الذكرى المئوية لثورة أكتوبر (الحلقة 11 والأخيرة) غورباتشوف وسيرورة تفكك الاتحاد السوفييتي وانهياره - د. ماهر الشريف

2018-04-09

الذكرى المئوية لثورة أكتوبر (الحلقة الحادية عشرة - الأخيرة)

غورباتشوف وسيرورة تفكك الاتحاد السوفييتي وانهياره

د. ماهر الشريف

ابتداءً من مطلع سنة 1988، صار الاتحاد السوفييتي يواجه مشكلات عديدة، اقتصادية وسياسية وقومية، راحت تتفاقم مع الوقت وتسببت، في نهاية المطاف، في تفككه وانهياره.

تفاقم الأزمة الاقتصادية

فعلى الصعيد الاقتصادي، بدأت الأسواق تعاني من شح المواد الاستهلاكية، الأمر الذي دفع الحكومة السوفيتية إلى اتخاذ قرار، في خريف 1988، بتقنين بيع الزبدة واللحوم والسكر في جميع  مناطق الاتحاد السوفييتي تقريباً، واضطرت الحكومة إلى توزيع بطاقات تموين على المواطنين لتمكينهم من الحصول على بعض المواد. ومن ناحية أخرى، كان محصول سنة 1988 الزراعي سيئاً، وبلغ العجز في الميزانية  نحو 35 مليار روبل. وفي 12 تشرين الأول 1988، عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي اجتماعاً مخصصاً لمناقشة مسائل الزراعة، تقرر فيه السماح لمجموعات المزارعين  باستئجار الأراضي من الدولة على أساس عقود  تمتد لفترات طويلة تصل إلى 50 عاماً. وتفاقمت الأزمة الاقتصادية التي عانت منها البلاد تفاقماً كبيراً في صيف سنة 1989، فإلى جانب فقدان البضائع من الأسواق، برزت أزمة السكن بحدة، وأزمة وسائل النقل، وبلغ  التضخم نحو 10 في المئة، وتراجع معدل النمو الصناعي حتى بلغ الصفر، بينما وصل عجز الميزانية إلى نحو  100 مليار روبل جراء تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية  وتضاؤل قيمة الضرائب المستوفاة على المشروبات الكحولية، وهو ما يعادل 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وصارت البلاد تواجه  حالة ركود اقتصادي.

ولم تنفع الإصلاحات الاقتصادية التي أقرت في الحد من عمق هذه الأزمة. فالإجراء الذي طمح غورباتشوف إلى تبنيه والقاضي بإغلاق المؤسسات الإنتاجية ضعيفة المردود، التي تستمر في دفع أجور عمالها الذين لا يعملون، كان سيعني التسبب في خلق ملايين العاطلين عن العمل الذين سيسرحون من دون الحصول على تعويضات. وكان  التوجه نحو إصلاح نسق تحديد الأسعار، بحيث تقترب من حقيقتها في السوق، سيؤدي إلى حدوث مضاربات، وإلى تغييب متعمد للبضائع من المخازن وتشكّل طوابير طويلة من الزبائن أمام مراكز البيع. أما سياسة إعادة إحياء الاستثمار الفردي في الريف، فقد عرقلتها مزارع الدولة التي بقيت  تتحكم في سيرورة العملية الإنتاجية وفي ملكية الأرض، كما لم تحقق عقود تأجير الأراضي من جانب الدولة للمزارعين الآمال التي انعقدت عليها. وفي 23 شباط 1989، أعلن غورباتشوف في خطاب ألقاه  في مدينة  كييف: "إن أي عقيدة، وأي نموذج، لا يجب أن يكبحا العمل من أجل حل المسألة الغذائية. ولحل هذه المسألة، لا بدّ من اللجوء إلى جميع الوسائل الفعالة. أما العوائق الإدارية التي توضع، ومحاولات إخفاء العجز بالإشارة إلى المبادئ الاشتراكية، فهي ببساطة لم تعد مقبولة".

والواقع أن قطاعاً كبيراً من المواطنين عبّر عن معارضته الإصلاحات الاقتصادية التي تصب في تشجيع  اقتصاد السوق، وخصوصاً بعد أن صار يشعر بأن مستوى معيشته يتراجع عن ذي قبل، وهو الذي اعتاد على حياة رخيصة، إذ ظل سعر تذكرة المترو ثابتاً منذ سنة 1945، كما لم يتغيّر  سعر الخبز منذ سنة 1954. وتعبيراً عن هذه المعارضة، راحت تبرز حركة عمالية مستقلة عن النقابات الرسمية، تلجأ إلى سلاح الإضراب غير المعهود في الاتحاد السوفييتي. ففي 10 تموز 1989، وقع إضراب في أحد مراكز إنتاج الفحم في كوزباس، في سيبيريا الغربية، شارك فيه آلاف عمال المناجم، ونجحوا في دفع زملائهم في مراكز أخرى إلى المشاركة في الإضراب، وشكلوا لجاناً عمالية سيطرت على عدة مدن في كوزباس ودونباس. واستمرت الإضرابات نحو أسبوعين، وبلغ عدد المضربين نحو 180000، وتمثلت مطالبهم في تأمين ملابس دافئة لهم  في الشتاء، وتزويدهم باللحم أثناء الطعام، و 800 غرام من الصابون في الشهر، ومنشفة لكل عامل. وحظي الإضراب بدعم واسع من المواطنين.

اشتداد الصراع حول البيروسترويكا

في 13 آذار 1988، وبينما كان غورباتشوف يقوم بزيارة إلى يوغوسلافيا، نشرت صحيفة "سوفيتسكيا روسيا" رسالة مرسلة من نينيا أندرييفا، أستاذة الكيمياء في معهد التكنولوجيا في مدينة ليننغراد، بعنوان: "لا يمكنني التخلي عن مبادئي"، دافعت فيها عن ستالين والستالينية وهاجمت الذين "يزورون التاريخ السوفييتي"، معتبرة "أن تجميع الأراضي وتشريكها، والتصنيع والثورة الثقافية سمحت للاتحاد السوفييتي بأن يتحوّل إلى قوة عظمى"، كما هاجمت "الليبراليين" الذين "يتخلون عن صراع الطبقات ويشيدون بتفوق الرأسمالية على الاشتراكية". ولاقت هذه الرسالة انتشاراً واسعا، وأعادت نشرها نحو ثلاثين صحيفة محلية. وفي 5 نيسان 1988، نشرت صحيفة "البرافدا" المركزية  رداً من دون توقيع على تلك  الرسالة، نُسب إلى عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي ألكسندر ياكوفليف، يصفها بأنها "أساس إيديولوجي للقوى المناهضة للبيروسترويكا". ومنذ ذلك السجال الحامي، اندلعت الحرب في الصحف ووسائل الإعلام السوفيتية بين مؤيدي البيروسترويكا ومعارضيها.

في 14 حزيران 1988، أعاد الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي الاعتبار إلى كلٍ من زينوفييف وكامنييف وراديك وغيرهم  من قادة الحزب التاريخيين، ضحايا محاكمات موسكو في الثلاثينيات.

وكان قد أعيد الاعتبار قبل ذلك إلى بوخارين. وفي 28 حزيران 1988، وقف غورباتشوف أمام مندوبي الكونفرانس الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، وإلى يساره أندريه غروميكو رئيس مجلس السوفييت الأعلى وإلى يمينه إيغور ليغاتشيف، وألقى خطاباً مطولاً نُقل مباشرة عبر محطات التلفاز استهله بالقول: "أيها الرفاق، كيف نعمق البيروسترويكا الثورية التي انطلقت في بلادنا بمبادرة من الحزب الشيوعي وتحت قيادته ونجعلها سيرورة لا رجعة فيها، هذا هو السؤال الأساسي المطروح علينا؟". وقدم غورباتشوف عشر "أطروحات" بشأن إصلاح النظام السياسي، تقترح أن يتخلى الحزب الشيوعي عن إدارة الاقتصاد وأن يقتصر دوره على المجال السياسي، وأن تصبح  الدولة السوفيتية "دولة قانون"، وأن تتعزز الديمقراطية الداخلية في صفوف الحزب الشيوعي وهيئاته. وفي أيلول 1988، حدثت تغييرات على مستوى القيادة الحزبية، فَقَدَ إيغور ليغاتشيف بنتيجتها موقعه بصفته الرجل الثاني في هذه القيادة، واختير لترؤس واحدة من ست لجان تتبع اللجنة المركزية للحزب هي لجنة الزراعة، كما  فقد أربعة من أعضاء المكتب السياسي للحزب مناصبهم، كان من ضمنهم أندريه غروميكو، وتسلّم  الجنرال كريوتشكوف رئاسة جهاز أمن الدولة (الـ كي.جي.بي)، وأصبح فاديم ميدفيديف رئيس أكاديمية العلوم الاجتماعية، وأحد أقرب معاوني غورباتشوف، عضواً احتياطياً في المكتب السياسي، كما انتخبت  ألكسندرا بيريوكوفا عضواً احتياطياً في المكتب السياسي.

وشهد اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، الذي عقد في 24 و 25 نيسان 1989، نقاشات حامية بين ممثلي التيارات المختلفة داخله. فغورباتشوف رسم صورة  سيئة لأوضاع البلاد الاقتصادية،  ولمح إلى أن البيروسترويكا التي أطلقها  الحزب الشيوعي راحت تتحوّل ضده، وقال: "إن عدداً كبيراً من كوادرنا ليسوا مهيئين لتطور السيرورة الديمقراطية، بينما نرى أن المجتمع السوفييتي بأسره يتحرك"، وأضاف: "ينبغي على الحزب الشيوعي أن يتواصل ويتحاور مع جميع قوى المجتمع". وعبّر ممثلو التيار"المحافظ" عن قلقهم من اتجاه سير الأحداث. وخلال ذلك  الاجتماع، تقدم 74 عضواً عاملاً و 24 عضواً احتياطياً و 14 عضواً من أعضاء لجنة الرقابة المركزية باستقالاتهم، لأنهم أقيلوا من وظائفهم وأحيلوا إلى التقاعد. وباتت اللجنة المركزية مكوّنة من 251 عضواً عاملاً، بعد تحوّل 24 عضواً احتياطياً من أعضائها  إلى أعضاء عاملين.

خطوات على طريق "إصلاح" النظام السياسي  

أقر الكونفرانس الحزبي الوطني التاسع عشر، الذي عقد في حزيران 1988، إصلاحاً دستورياً يقضي بإقامة نظام تمثيلي من مستويين: "مؤتمر نواب الشعب"، وفي إطاره "مجلس السوفييت الأعلى"، وخلق منصب رئيس الدولة. وقد تشكّل مؤتمر نواب الشعب من 2250 مندوباً منتخباً لمدة خمس سنوات، على قاعدة نظام انتخابي تم تبنيه في 1 كانون الأول 1988، بحيث يُنتخب ثلث عدد النواب، أي 750 نائباً، من جانب الحزب الشيوعي والمنظمات الاجتماعية المرتبطة به، وثلث عدد النواب  من جانب الجمهوريات الاتحادية والجمهوريات والأقاليم ذات الحكم الذاتي، ويوزع ثلث عدد النواب الأخير على دوائر انتخابية يترشح إليها ممثلو جماعات العاملين. ثم  يقوم "مؤتمر نواب الشعب" بانتخاب مجلس السوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي  بالاقتراع السري، على أن يتكوّن هذا المجلس من 544  عضواً، وينتخب رئيساً  للبلاد  يتمتع بصلاحيات واسعة، وهو المنصب الذي فاز به ميخائيل غورباتشوف في 15 آذار 1990.

وكانت انتخابات "مؤتمر نواب الشعب" جرت في 26 آذار 1989، فحصل "المحافظون" فيها  على نسبة كبيرة من الأصوات، نظراً لسيطرتهم على الجهاز الحزبي وغياب منافسين جديين لهم. أما  في الأماكن التي شهدت تعددية حقيقية وحملة انتخابية جدية، فكانت حظوظ مرشحي "المحافظين" ضعيفة. وكان الحدث الأبرز، في تلك الانتخابات، فوز بوريس يلتسين في موسكو بنسبة 6، 89  في المئة من الأصوات، وهو فوز سيفتح له طريق تسلّم السلطة في روسيا  بعد فترة قصيرة. وفاز "القوميون" بنسب كبيرة في دول البلطيق الثلاث ومناطق القفقاس. وفي 21 أيار 1989، شارك في موسكو أكثر من 100 ألف شخص في تجمع  كي  يستمعوا إلى كلمات النواب "الإصلاحيين" المنتخبين  من موسكو ومن دول البلطيق ومن القفقاس ومن ممثلي الجمعيات غير الرسمية، كان  في عدادهم  أندريه سخاروف وبوريس يلتسين. ثم قرر النواب "الإصلاحيون"، في 29 تموز 1989،  تشكيل كتلة سياسية عابرة للأقاليم،  ضمت 316 نائباً من أعضاء "مؤتمر نواب الشعب"، واختاروا خمسة رؤساء مشاركين لها، من ضمنهم بوريس يلتسين، وأندريه ساخاروف. وصار غورباتشوف يستخدم  هذه الكتلة كأداة ضغط  على النواب "المحافظين"، بينما صار يلجأ إلى "المحافظين" لكبح جماح الحركات القومية في الجمهوريات الاتحادية والحؤول دون نجاح "الإصلاحيين" في تمرير قرارات راديكالية جداً.

وفي إطار النقاشات التي صارت تدور حول إصلاح النظام الإصلاح السياسي، طُرحت مسألة الدور القيادي للحزب الشيوعي في الدولة والمجتمع على بساط البحث، وهو الدور الذي تضمنه المادة السادسة من الدستور السوفييتي. وفي 23 أيلول 1989، نظّم "الإصلاحيون" بزعامة يلتسين  اجتماعاً حاشداً في موسكو، طالبوا فيه بإلغاء هذه المادة وتشريع  نظام التعددية السياسية. وفي ليتوانيا، تبنى زعماء الحزب الشيوعي المحلي نظاماً داخلياً مختلفاً عن النظام الداخلي للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، وقرر البرلمان الليتواني، في 7 كانون الأول 1989، عدم الالتزام بالمادة السادسة في الدستور.

وشجعت هذه المناخات السياسية بروز عشرات آلاف الشبكات والجمعيات "غير الرسمية" في المجتمع، فبرزت  جمعيات تطالب بإقرار التعددية والسماح بتشكيل الأحزاب السياسية، مثل "الاتحاد الديمقراطي" في موسكو ولينينغراد الذي ضم عدداً من قدامى "المنشقين"، كما برزت  جمعيات كثيرة للدفاع عن التراث الثقافي الروسي أو  للدفاع  عن البيئة، وبرزت جمعيات صارت تتطبع مع الوقت بطابع سياسي، مثل "باميات" التي ظهرت كمنظمة أدبية وتاريخية ثم صارت تدافع عن النزعة القومية الروسية، وحظيت بدعم "القوميين الروس" داخل جهاز الحزب الشيوعي الذين كان لديهم حنين إلى عظمة روسيا وكانوا غالباً من "الستالينيين الجدد"، كما راحت تظهر الجبهات الشعبية ذات الطابع القومي في الجمهوريات الاتحادية.

تفاقم المشكلات القومية

في شباط  1988، اتخذت المسألة القومية، التي أنكر غورباتشوف وجودها أو قلل من شأنها، أبعاداً خطيرة لدى انفجار نزاع دموي في القفقاس بين جمهوريتَي أذربيجان وأرمينيا الاتحاديتين حول إقليم "ناغورني كاراباخ" ذي الحكم الذاتي، إذ طالبت أرمينيا بضم هذا الإقليم، الذي أُلحق منذ سنة 1923 بأذربيجان، نظراً لكون نسبة كبيرة من سكانه من الأرمن. وفي 20 شباط، صوّت 110 مندوبين في مجلس سوفييت الإقليم لصالح الانضمام إلى أرمينيا. ولم يتدخل غورباتشوف سوى في 26 شباط، مطالباً الطرفين بوقف الاقتتال الذي اندلع بينهما وواعداً بتشكيل لجنة تحقيق. وفي 28 شباط، وقعت أعمال عنف ضد الأرمن في أذربيجان، سقط خلالها عشرات القتلى. وبعد تفاقم الأوضاع في شهر آذار، اتخذ المكتب السياسي للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي قراراً بفصل سكرتيرتي الحزبين الشيوعيين في الجمهوريتين. وما بين 9 و 10 أيلول 1988، تظاهر أكثر من 100000 أرمني في مدينة يريفان عاصمة جمهورية أرمينيا مطالبين بضم "ناغورني كاراباخ" إلى جمهوريتهم. وفي 13 كانون الثاني 1990، نزل الأذريون إلى مركز مدينة باكو  عاصمة جمهورية أذربيجان وارتكبوا أعمال عنف ضد السكان الأرمن، كانت حصيلتها 90 قتيلاً ومئات الجرحى، وسقط  في اليوم التالي المزيد من القتلى، ما دفع غورباتشوف إلى فرض حالة الطوارئ على المنطقة، وإلى إصدار أمر، في 20 كانون الثاني، بإرسال وحدات من الجيش السوفييتي لمساعدة القوات المحلية  على ضمان عودة الاستقرار، الأمر الذي  أدى إلى سقوط مئات القتلى والجرحى بين المتظاهرين الأذريين وإلى تنامي تطلعاتهم القومية الاستقلالية وتصاعد مشاعر عدائهم للروس، التي غذاها شعورهم بأن موسكو تتعاطف مع أرمينيا بسبب عامل التضامن الثقافي بينهما.  وإذا كان تخوف الأرمن من غزو الأذريين المنظّم لإقليم "ناغورني كاراباخ" وسعيهم إلى قطع صلاته بأرمينيا قد أثار  مشاعرهم القومية، فإن هذه المشاعر أججتها في جمهورية أرمينيا الأوضاع البيئية القاسية، التي جعلت عاصمتها يريفان من أكثر المدن السوفيتية تلوثاً، فضلاً عن الزلزال الذي وقع في أرمينيا وأدى إلى مقتل عشرات الآلاف من السكان وإلى فقدان ما يقرب من نصف مليون مواطن  مساكنهم.

ولم تنتشر النزعات القومية في أذربيجان وأرمينيا فحسب، بل طاولت كذلك  الجمهوريات الاتحادية كافة والجماعات الاتنية التي تتمتع بالحكم الذاتي داخل هذه الجمهوريات. ففي مطلع حزيران 1989، وقعت معارك بين الأوزبيك والأتراك المسخيت، الذين كانوا يعيشون في جورجيا  قبل أن يرحّلهم جوزيف ستالين قسراً، في سنة 1944، إلى وادي فرغانة على الحدود مع أوزبكستان، سقط خلالها مئات القتلى. وبعد وقت قصير، اندلعت اضطرابات خطيرة في كازاخستان التي كانت، على مدى عقود من السنين، أرضاً للاستيطان الروسي بوجه خاص، والسلافي بوجه عام، ما جعل الكازاخيين يشعرون بأنهم سيصبحون أقلية في جمهوريتهم. وعلى الرغم من تمتعها بموارد كبيرة، بقي اقتصاد كازاخستان يعتمد، نتيجة نظام التخصص، على زارعة القطن بصورة رئيسية، ما أبقاها من أفقر جمهوريات الاتحاد إلى جانب طاجكستان وتركمانيا. 

وشهدت جمهورية جورجيا الاتحادية، خلال سنة 1989، اندلاع نزاعات قومية عديدة، كما شهدت، في تموز من ذلك العام، تشكّل جبهة شعبية قومية مناهضة للأقليات القومية القاطنة ضمن حدود الجمهورية. وكان الجيش قمع بصورة دموية، في 9 نيسان 1989،  تظاهرة قومية حاشدة في مدينة تبليسي عاصمة جمهورية  جورجيا، ما تسبب في سقوط عشرين قتيلاً وما يقرب من مئتي جريح.

وقد حمّل إدوارد  شيفارنادزه مسؤولية إعطاء الأمر بإطلاق النار على المتظاهرين إلى  قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي، التي قررت تشكيل لجنة برئاسة النائب أناتولي سوبتشاك، الذي سيصبح رئيساً بلدية لينينغراد، للتحقيق في الأمر. وكمن النزاع القومي بين الجورجيين والأبخازيين وراء اندلاع تلك التظاهرة؛ فالأبخازيون في جمهورية أبخازيا ذات الحكم الذاتي، التابعة لجمهورية جورجيا الاتحادية، صاروا يشتكون، أكثر فأكثر، من أنهم يتحوّلون إلى أقلية في جمهوريتهم التي تتعرض لغزو الجورجيين ويطالبون بالانفصال عن جورجيا والانضمام إلى جمهورية روسيا الاتحادية. وفي سنة 1989 نفسها، اندلع نزاع آخر بين الجورجيين وسكان إقليم  أوسيتيا الجنوبية ذي الحكم الذاتي، الواقع ضمن حدود جمهورية جورجيا الاتحادية، وذلك بعد أن تمّ تأسيس جبهة شعبية قومية في أوسيتيا الجنوبية في سنة 1988، صارت تطالب برفع  تمثيل الإقليم إلى "جمهورية ذاتية الحكم"، ثم أعلنت في سنة 1990، بعد ان رُفض طلبها، قيام "جمهورية أوسيتيا الجنوبية الديمقراطية" كاملة السيادة داخل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، الأمر الذي تسبب في نشوب صراعات عنيفة بين الجانبين، دفعت القيادة السوفيتية إلى إرسال قوات إلى المنطقة، حتى صارت  تسخينفالي، المدينة الرئيسية في الإقليم، منقسمة إلى ثلاثة أقسام، يخضع الأول منها للميليشيا الأوسيتية المحلية، ويخضع الثاني للقوى القومية الجيورجية، بينما يخضع  الثالث للجيش السوفييتي.

وفي جمهورية مولدافيا، تشكلت في حزيران 1988 حركة ديمقراطية لنصرة البيروسترويكا، طالبت بأن تكون اللغة الرومانية هي لغة الدولة، وطرحت المشكلة الحدودية مع جمهورية  أوكرانيا التي كانت قد ألحقت بها بعض الأراضي المولدافية. وفي مقابل هذه الحركة الديمقراطية، تشكلت من الروس المقيمين  في مولدافيا جبهة أممية عارضت التخلي عن اللغة الروسية والأبجدية السيريلية.

وفي 19 تشرين الأول 1988، تشكلت جبهة شعبية في روسيا البيضاء، ركّزت على قضية حماية البيئة بعد مأساة تشرنوبيل. كما تعززت  في القسم الغربي من أوكرانيا، ذي الغالبية الكاثوليكية، التيارات القومية وتشكّلت فيه، في أيلول 1989، جبهة شعبية للدفاع عن  البيروسترويكا وحماية البيئة وضمان حق المواطنين في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية، بينما كان قسم أوكرانيا الشرقي مهد الحضارة الروسية.

بيد أن المشاعر القومية، وما تنطوي عليه من نزعات استقلالية وانفصالية، بلغت ذروتها في دول البلطيق الثلاث. فخلال الأسابيع التي سبقت انعقاد الكونفرنس الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، في حزيران 1988، شهدت دول البلطيق الثلاث نهضة قومية مثيرة. فبعد قرار فصل سكرتير الحزب الشيوعي في جمهورية أستونيا من منصبه، الذي اتُخذ في 16 حزيران، عقدت سلسلة اجتماعات ضمت عدداً كبيراً من المثقفين في عاصمة الجمهورية "تالين"، تبنت بيانات مناهضة  لسياسات المركز في موسكو، وتشكّلت جبهة شعبية، اعترف بها رسمياً، فكانت أول تجمع سياسي يتكوّن من قوى غير شيوعية ويُعترف به في الاتحاد السوفييتي. وفي 11 أيلول 1988، تظاهر نحو 300000 أستوني في مدينة  "تالين" بمشاركة  سكرتير الحزب الشيوعي الأستوني الجديد، الذي استمع إلى انتقادات حادة وجهتها إليه قيادة الجبهة الشعبية. أما في جمهورية لاتفيا، فقد طالب اتحاد الكتاب بإقامة "دولة قومية تتمع بالسيادة في إطار الاتحاد السوفييتي"، وتشكّلت جبهة شعبية عقدت  مؤتمرها الأول في نهاية الأسبوع الأخير من أيلول 1988، وأطلقت نداء يدعو إلى ضمان سيادة جمهورية لاتفيا  الكاملة. كما تشكّلت جبهة شعبية في جمهورية ليتوانيا، ردّ عليها مواطنو الجمهورية من ذوي الأصول الروسية بتشكيل "جبهة عمال ليتوانيا الأممية".

وقد  تشكلت الجبهات الشعبية في الجمهوريات الاتحادية بمباركة ميخائيل غورباتشوف ورفاقه، الذين كان هدفهم تعزيز مشاركة المجتمع المدني في النضال من أجل البيروسترويكا، وتجاوز هيئات الحزب الشيوعي التي اتخذت مواقف متحفظة إزاء السياسة الجديدة. وعلى الرغم من تفاوت برامج هذه الجبهات الشعبية من جمهورية اتحادية إلى أخرى، فإنها تشاركت في نقاط عديدة: الحد من سلطة المركز، وتغليب قوانين الجمهورية على القوانين السوفيتية، وتعزيز السيادة  وإحياء اللغات القومية وفرضها كلغات أولى. وفي دول البلطيق الثلاث، سعت الجبهات الشعبية إلى أن تفرض على موسكو الاعتراف بوجود بنود سرية في المعاهدة  السوفييتية-الألمانية، في آب 1939، سمحت بإلحاق هذه الجمهوريات بالاتحاد السوفييتي. وفي يوم الذكرى الخمسين لهذه المعاهدة، في 23 آب 1989، تشكلت سلسلة بشرية ربطت عواصم الجمهوريات الثلاث، تالين وريغا وفيلنوس، على امتداد نحو 600 كيلومتر وبمشاركة أكثر من  مليوني شخص.

وحاولت قيادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي أن تكبح المطالب الاستقلالية في الجمهوريات الاتحادية. فطرح مشروع الدستور الجديد، الذي نُشر في خريف سنة  1988،  إمكانية الانفصال، لكن بشروط معينة. وكان عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي، ألكسندر ياكوفليف، قد تبنى في مقابلة أجريت معه فكرة إقامة شكل جديد من الاتحاد، لكنه رفض بشدة إمكانية قيام جمهوريات البلطيق بصك نقود خاصة بها  أو يكون لها تمثيل دبلوماسي في الخارج. ولم يحد  مشروع الدستور الجديد من توجه  الجبهات الشعبية القومية الاستقلالي، إذ أعلنت جمهورية أستونيا، في مطلع سنة 1989، اعترافها باللغة الأستونية بصفتها اللغة الرسمية الأولى في الجمهورية، وحقها في رفض القوانين السوفيتية في حال انتهاكها سيادة الجمهورية، ثم  حذت ليتوانيا ولاتفيا حذوها. وفي أيار 1989، تبنى الليتوانيون قراراً يطالب باستقلال جمهوريتهم، وأعلنوا، في 22 آب 1989 عدم  شرعية ضم ليتوانيا إلى الاتحاد السوفييتي في سنة 1940. وفي مطلع كانون الأول 1989 ، كانت ليتوانيا الجمهورية  الأولى، من بين الجمهوريات الاتحادية، التي ألغت السلطة التي يتمتع بها الحزب الشيوعي، ثم أعلن الحزب الشيوعي الليتواني انفصاله عن الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، وأكد الاجتماع الموسع للجنته المركزية، في 20 شباط 1990، أن هدفه "هو إقامة دولة ليتوانيا المستقلة وضمان الاعتراف الدولي بها"، آملاً بأن يضمن له هذا  التوجه الحفاظ على وجوده وفوزه في الانتخابات للبرلمان المحلي التي ستجري في 4 آذار 1990. بيد أن الحركة الاستقلالية "ساجوديس" هي التي فازت  في انتخابات البرلمان الليتواني، الذي أعلن نوابه بالأغلبية الساحقة استقلال البلد في أول اجتماع لهم   في 11 آذار 1990.

وكان غورباتشوف قد رفض الدعوات الاستقلالية في ليتوانيا، وتوجّه إلى مدينة فيلنوس عاصمتها آملاً بأن يقنع زعماءها وسكانها  بالتخلي عن التوجه الاستقلالي، فاستقبله نحو 300000 شخص  وهم يهتفون: "حرية، حرية، ليتوانيا حرة"، ولم تسفر رحلته عن نتيجة، فقررت قيادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي خفض حجم صادرات النفط إلى ليتوانيا اعتباراً من منتصف نيسان 1990، الأمر الذي أجبر الجمهورية في 16 أيار 1990 على تجميد إعلان  الاستقلال وليس إلغاءه. وفي آذار 1991، صوت ثلاثة من أصل أربعة في كلٍ من جمهوريتَي لاتفيا واستونيا لصالح الاستقلال، بحيث أن عدداً كبيراً من الروس ومن المنتمين إلى قوميات أخرى صوّت كذلك لصالح الاستقلال إلى جانب السكان الأصليين.

السياسة الخارجية والتحولات داخل دول "معاهدة وارسو"

استمر الاتحاد السوفييتي، في مجال السياسة الخارجية، على نهجه الرامي إلى تخفيف حدة التوتر بين الشرق والغرب، من خلال التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية حول نزع السلاح وحل النزاعات الإقليمية بالطرق السلمية، كما تعمقت سياسته الهادفة إلى الحد من الدعم، المتعدد الأشكال، الذي كان يقدمه إلى البلدان المستقلة في "العالم الثالث". أما الجديد الذي طرأ على السياسة الخارجية السوفيتية في سنة 1989 فهو التزامها الحازم بمبدأ عدم التدخل إزاء التحوّلات التي صارت تشهدها بلدان "معاهدة وارسو".

ففي كانون الأول 1988، أعلن غورباتشوف، من على منصة هيئة الأمم المتحدة، خفض عديد القوات السوفيتية لتصل إلى 500000 شخص خلال عامين، وسحب قوات وعتاد من أوروبا الوسطى ومنغوليا. وفي كانون الأول 1989، قابل البابا بولس الثاني في روما، وعقد لقاء قمة مع  الرئيس الأميركي جورج بوش في مالطا أسفر عن إقرار بيان يعلن نهاية الحرب الباردة.

وكان غورباتشوفقد حاول، بعد بدء سحب القوات السوفيتية من أفغانستان، الذي انتهى في 15 شباط  1989،  أن يكون شريكاً للولايات المتحدة الأميركية في حل النزاعات الإقليمية الكبرى، وطمح إلى أن تكون هيئة الأمم المتحدة مركز هذه الشراكة. ثم  راح يستدعي العسكريين والمستشارين السوفييت من مناطق النزاعات الساخنة، كما في أثيوبيا أو كمبوديا، ويطالب القيادة الكوبية بأن تحذو حذوه. وبتشجيع منه، رعت هيئة الأمم المتحدة مفاوضات بغية التوصل إلى حل سياسي للنزاع في أنغولا.

وخلال حرب الخليج، التي أعقبت قيام العراق بغزو الكويت، صوت المندوب السوفييتي في مجلس الأمن لصالح قرار يشرّع  التدخل العسكري الدولي ضد العراق، أحد الحلفاء التاريخيين للاتحاد السوفييتي في الشرق الأوسط. ثم أعاد الاتحاد السوفييتي، عشية افتتاح مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل، وفتح أبواب هجرة المواطنين السوفييت اليهود إليها.

وفي بلدان "معاهدة وارسو"، ساند غورباتشوف التيارات "الإصلاحية" داخل الأحزاب الشيوعية الحاكمة في هذه البلدان، التي راحت تشهد في سنة 1989 تحوّلات دراماتيكية.  ففي بولونيا، وبعد الفوز الذي حققته نقابة "تضامن" المستقلة في الانتخابات التشريعية، وافق الجنرال ياروزلسكي في آب 1989 على تشكيل حكومة يترأسها شخص غير شيوعي. ومنذ كانون الأول 1988، تحادث غورباتشوف هاتفياً مع رئيس الوزراء البولوني وأعلمه أنه لن يكون هناك تدخل سوفييتي في بولونيا، وهذا ما مهد الطريق أمام عقد مؤتمر الطاولة المستديرة بين السلطة ونقابة "تضامن" للبحث عن حلول وسط بينهما .

أما في ألمانيا الديمقراطية، فقد راحت الأوضاع تتدهور منذ أواخر صيف 1989، عندما صار الآلاف من الألمان يلجأون إلى هنغاريا ومنها إلى النمسا، بعد أن أعلنت الحكومة الهنغارية، في 11 أيلول 1989، فتح حدودها مع النمسا. وبعد اندلاع  تظاهرات في مدن عديدة، حلّ "إيغون كرينز"، في 18 تشرين الأول 1989، محل "إيريك هونيكر" على رأس الحزب والدولة، وقرر، عقب التظاهرات التي جمعت نحو 500000 متظاهر في لايبزيغ وبرلين الشرقية، إزالة الحدود بين برلين الشرقية وبرلين الغربية. وبعد فترة قصيرة، انتخب شيوعي إصلاحي هو "هانس مودروف" محل "إيغون كرينز"، وفي 9 تشرين الثاني 1989، فكك المتظاهرون جدار برلين، وهو الحدث الذي كانت له تداعيات مباشرة  على دول "معاهدة وارسو" الأخرى. وفي كانون الأول 1989، استقالت قيادة الحزب الاشتراكي الألماني الموحد بكاملها، وباتت قضية وحدة ألمانيا مطروحة على بساط البحث. وفي آذار 1990، مهّد فوز الحزب الديمقراطي المسيحي في انتخابات ألمانيا الغربية الطريق أمام عملية توحيد الألمانيتين التي تكللت بالنجاح في نهاية ذلك العام. وفوجئ الزعماء السوفييت بسرعة إنجاز عملية التوحيد هذه، وحاولوا في بداية الأمر الحؤول دون انضمام ألمانيا الموحدة إلى حلف شمال الأطلسي ودعوا إلى تبينها الحياد على الطريقة الفنلندية، بيد أنهم رضخوا للأمر الواقع في 16 تموز 1990.

وفي 17 تشرين الثاني 1989، انطلقت "الثورة المخملية" في براغ، وتشكّل "المنتدى المدني" برئاسة الكاتب المسرحي "المنشق" فاتسلاف هافيل، وتأسست حكومة وفاق وطني برئاسة ماريان كالفا، وانتخب هافل،  في 29 كانون الأول 1989، رئيساً لجمهورية تشيكوسلوفاكيا. وفي 26 تشرين الثاني، فازت المعارضة في الانتخابات التي جرت في هنغاريا، وتشكلت حكومة غير شيوعية في ربيع 1990. وفي رومانيا، بدأت التظاهرات في مدينة تيميشورا، ثم انتقلت، في 21 كانون الأول 1989، إلى بوخارست حيث أطلق المتظاهرون هتافات ضد الرئيس نيكولاي تشاوتشيسكو، الذي اعتقل هو وزوجته، بعد محاولتهما الفرار، وأعدما بعد محاكمة صورية. وفي 10 تشرين الثاني 1989، أقيل تيودور جيفكوف من منصبه في بلغاريا، ووعد بيتر ملادينوف الذي حلّ محله بإجراء انتخابات وقرر إنهاء الدور القيادي للحزب الشيوعي البلغاري في الدولة والمجتمع.

ثم انطلقت عملية سحب القوات السوفيتية من دول أوروبا الشرقية، فانسحبت هذه القوات من تشيكوسلوفاكيا وهنغاريا في حزيران 1991، وتقرر أن تمتد عملية انسحابها من ألمانيا الشرقية إلى نهاية سنة 1994، على أن تمنح ألمانيا للاتحاد السوفييتي قرضاً بقيمة 18 مليار مارك لتسهيل العملية. وكان قد أعلن، في 25 شباط 1991، حل "حلف وارسو" الذي كانت معاهدته قد جددت لعشرين عاماً قبل سنوات.

 ولم يتدخل غورباتشوف ورفاقه في جميع هذه الأحداث، وهو الأمر الذي زاد من  هيبته على المسرح الدولي، في وقت كان نفوذه يتراجع داخل بلاده،، وبات وضعه صعباً، وهامش مناورته ضيقا.

1990: السنة التي سبقت الانهيار

يعتقد العديد  من المحللين السياسيين أن مصير الاتحاد السوفييتي حُسم في سنة 1990 عندما تفاقمت المشكلات السياسية والاقتصادية والقومية إلى حد جعل غورباتشوف وقيادة الحزب الشيوعي عاجزين كلياً عن إيجاد حلول لها.

فقد شهد اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، المنعقد ما بين 5 و 7 شباط 1990، مواجهة شديدة بين طروحات غورباتشوف وبين  طروحات من أطلق عليهم اسم "الستالينيين الجدد". ففي تقريره أمام الاجتماع، قدم غورباتشوف وثيقة سياسية تحضيراً لانعقاد المؤتمر الثامن  والعشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي تدعو  إلى بناء "اشتراكية ديمقراطية وإنسانية"، وتعتبر أن الحزب الشيوعي "لا يمكن أن يوجد في مجتمع في طور التجدد، ويضطلع بدوره القيادي" إلا عندما يكون "قوة معترف بها ديمقراطياً"، وهو ما يعني أن مكانته "لا يجب أن تُفرض بإجراء دستوري"، وذلك في إشارة إلى إمكانية التخلي عن المادة السادسة من الدستور. كما اعترف غورباتشوف في تقريره بالتعددية السياسية ونصح بتشريع نشاط أحزاب سياسية أخرى، شريطة احترامها "الدستور السوفييتي والنظام الاجتماعي الذي يضمنه الدستور". وبعد أن اقترح غورباتشوف أن ينعقد المؤتمر الحزبي في حزيران وليس في تشرين الأول، كرر القول إن الحزب الشيوعي "ينوي االنضال من أجل ضمان مكانته القيادية، ولكن في إطار سيرورة ديمقراطية عبر الدفاع عن برنامجه وبالتعاون مع قوى أخرى اجتماعية وسياسية" .

وعارض إيغور ليغاتشيف طروحات غورباتشوف هذه؛ فهو مع إقراره بالحاجة إلى البيروسترويكا، قدّر أن هذه العملية  أديرت بصورة سيئة جراء "تصاعد الحركات القومية الانفصالية والمناهضة للاشتراكية"، كما انتقد بشدة  مشروع توحيد ألمانيا و"ابتلاع ألمانيا الديمقراطية من جانب ألمانيا الاتحادية". أما مسؤول جهاز أمن الدولة (الـ كي.جي.بي) كريوتشكوف، الذي سيكون من مدبري انقلاب آب 1991، فقد انتقد بشدة الحركات الديمقراطية والقومية التي تريد، كما قال، "تدمير الاتحاد السوفييتي". بيد أن اجتماع اللجنة المركزية صادق، بتردد شديد، على طروحات غورباتشوف.

وكانت المطالبة بإلغاء المادة السادسة من الدستور قد تعاظمت على المستوى الشعبي ، وخصوصاً في جمهورية روسيا الاتحادية، التي شهدت، في 4 شباط  1990،  تظاهرة حاشدة في موسكو جمعت نحو 200000 شخص للمطالبة بإلغاء هذه المادة وعقد طاولة مستديرة بين الحزب الشيوعي والحركات الاجتماعية-السياسية المستقلة. وخلال دورته التي انعقدت في آذار 1990، قرر "مؤتمر نواب الشعب" إلغاء المادة السادسة من الدستور، وشرّع  تعدد الأحزاب السياسية، وسمح بوجود "تيارات" أو"بلاتفورمات سياسية" مختلفة  داخل الحزب الشيوعي. كما تمّ في تموز 1990 إنهاء سيطرة الحزب الشيوعي على الإذاعة والتفلزيون. وبتحوله إلى حزب غير حاكم، ضمن أحزاب عديدة، تراجعت عضوية الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي بخروج 800000 من أعضائه في سنة 1990 في مقابل 140000 في سنة 1989.    

وفي 26 أيار 1990، بدأ  مجلس السوفييت الأعلى في جمهورية روسيا الاتحادية دورة اجتماعات، انتخب فيها، بعد نقاشات طويلة وثلاث جولات انتخابية، بوريس يلتسين رئيساً للمجلس، في مواجهة إيفان بولوزكوف السكرتير الأول للحزب في كراسنودار. وفي الخطاب الذي ألقاه، بعد انتخابه، دعا يلتسين إلى استقالة حكومة نيكولاي ريجكوف ونهاية الدولة المركزية وإلغاء معظم الوزارات الاتحادية وإقامة كونفدرالية دول تتمتع بالسيادة. وفي 8 حزيران، أعلن البرلمان الروسي أولوية قوانينه على قوانين الاتحاد السوفييتي. ثم  شكّل يلتسين حكومة برئاسة سيلاييف، وأصدر في 13 تموز مرسوماً بتأسيس بنك دولة في الاتحاد الروسي، يمكّن الحكومة من التعامل النقدي مع الخارج. كما أصدر مرسوماً حول الصحافة سمح بإنشاء العديد من الصحف المستقلة. وكان استقلال الحزب الشيوعي الليتواني، قد حفز بعض القادة الروس على السعي إلى إحياء  تنظيم الحزب في جمهورية روسيا الاتحادية، الذي كان ستالين قد دمجه في سنة 1925 بالحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي.

وفي 18 حزيران 1990، افتتح  المؤتمر التأسيسي للحزب الشيوعي الروسي بمشاركة  2700  من المندوبين، وهاجم المندوبون "المحافظون" بشدة، على لسان الجنرال مكاشوف قائد منطقة الفولغا-الأورال العسكرية، سياسة غورباتشوف الخارجية، باعتبارها تهدد أمن الاتحاد السوفييتي، وانتخب المؤتمر أحد ممثلي "المحافظين" وهو إيفان بولازكوف  لمنصب سكرتير الحزب الشيوعي في روسيا.

وفي 2 تموز 1990، افتتح المؤتمر الثامن والعشرون للحزب الشيوعي في الاتحاد  السوفييتي، بمشاركة  4657 مندوباً استمعوا إلى تقرير من ثلاث ساعات قدمه غورباتشوف الذي تموضع في "الوسط" بين "المحافظين" أو "الستالينيين الجدد" و"الإصلاحيين". وفي خطابه امام المندوبين، انتقد إيغور ليغاتشيف بشدة طريقة إدارة البيرويسترويكا، بينما أعلن كلٌ من ألكسندر ياكوفليف وإدوارد شفارنادزه عزمهما على التخلي عن مسؤولياتهما القيادية داخل الحزب. أما بوريس يلتسين،  فأكد أن على الحزب الشيوعي أن يتحول إلى حزب مثل الأحزاب الأخرى، عبر تعزيز طابعه الديمقراطي، بحيث يكون حزباً للاشتراكية الديمقراطية مستقلاً عن السلطة، ودعا إلى إلغاء الخلايا الحزبية في الجيش وفي جهاز أمن الدولة. وفي نهاية المؤتمر حافظ غورباتشوف على منصبه كسكرتير عام للحزب، مع أن ثلث المندوبين تقريباً لم يصوّتوا له، وفاز على منافسه أحد عمال  المناجم من كوزباس. وفي خطوة استعراضية، أعلن يلتسين الانسحاب من عضوية الحزب الشيوعي، ومعه غابرييل بوبوف رئيس بلدية موسكو وأناتولي سوبتشاك رئيس بلدية لينينغراد، وهو ما مهّد الطريق أمام تأسيس حزب آخر غير الحزب الشيوعي، في 21 تشرين الأول 1990 ، حمل اسم  حركة "روسيا الديمقراطية" التي كانت ائتلافاً من نحو  خمسين مجموعة روسية، اقترحت أن ينتخب رئيس روسيا الاتحادية  بالاقتراع العام، وأن يكون يوم 7 تشرين الثاني "يوماً للمصالحة الوطنية ولتذكر ضحايا الإرهاب الستاليني".

وعلى الصعيد الاقتصادي، دعا غورباتشوف، غداة انتخابه في 15 آذار 1990 رئيساً للاتحاد السوفييتي، إلى "تجذير" الإصلاحات، من خلال خلق "سوق داخلي" والقضاء على النسق البيروقراطي، وإقامة نظام ضريبي حقيقي، ونزع الاحتكار عن الاقتصاد، وطرح مشروعا للإصلاح أمام مجلس السوفييت الأعلى من 17 نقطة أعده ليونيد أبالكين نائب رئيس الوزراء المسؤول عن الإصلاح الاقتصادي، الذي استلهم نهج "العلاج بالصدمة" الذي طُبّق في بولونيا، تضمن السماح بالملكية الفردية  وتوفير القدرة على تحويل الروبل، وإقامة شركات مساهمة، وتخصيص المساكن وضمان استقلالية التعاونيات. بيد أن نواب مجلس السوفييت الأعلى ظلوا يرجئون إقرار هذه الإصلاحات، في ظل تملل قطاعات شعبية واسعة، تخوفت من ارتفاع سعر الخبز، ومضاعفة سعر الكهرباء، وإغلاق آلاف المؤسسات الإنتاجية، وتفشي ظاهرة البطالة. وهو التململ الذي اكتشفه غورباتشوف  خلال مسيرة الأول من أيار 1990 في الساحة الحمراء، إذ اضطر هو ورفاقه  إلى مغادرة مكان الاحتفال وسط صيحات المشاركين: "ليسقط مستغلو الشعب! غورباتشوف عليك الاستقالة!".   

وفي 30 آب 1990، اقترحت خطة إصلاحات جديدة أعدتها لجنة مشتركة من جمهورية روسيا الاتحادية والاتحاد السوفييتي برئاسة الاقتصاديين بتراكوف وشاتالين، كان من المفترض أن يجري تطبيقها خلال 500 يوم وتقضي بتحرير الأسعار وإجراء تخصيص سريع للاقتصاد، بحيث يتمّ تخصيص 70 في المئة من الصناعة و 90 في المئة من تجارة المفرق. وبينما وافق غورباتشوف على  أن يبدأ الإصلاح الذي تدعو إليه هذه الخطة في 1 تشرين الأول 1990 ووعد بإجراء استفتاء حول الملكية الفردية للأرض، وأصرّ يلتسين على تطبيقها، رفض  رئيس  وزراء الاتحاد السوفييتي نيكولاي ريجكوف تبنيها وإقرارها، ما اضطر غورباتشوف، في نهاية المطاف، إلى التخلي عنها وتبنى خطة ريجكوف التي تقترح إصلاحات محدودة، الأمر الذي أدخله في صراع مفتوح مع يلتسين.

واعتباراً من خريف 1990، صار غورباتشوف يتشدد في سياسته جراء تخوفه من تفكك الاتحاد السوفييتي، في سياق نزاع محتدم مع برلمان روسيا برئاسة يلتسين، وتصاعد نضالات الحركات القومية في الجمهوريات الاتحادية. وفي 7 تشرين الثاني 1990، أشاد غورباتشوف، الذي كان قد استلم جائزة نوبل للسلام في 15 تشرين الأول 1990، أمام الجمهور المحتشد في الساحة الحمراء للاحتفال بذكرى الثورة "بأعظم ثورة في القرن العشرين"، لكنه لم يخفِ صعوبات الساعة و"دروس الماضي الفظيعة". وفي 13 تشرين الثاني، استقبل غورباتشوف ممثلي ألف ضابط سوفييتي أكدوا له ضرورة "حماية دولتنا الاتحادية الاشتراكية"، ورفض مقترح يلتسين بتشكيل حكومة وحدة وطنية. ثم اقترح، في 17 تشرين الثاني، إعادة تنظيم السلطة المركزية. وكان مؤتمر نواب الشعب  قد منحه خمسة عشر يوماً كي يقترح تنظيماً جديداً للسلطة المركزية.

وبينما اقترح غورباتشوف، في 23 تشرين الثاني 1990، على الجمهوريات الاتحادية  مشروع "اتحاد جمهوريات سوفيتية سيدة"، على أن يتم  تنظيم استفتاء شعبي حول مستقبل الاتحاد، توصلت روسيا إلى اتفاق تعاون مع أوكرانيا ثم مع كازاخستان مظهرة أن المركز لم يعد له قيمة. وفي 4 كانون الأول 1990، أقر مؤتمر نواب الشعب خطة الإصلاح الدستوري التي تقدم بها  غورباتشوف، بحيث يكون هناك منصب نائب لرئيس الاتحاد السوفييتي، اقترح غورباتشوف أن يشغله غينادي إياناييف، وهو الذي سيكون من قادة انقلاب آب 1991، كما صادق على تشكيل حكومة سوفيتية جديدة برئاسة فالنتين  بابلوف، الذي حل محل ريجكوف الذي أصيب بأزمة قلبية، تسلّم بوريس بوغو منصب وزير الداخلية فيها، وهو الذي سيكون أيضاً من قادة الانقلاب. وأمام هذه التطورات، التي بيّنت أن غورباتشوف صار يعتمد أكثر على "المحافظين" داخل الحزب، ألقى إدروارد شيفارنادزه، في 20 كانون الأول، خطاباً أمام المؤتمر أعلن فيه استقالته من منصب وزير الخارجية معرباً عن تخوفه  إزاء الخطر الوشيك لقيام ديكتاتورية في البلاد. بينما حمّل رئيس جهاز أمن الدولة كريوتشكوف، في خطابه، الغرب مسؤولية جميع المصاعب التي يواجهها الاتحاد السوفييتي.

1991: سنة تفكك الاتحاد السوفييتي وانهياره

في 13 كانون الثاني 1991، قامت وحدات من الجيش السوفييتي وبعض  الوحدات الخاصة التابعة لوزارة الداخلية  بمهاجمة الإذاعة والتلفزيون في مدينة فيلنوس، وحاولت اقتحام مقر البرلمان الليتواني، مخلفة 14 قتيلاً، وذلك بعد أن رفض زعماء ليتوانيا أن يطبق الجيش السوفييتي الخدمة العسكرية الإلزامية ضمن حدود الجمهورية. وعبر زعماء أستونيا ولاتفيا عن تضامنهم مع ليتوانيا، كما سافر بوريس يلتسين في الليلة نفسها إلى تالين، عاصمة أستونيا، وعقد اجتماعاً مع زعماء جمهوريات البلطيق الثلاث، أرسل بعده رسالة إلى مجلس الأمن الدولي. وكانت تلك الحادثة الشعرة الأخيرة التي انقطعت في العلاقة بين غورباتشوف وممثلي التيار "الإصلاحي". وبينما نظم الليتوانيون، بعد هذه الحادثة، استفتاء على الاستقلال شارك فيه 84 في المئة من السكان وحصل على تأييد 47، 90 في المئة من الأصوات، واصل يلتسين  مفاوضاته  مع  زعماء جمهوريات  أوكرانيا، وروسيا البيضاء، وكازاخستان بهدف إقامة فضاء اقتصادي وسياسي مشترك فيما بينها.

في 17 آذار 1991، جرى الاستفتاء حول مستقبل الاتحاد، بمشاركة تسع جمهوريات اتحادية، أضافت كل واحدة منها بنوداً خاصة بها على الاستفتاء، بينما رفضت ست جمهوريات هي: ليتوانيا، ولاتفيا، وأستونيا، ومولدافيا، وجورجيا وأرمينيا المشاركة في الاستفتاء، الذي وافق  76 في المئة من المشاركين فيه على  الحفاظ على اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية،.  وفي 23 نيسان 1991، عقد غورباتشوف اجتماعاً مع رؤساء الجمهوريات التسع التي شاركت في الاستفتاء، أصدروا في نهايته بياناً يؤكد ضرورة  إقرار معاهدة اتحادية جديدة، تمنح صلاحيات سيادية واسعة للجمهوريات المنضوية في إطارها. وفي جمهورية روسيا الاتحادية، كرّس الاستفتاء شعبية بوريس يلتسين، إذ أيّد  8، 69 في المئة من الناخبين الروس مقترحه بأن يتم انتخاب رئيس جمهورية روسيا الاتحادية بالاقتراع السري العام. كما استفاد يلتسين وأنصاره من النزاعات الاجتماعية التي وقعت  في ربيع سنة 1991، ومن موجة الإضرابات التي اندلعت  جراء رفع أسعار بعض المواد الاستهلاكية اعتباراً من 1 نيسان 1991، وساند المضربون، إلى جانب مطلبهم برفع الأجور، المطالب السياسية لمعسكر يلتسين، الذي انتخب بالاقتراع السري العام رئيساً لجمهورية روسيا الاتحادية في 12 حزيران 1991. وتسلّم يلتسين مهامه بصفته رئيساً لجمهورية روسيا الاتحادية في 10 تموز 1991، وحظي بمباركة البطريرك أليكسيس الثاني في حضور غورباتشوف. وفي 20  تموز، أصدر يلتسين مرسوماً  يمنع نشاط  خلايا الحزب الشيوعي في المؤسسات والإدارات العامة في جمهورية روسيا الاتحادية. وفي تلك الفترة، استقال إدوارد شيفارنادزه من الحزب الشيوعي ثم تبعه ألكسندر  ياكوفليلف.

أما غورباتشوف، فقد تمثّل نجاحه الوحيد، في تلك الفترة، في مشاركته البارزة في اجتماع الدول السبع الكبرى في لندن، ثم في لقاء القمة الذي عقده مع الرئيس الأميركي جورج بوش في موسكو في 30 و 31 تموز 1991، الذي تمت فيه المصادقة على اتفاقية "ستارت" التي كانت تناقش منذ سنة 1982، وتقضي بأن تنقص الرؤوس النووية الأميركية بنسبة 15 في المئة وتنقص الرؤوس النووية السوفيتية بنسبة 25 في المئة، ويكون هناك نظام رقابة عالي الدقة على الأسلحة النووية.

وغادر غورباتشوف موسكو ليقضي إجازته في القرم، حيث وصله خبر قيام حكومة روسيا الاتحادية، بتشجيع من بوريس يلتسين، بتطبيق خطة للانتقال إلى اقتصاد السوق خلال 500 يوم، واتخاذ إجراءات راديكالية لتطبيق ذلك، في الوقت الذي كانت فيه روسيا تشغل 76 في المئة من مساحة الاتحاد السوفييتي، وتنتج 90 في المئة من نفطه و 70 في المئة من غازه. وفي 17 آب 1991، استقبل غورباتشوف وزير الداخلية  بوغو، الذي طلب منه أن لا يوقع معاهدة الاتحاد، لكنه رفض تلبية طلبه، وصاغ في اليوم التالي خطابه بشأن توقيع معاهدة الاتحاد في 21  آب.  وبعد ظهر ذلك اليوم، طلب وفد يمثّل "لجنة الإنقاذ الوطني" مقابلته، وقام بتحذيره من مغبة توقيع معاهدة الاتحاد. وفي صبيحة يوم 19 آب، أعلن  تشكيل لجنة دولة  تشرف على حالة الطوارئ في البلاد، برئاسة نائب الرئيس إيناييف وعضوية رئيس الوزراء بابلوف، ووزير الدفاع الماريشال إيازوف، ومسؤول جهاز أمن الدولة كريوتشكوف، ووزير الداخلية بوغو وآخرين، صدر عنها بيان يزعم  أن غورباتشوف "عاجز لأسباب صحية عن القيام بمهامه"، في محاولة لتكرار سيناريو عزل نيكيتا خروتشوف. بيد أن تصرف الانقلابيين كان غريباً، إذ نشروا بضع عشرات من الدبابات فقط في موسكو، لكنهم لم يحتلوا المواقع الاستراتيجية في العاصمة، ولم يعتقلوا أي شخص من خصومهم، بل تركوا يلتسين وأنصاره يتوجهون إلى "البيت الأبيض" مقر البرلمان الروسي لتنظيم المقاومة، حيث ألقى  يلتسين نداء يدعو الشعب إلى العصيان المدني، وشيئاً فشيئاً، راح يتوجه عشرات الآلاف من سكان موسكو نحو "البيت الأبيض"، وانضم إليهم جنود وضباط الجيش. ومنذ 20 آب، برز بوضوح أن الانقلاب سيفشل، وخصوصا بعد أن انتقل التحرك الشعبي إلى مدينة لينينغراد، ورفضت وحدات عسكرية  ووحدات من جهاز أمن الدولة  تنفيذ أمر الهجوم على مقر البرلمان. وبسبب عزلتهم، صار الانقلابيون يبحثون عن مخرج، فاستقال بافلوف من منصبه في رئاسة الحكومة، وأعلن رئيس لجنة حالة الطوارئ أن غورباتشوف يمكنه القيام بمهامه ما أن تتحسن صحته. وفي 21 آب، سافر وفد من الانقلابيين، كان من ضمنهم إيازوف وكريوتشوف، إلى مقر استراحة غورباتشوف في القرم لإعلان الولاء له. بيد أنه تمّ  اعتقال الانقلابيين وجميع أعضاء لجنة الطوارئ، وانتحر وزير الداخلية بوغو في ظروف مريبة، كما قام  الماريشال أخرومييف بشنق نفسه بعد فترة، وانتحر مدير إدارة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي ن. كرتشينا بإلقاء  نفسه من النافذة، وفعل الشيء نفسه بعد أيام آخرون.

وفي ليلة 21-22 آب، حطت طائرة غورباتشوف في مطار موسكو، وألقى لدى نزوله منها كلمة قصيرة شكر فيها الشعب السوفييتي وبوريس يلتسين، الذين "تصدوا للرجعية" وحيا "هذا الانتصار الكبير للبيروسترويكا". ثم عقد مؤتمراً صحافياً اعترف فيه بمسؤوليته عن "اختيار أشخاص قاموا بخيانته"، واقترح "تحالفاً جديداً" مع بوريس يلتسين الذي لعب "دوراً رئيسياً" في تحريره، ثم دافع عن الحزب الشيوعي مؤكداً انه "لا يزال من الممكن إصلاحه". وما أن أنهى مؤتمره الصحافي حتى انطلقت تظاهرة في موسكو رفعت شعارات مناهضة للشيوعية. وفي 23 آب، توجه غورباتشوف إلى مبنى البرلمان الروسي المنعقد في جلسة استثنائية ليشكر شعب روسيا وزعماءها لدورهم في إفشال الانقلاب، فاستقبله النواب ببرودة ودارت مواجهة بينه وبين يلتسين، الذي اعتبر أن المتهم الرئيسي في تحضير الانقلاب هو "الحزب الشيوعي" الذي كان يشغل غورباتشوف منصب سكرتيره العام، واقترح أحد النواب، وسط تصفيق الحاضرين، حل الحزب الشيوعي، وخاطب يلتسين غورباتشوف قائلاً: "بغية تهدئة الأوضاع، أعلمك أنني سأوقع مرسوماً يمنع نشاط الحزب الشيوعي على الأرض الروسية"، فرد عليه غورباتشوف أن "ليس جميع أعضاء الحزب الشيوعي في روسيا دعموا الانقلابيين، وأن منع نشاط الحزب هو أمر خاطئ".

وبينما تراجعت مكانة غورباتشوف وانحسر تأييده إلى حد كبير، صار يلتسين يتمتع، غداة الانقلاب، بشرعيتين: الأولى أنه انتخب رئيساً بالاقتراع العام، والثانية أنه تصدى للانقلاب وأفشله. وبصفته رئيساً لجمهورية روسيا، أصبح قائداً أعلى للقوات المسلحة، وبات يمارس سلطته على الإدارات في الجمهورية، وحتى في المركز. فمنذ 21 آب، قام بتسريح مدير هيئة الإذاعة والتلفزيون ليونيد كرافتشينكو، ثم قام بتوقيع مرسوم أمام البرلمان الروسي يقضي بمنع نشاطات الحزب الشيوعي وتأميم ممتلكاته، كما أوقف صدور صحيفة البرافدا، وذلك على الرغم من تحفظات غورباتشوف. 

وفي 29 آب، صوت مجلس السوفييت الأعلى على قرار بوقف نشاطات الحزب الشيوعي في أراضي الاتحاد السوفييتي كافة. وكان غورباتشوف أعلن، منذ يوم 24 آب، استقالته من منصب الأمين العام للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، لكنه أمل في الحفاظ على منصبه الرئاسي، ودعا، في 26 آب، أمام مجلس السوفييت الأعلى، إلى الانتقال إلى اقتصاد السوق وتوقيع معاهدة اتحادية جديدة. بيد أن غورباتشوف كان قد أصبح من الماضي؛ فهو السكرتير العام السابق لحزب لم يعد قائماً بصورة رسمية، كما هو رئيس دولة اتحادية مفككة ومقطعة الأوصال، وخصوصاً بعد قيام الجمهوريات الاتحادية بإعلان استقلالها الكامل  في أعقاب الانقلاب الفاشل؛ ففي 24 آب، أعلنت أوكرانيا استقلالها، وذلك بعد ليتوانيا وجورجيا ولاتفيا في 20 آب، وأستونيا في 21 آب، وأرمينيا في 23 آب، ثم تبعتها روسيا البيضاء في 25 آب، ومولدافيا في 27 آب، وقرغيزيا في 31 آب.

بيد ان عملية  تصفية الاتحاد السوفييتي استغرقت بضعة أشهر. ففي 8 كانون الأول 1991، وقع رؤساء روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء  بيان إنهاء وجود الاتحاد السوفييتي، الذي ورد فيه: "إن الاتحاد السوفييتي كدولة معترف بها في القانون الدولي وحقيقة جغرافية لم يعد قائما"، وقرر الرؤساء  الثلاثة إقامة "رابطة الدول المستقلة" على أن يكون مركزها في مدينة مينسك. وفي 13 كانون الأول، انضم إلى هذه الرابطة رؤساء جمهوريات آسيا الوسطى الخمس. وكانت روسيا، وأوكرانيا وروسيا البيضاء، الدول السلافية الثلاث، تمثل 73 في المئة من سكان الاتحاد السوفييتي، و 85 في المئة من ناتجه المحلي الإجمالي. وفي 17 الشهر نفسه، اضطر غورباتشوف إلى الخضوع للأمر الواقع، واتفق مع يلتسين، على تصفية بنى الاتحاد السوفييتي قبل نهاية العام. وفي 21 الشهر نفسه، عقد في ألما اتا عاصمة كازاخستان اجتماع ضم رؤساء 11 جمهورية اتحادية، باستثناء جورجيا وجمهوريات البلطيق وفي غياب غورباتشوف، اتفقوا فيه على إنهاء وجودالاتحاد السوفييتي وتأسيس "رابطة الدول المستقلة". وفي 25 كانون الأول، اعلن غورباتشوف رسمياً استقالته من رئاسة الاتحاد السوفييتي، وتوجه إلى مواطنيه قائلاً: "أيها المواطنون الأعزاء.. نظراً إلى الوضع الناشيء مع تشكيل "رابطة  الدول المستقلة"، أضع نهاية لوظائفي كرئيس للاتحاد السوفييتي....إن خط القضاء على البلاد وتفكيك الدولة قد كسب، وهو ما لا أقبله ". وكان يلتسين قد أعلن، منذ 19 الشهر، أن روسيا ستتسلم مسؤولية الكرملين، ووزارة الخارجية، والسفارات السوفيتية في العالم، والوزارات المركزية  المختلفة في موسكو، وأنها اتفقت مع كلٍ من أوكرانيا وروسيا البيضاء وكازاخستان على أن تُنقل إليها الرؤوس النووية المننتشرة على أراضي هذه الجمهوريات الثلاث.  

أهم  المصادر:

- إيلنشتاين، جان (Elleinstein, Jean )، من روسيا إلى أخرى: حياة وموت الاتحاد السوفييتي، باريس،  المنشورات الاجتماعية، 1992.

- دبريتو ج . ب ( Depretto J. P. ) (تحت إشراف)، سلطات ومجتمعات في الاتحاد السوفييتي، باريس، لاتولييه، 2002.

- دُولين، سابين (Dullin, Sabine )، تاريخ الاتحاد  السوفييتي، الطبعة الثالثة، باريس لا ديكوفيرت، 2009.

- رياسانوفسكي، نيكولا ف. ( Riasanovsky, Nicholas V. )، تاريخ روسيا من الأصول إلى أيامنا هذه، الطبعة الثانية، باريس، منشورات روبير لافون، 1994.

- سابير، جاك ( Sapir,Jacques )، عودة إلى الاتحاد السوفييتي: اقتصاد، مجتمع، تاريخ، باريس، لارماتان، 1997.

- الشريف، ماهر، "باحثة وكتابان حول المسألة القومية ودورها في تفكيك الاتحاد السوفييتي"، صوت الوطن، نيقوسيا، العدد 31، السنة الثالثة، آذار 1991، ص 59-64 .

- شوفييه، ج. م (  Chauvier, J. M ) الاتحاد السوفييتي: مجتمع في طور الحركة، باريس، لوب، 1988.

- غرازيوسي، أندريا ( Graziosi, Andrea )، تاريخ الاتحاد السوفييتي، باريس، المنشورات الجامعية في فرنسا، 2010.

- غورباتشوف، ميخائيل، خطب ومقالات مختارة، موسكو، دار التقدم، 1987.

- كارير دانكوس، إيلين (Carrère d’Encausse, Hélène )، مجد الأمم أو نهاية الإمبراطورية السوفيتية، باريس، فايار، 1999.

- لوكونت، برنار (Lecomte, Bernard )، غورباتشوف، باريس، بيران، 2014.

- ليفيسك، ج ( Lévesque, J )، الاتحاد السوفييتي وسياسته الدولية من لينين إلى غورباتشوف، باريس، آرمان كولان، 1987 .

- ليفين، م (  Lewin, M)، القرن السوفييتي، باريس، فايار، 2003 .

- ويرث، نيكولا ( Werth, Nicolas )، تاريخ الاتحاد السوفييتي، من الإمبراطورية الروسية إلى رابطة الدول المستقلة (1900-1991)، باريس، المنشورات الجامعية في فرنسا، 2012.