموت الاتحاد السوفييتي، باريس،  المنشورات الاجتماعية، 1992.

- دبريتو ج . ب ( Depretto J. P. ) (تحت إشراف)، سلطات ومجتمعات في الاتحاد السوفييتي، باريس، لاتولييه، 2002.

- دُولين، سابين (Dullin, Sabine )، تاريخ الاتحاد  السوفييتي، الطبعة الثالثة، باريس لا ديكوفيرت، 2009.

- رياسانوفسكي، نيكولا ف. ( Riasanovsky, Nicholas V. )، تاريخ روسيا من الأصول إلى أيامنا هذه، الطبعة الثانية، باريس، منشورات روبير لافون، 1994.

- سابير، جاك ( Sapir,Jacques )، عودة إلى الاتحاد السوفييتي: اقتصاد، مجتمع، تاريخ، باريس، لارماتان، 1997.

- شوفييه، ج. م (  Chauvier, J. M ) الاتحاد السوفييتي: مجتمع في طور الحركة، باريس، لوب، 1988.

- غرازيوسي، أندريا ( Graziosi, Andrea )، تاريخ الاتحاد السوفييتي، باريس، المنشورات الجامعية في فرنسا، 2010.

- غورباتشوف، ميخائيل، خطب ومقالات مختارة، موسكو، دار التقدم، 1987.

- كارير دانكوس، إيلين (Carrère d’Encausse, Hélène )، مجد الأمم أو نهاية الإمبراطورية السوفيتية، باريس، فايار، 1999.

- لوكونت، برنار (Lecomte, Bernard )، غورباتشوف، باريس، بيران، 2014.

- ليفيسك، ج ( Lévesque, J )، الاتحاد السوفييتي وسياسته الدولية من لينين إلى غورباتشوف، باريس، آرمان كولان، 1987 .

- ليفين، م (  Lewin, M)، القرن السوفييتي، باريس، فايار، 2003 .

- ويرث، نيكولا ( Werth, Nicolas )، تاريخ الاتحاد السوفييتي، من الإمبراطورية الروسية إلى رابطة الدول المستقلة (1900-1991)، باريس، المنشورات الجامعية في فرنسا، 2012.

ملاحظة من المحرر: أنظر لسلسلة الحلقات في ملفات خاصة بالموقع