فلسطين المتخيلة - الموطن الأصلي للتوراة
كتاب من تأليف الباحث العراقي المرموق فاضل الربيعي في جزأين
عرض وتقديم/ سعيد مضية
دخل ميدان الدراسات التوراتية باحث عربي جلود، أمضى أكثر من عقد وربما العقدين في تعلم لغة " التناخ "ونقد الترجمة إلى العربية عن الآرامية واليونانية، ثم وقع بين يديه صدفة كتاب رحلات إلى اليمن محقق ومدقق أتاح له إجراء مقارنة عانية ودقيقة مع نصوص التوراة ليتوصل أخيرا إلى أن النص القديم للتوراة، وهو ما يعرف بـ"التناخ" جرت أحداث حكاياته في مناطق جغرافية لا تنطبق بتاتا على جغرافية فلسطين؛ إنما تنطبق على منطقة السراة اليمنية. التوراة الأصلية أثر ثقافي عربي وُجد في جزيرة العرب لدى قبيلة حمير اليمنية، وهي مما أطلق عليه "العرب البائدة".
لكن الهجرة الى بلاد الشام على مراحل، حيث وُجد الفينيقيون على شواطئ المتوسط الشرقية والجنوبية، ثم الهجرة الكبرى إثر حرب المكابيين، التي يؤكد الباحث الربيعي انها جرت في اليمن وليس في فلسطين، بين الحميريين والرومان الذين فتكوا بالسكان واضطروهم للجلاء إلى بلاد الشام حاملين معهم أسماء مدنهم وقراهم مثلما حملها الأوروبيون إلى القارة الجديدة. تم الرحيل الأخير في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد. يقول المؤرخ شلومو ساند أن قبرا عثر عليه قرب حيفا حوى جثث أشخاص حميريين بينهم رئيس الطائفة.
تعرّف العرب قبل الإسلام على بقايا مملكة مزدهرة دان سكانها بدين اليهودية على ساحل البحر الأحمر، وأن هذه المملكة هي التي أرسل الرسول محمد إلى بقايا سلالتها الحاكمة في اليمامة.
وجد التناقض الإشكالي بين النص التوراتي والتاريخ الفلسطيني حله في البحث العلمي الذي قام به باحث عربي وأثبت التعسف في إسقاط وقائع التوراة على المنطقة الجغرافية لفلسطين؛ بعض السلفيين دفاعا عن القرآن يرفضون نتائج الأبحاث التاريخية بشأن مملكة سليمان بالقدس. هم يرفضون كروية الأرض. الربيعي حل الإشكال وأثبت قيام مملكة سليمان وهيكل سليمان الول والثاني، لكن في القدس. لهذا فشل البحث الأثري المتواتر منذ العام 1867 في العثور على أثر من هيكل سليمان.بناءًعلى أوهام المستشرقين بأن مملكة داوود وسليمان قامت في القدس أطلق المستشرقون والمسيحيون الأصوليون على منطقة الأقصى تسمية "جبل الهيكل" ودخلت في ثقافة الغرب تسمية مزيفة ووعيا كاذبا طمست معالم جذوره. وبغطرسة القوة يريدون ايتنادا إلى الزيوف فرض هيكلهم على ساحات الأقصى بينما أحداث التوراة ووقائعها وأماكن وقوعها تنطبق على بقعة محددة باليمن.
طبقا لمنهجية هالبيرن في الاستدلال على معالم الحضارات والربط المقارن بين النص التوراتي ونصوص أخرى أمكن العثور على التطابق والانسجام ما بين السرد والمكان والزمان. أثبت الباحث العربي من العراق، فاضل الربيعي في مؤلفه" فلسطين المتخيلة" [دار الفكرـ دمشق 2008]. "إن الالتزام بتحديدات القراءة الاستشراقية للمواضع المتخيلة في فلسطين يقود إلى الفوضى إذا ما جرى التقيد بها على أنها تحديدات جغرافية صارمة في فلسطين الحقيقية؛ وبالعكس تقودنا تحديدات يشوع والهمداني (مؤلف كتاب رحلة الى اليمن في القرن الثالث الهجري) والشعر الجاهلي إلى الأماكن نفسها في أرض اليمن دون عناء أو تكلف". [فاضل الربيعي: فلسطين المتخيلة ـ المجلد الثاني ـ الجزء الرابع، ص435].
يشوع الوارد في النص هو كاتب السفر التوراتي المسمى باسمه ؛ والهمداني( الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني) رحالة عربي عاش في القرن الثالث الهجري سجل مشاهداته في جغرافية اليمن والأحداث التاريخية التي مرت على أرضه، وذلك في كتابه ["صفة جزيرة العرب" ـ تحقيق العلامة محمد بن علي الأكوع ـ سلسلة خزانة التراث، بغداد 1989]. توسعت الدراسة وفصلت بدقة في الجغرافيا، خاصة منطقة السراة على ساحل البحر الأحمر ومناطق صنعاء وعدن وأ بين. ناقش الباحث، الربيعي، في المجلدين النفيسين الزيوف المتعسفة والمتعمدة للتوراة، فانتشلها من التناقض والاضطراب والشكوك في مصداقيتها، حين أسقطت مواقعها على الفضاءات الفلسطينية. "لقد سار الهمداني بنفسه هذه المرة وبعد مئات السنين على خطى النبي اليمني، يشوع، ليعيد توصيف سراة اليمن كما وصفها النبي من قبل، وليسجل الأسماء نفسها وبالتسلسل نفسه؛ ولكن دون أن يعلم أي شيء عن هذا النوع المثير من التطابق، ومن دون أي تلميح إلى أي ادعاء ديني للقبائل اليمنية التي عاشت وانقرضت في المكان نفسه.
مثل هذا الادعاء لا يصدر إلا عن مخيلة استشراقية وجدت في التطابق الشكلي الزائف أحد مصادر الهيمنة على سرد الرواية التاريخية، ومن اجل تلفيق تاريخ إسرائيلي في فلسطين القديمة يلعب الفلسطينيون فوق مسرحها الجاهز دور غزاة متسللين من جزيرة كريت اليونانية؛ بينما يصبح المستوطنون الجدد أحفادا لبناة امبراطورية إسرائيل القديمة ضمت، إلى جانب فلسطين، كلا من الأردن وسوريا ولبنان وشواطئ الفرات العراقي"[ الربيعي، المجلد الثاني، الجزء الرابع، 453]. ترى هل سيجد البروفيسور وايتلام في هذا البحث الرائد مفتاحا ل "إثبات أصالة تستمد من بطن التاريخ المكنون في باطن الأرض، وهي سجل فكر وسجل تطور حضاري؟ وهل حقا قدم الربيعي ما يسند استخلاصه بأن "التلاعب بالحقيقة التاريخية والجغرافية لم يكن عملا بريئا؛ بل كان مصمما لتمرير أكبر عملية خداع في التاريخ البشري، وذلك حين جرى تصوير المدن والقرى والمواضيع الواردة في أسفار التوراة على أنها ذاتها المواضيع والقرى والمدن في فلسطين التاريخية "؟
ونعلم أن إعلان موت التاريخ التلمودي حقيقة، وإهالة التراب عليه واقع آخر تفصل بينهما مرحلة ممتدة من الصراع الحاد والمرير؛ فالأوهام التي رسختها الدعايات التوراتية وأبحاثها وتعسف استخلاصاتها والمصالح العديدة القابعة خلف زيوفها تستقر طويلا في أذهان الجمهور الذي لا يتابع النقاشات والاكتشافات، وهو يتعرض لعمليات متواترة من غسيل دماغ وتعبئة الرأي العام وشحنه بالخرافات والأوهام بواسطة آلة إعلامية شديدة التأثير متخصصة في "صناعة الموافقة" حسب تعبير المفكر الأميركي نوعام تشومسكي.
المجلدان تضمهما ألف ومائتا صفحة ، الأمر الذي يشكل صعوبة في مطالعته واستيعابه من قبل الجمهور الواجب إطلاعه على حقيقة المكيدة الثقافية للاستشراق الغربي. ولكي يتاح إطلاع القارئ العادي على الحقيقة في هذا المجال يقتضى إصدار طبعة ملخصة ومكثفة لهذه الدراسة القيمة.
جاء الربيعي مكملا لأعمال المؤرخين للتوراة، ومستجيبا لتطلعات الغيورين على الحقيقة التاريخية من أمثال البروفيسور وايتلام، إذ عبر عن الأمل بأن " الشروع بالأبحاث والتنقيب عن التاريخ الفلسطيني سيجعل من الممكن انتزاع التاريخ الفلسطيني وتحريره من قبضة المصالح التي ساهمت في إسكاته طوال المدة الطويلة من الزمن[وايتلام :24].
التوراة العربية
يسمح قانون العودة في إسرائيل للملحدين واللاأدريين والمتحولين إلى ديانات أخرى الحصول على حقوق التجنس في إسرائيل، بناء على الدم فقط. وحوالي ثلث سكان إسرائيل لاأدريون أو ملحدون. وحتى عام 1970 لم يمنح قانون العودة الجنسية إلا لأبناء الأمهات اليهوديات (بموجب تعريف الهالاخا لليهودي). وفي عام 1970 عدل القانون ليسمح "لأي ابن أو حفيد يهودي أو لزوج ابن يهودي أو زوج حفيد يهودية بحق التجنس، "ما عدا فردا تخلى عن ديانته اليهودية. ".
أما الحقيقة الصلدة فتقول أن يهود القرن الواحد والعشرين ليسوا بالضرورة من نسل أولئك الذين طردوا على أيدي الرومان من يهودا أيام التهجير. وبكل الاحتمالات بقي عدد كبير من هؤلاء في مجتمع متعدد الأعراق يضم الأشوريين واليونان والرومان وغيرهم ، والعديد من هؤلاء يهود فلسطينيون تحولوا فيما بعد إلى المسيحية والإسلام؛ يعني أن العديد من سكان يهودا لم يغادروا.
أن مفهوم " إسرائيل حق الولادة" يتغذى من الأوهام العرقية.
كان الباحث العربي من سوريا ، الدكتور كمال الصليبي، قد توصل إلى استنتاج يؤكد أن التوراة أصلها في جزيرة العرب. أوردت الدكتورة سحر الهنيدي، مترجمة كتاب وايتلام "اختلاق إسرائيل القديمة طمس التاريخ الفلسطيني "إلى العربية، تعليقا على جهود الدكتور الصليبي ضمنته هامش كتاب وايتلام المترجم (ص227، 228)، قالت فيه:
"ان بحث الدكتور الصليبي اعتمد على فقه اللغة (الفيلولوجيا) في تفسير التوراة، وبالتحديد سفري صموئيل الأول والثاني في أصلهما العبري. ونظرا إلى أن القصص التوراتية المتعلقة بمملكتي داود وسليمان قد وردت في معظمها في هذين السفرين ،فإن الصليبي يرى أن على الباحثين التوراتيين أن يبدأوا بقراءة نقدية للتوراة العبرية وذلك لتحديد ما تقوله هذه التوراة، بل الأهم لمعرفة ما لا تقوله. ويرى عبث الاعتماد على النصوص الحالية للتوراة دون الرجوع إلى النص العبري؛ لأن التوراة التي بين أيدينا اليوم هي المعروفة بالترجمة السبعينية (نسبة إلى عدد مترجميها)، والتي ترجمت من الآرامية (التي كانت آخذة بالحلول محل العبرية القديمة) إلى اليونانية. وكان النص العبري قد تعرض إلى الإعلال والتشويه في النطق. وهذه العوامل أدت إلى تشوه في النص. لهذا يرى الدكتور الصليبي أن التوراة العبرية لم تقم لغويا بشكل صحيح حتى الآن؛ فلا بد من العودة إلى المعجم العربي؛ إذ العربية لغة سامية لها الأصول نفسها التي للغة العبرية؛ وذلك لإعادة النظر في تفسير ما جاء في التوراة، ولحل بعض المعضلات اللغوية.
ويقول د. كمال الصليبي أيضا، إن الدراسات التوراتية أصبحت بشكل متزايد "مبحثا زائفا" من مباحث علم الآثار التوراتي. وهو زائف لأنه يبحث عما يأمل أن يجده، وعلم اللاهوت المسيحي هو أيضا زائف لأن عقائده ليست مبنية على أرض صلبة.
"وضع الصليبي مؤلفا عنوانه "تاريخية إسرائيل التوراتية، دراسات في صموئيل الأول والثاني وصدر عن Nabu Publications، لندن 1998. والكتاب غير مترجم إلى العربية. وللدكتور الصليبي كتابان بالعربية يعالجان موضوعات مشابهة : الأول بعنوان " خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل" [دار الساقي ط2، 1991] والثاني "حروب داود، الأجزاء الملحمية من سفر صموئيل الثاني مترجمة عن الأصل العبري" [دار الشروق ، ط1، 1990] ـ انتهى الحديث عن الصليبي.
أما فاضل الربيعي فقد رجع إلى اللغة العبرية القديمة، وهي بعض لهجات عربية يمنية قديمة اندثرت مع اندثار العرب البائدة ممن حملوا التوراة القديمة. وتوفر لديه وسائل تدقيق النص التوراتي وإظهار ما فيه من عيوب الترجمة، المقصودة والعفوية، وكذلك البرهنة على وجود أرض للتوراة في منطقة باليمن. "وهي براهين لا تجعل الاستخلاص حقيقة تصمد أمام النقد أو التحامل والتجني، أو القناعات الكونكريتية المترسبة في الوعي والوجدان نتيجة التعبئة المتواترة". اقتحم ميدان البحث الشاق في التوراة الباحث العراقي فاضل الربيعي، معتبرا كتاب الصليبي "فتحا معرفيا عظيما في الثقافة العربية " [ فاضل الربيعي:المجلد الأول، 17].
كان لا بد للباحث الجاد والموضوعي أن يبحث عن الحقيقة التاريخية ، مسلحا بمعرفة معمقة بلغة التوراة القديمة كي يتغلب على عيوب الترجمة إلى العربية، والإسقاط المختل للأماكن والأشخاص والتواريخ، ولكي يمسك بتلاوين التلفيقات والزيوف المتعمدة، والتي خلطت بين الأفعال والأسماء وتعسفت في ربط سيرورة الحوادث مع الموقع الجغرافية بحيث جاءت على نسق يتعذر تصديقه. اعتمد الباحث أسلوب المقارنات بين نصوص التوراة ونصوص الشعر الجاهلي القديم وكذلك نص الهمذاني العائد إلى القرن الثالث الهجري. خرج الباحث بقناعة معْدية أن أحداث التوراة ومواقعها هي بالحتم غير منطبقة على الفضاء الفلسطيني؛ إنما يجوز القول أنها تنطبق على اليمن في المنطقة الساحلية الممتدة من جبال عسير." الهيكل لم يبن في القدس قط ؛ بل إن أسوار أورشليم التي أشرف نحميا على إعادة ترميمها لا وجود لها هناك أصلا ؛ وفوق ذلك ليس ثمة هيكل لسليمان تحت قبة الصخرة ؛ فيما نجد الهياكل في السراة اليمنية كما وصفها الهمداني، بالتلازم مع ذكر أسماء القبائل اليمنية اليهودية [ الربيعي: ج1، 13].
حول قصة الكتاب يقول الربيعي:"بدأت حكاية الاكتشاف المثير عندما كنت أعيد قراءة الهمداني بعيد وصولي إلى هولندا بقليل . وأشد ما أثار دهشتي أنني وجدت الهمداني يسرد أمامي أسماء الجبال والوديان والهضاب وعيون الماء في اليمن، كما لو أنه يسرد الأسماء نفسها الواردة في التوراة، والتي أكاد أحفظها عن ظهر قلب[14]. وهي ذاتها وتماما كما في نصوص التوراة دون أدنى تلاعب. (.. ). عثرت على مقالة( من كتاب عبد الرحمن الشهبندر (الأعمال الكاملة ،قضايا وحوارات النهضة العربية 12ـ دمشق 1993) يعود تاريخها إلى العام 1936، نشرتها مجلة الرسالة المصرية (عدد 192، 8 آذار ص5)؛ وفيها إشارة إلى ما كنت أبحث عنه: الدليل على أن مملكة إسرائيل القديمة لم تكن قط في القدس . ومن ثم فإن التماثل والتطابق بين النصين مصدره مسرح آخر للأحداث التوراتية غير المسرح الفلسطيني. "يعود الربيعي إلى كتاب الرحالة السوري نزيه المؤيد العظيم (رحلة في بلاد العربية السعيدة، سبأ ومأرب الجزءان الأول والثاني، مؤسسة فادي بريس، لندن الطبعة الثانية ،1985ص140ـ 141)، والذي استقى منه الشهبندر معلومته ويجد فيه نصا عن مقابلة مع الحاخام باليمن عام 1916م:
تقابلت في القاع ـ قاع اليهود في اليمن ـ مع عدة أشخاص من كبار اليهود وعيونهم وسألتهم أسئلة متعددة عن أصل اليهود اليمانيين وعن أحوالهم وأشغالهم ، وها أنا أنقل حديثا جرى بيني وبين حاخامهم الأكبر المدعو يحيى بن إسحق في داره. سألته ماذا تعرف عن أصل اليهود في اليمن وعن مدنيتهم؟ فقال " كانت لليهود مدنية عظيمة وكان لهم ملك فخيم في شرقي صنعاء. وقد أسس ذلك الملك وتلك المدنية الملك سليمان بن داوود (..) وهل قامت تلك المملكة في نجران؟ لا أعلم بالضبط ولكنني لا أشك أنها كانت في شرقي صنعاء ومن المحتمل أنها كانت في نجران" [الربيعي :ج1، 14 ـ16].
يستشهد الربيعي بفقرة من كتاب الهمداني (ص73) يقول فيه " وأما سائر أجزاء هذا الربع الذي يلي وسط جميع الأرض المسكونة وما يقع فيها من مثل أرض سورية وأرض فلسطين وبلاد اليهودية العتيقة من إيليا، وتسمى بالعبرانية يرشلم ، وتعربها العرب فتقول اوراشلم". ثم يسأل الربيعي: "ما معنى التمييز بين هذه البلدان؟ هذا المعنى يتمثل هنا أن بلاد اليهودية العتيقة التي دارت فيها أحداث سفر المكابيين ليست أرض فلسطين (...) وبكل تأكيد فإن هذا المكان الذي تم تمييزه بأنه أرض اليهودية العتيقة (أي البلاد التي ورثت مملكة يهوذا وتواصلت مع ديانتها حتى ظهور الملك الحميري ذي نواس، الذي أعاد بعث اليهودية في أرجاء اليمن في العام 524 م، كان يعرف عند الجغرافيين اليونانيين باسم يروشليم . ولو كانت يروشليم هذه هي ذاتها مدينة القدس العربية في عصر بطليموس اليوناني فمن غير المنطقي أن يميزها عن فلسطين. بل لا مبرر لتمييزها أصلا، ولتوجب أن يقول، وهو الجغرافي الحاذق أن يروشليم في فلسطين. بيد أن هذا سيكون أمرا مخالفا لمنطق الجغرافية في عصر بطليموس. فهو يعرف أن يروشليم هذه لم تكن في فلسطين، ولم يكن اسمها القدس أيضا.]. والتاريخ المقبول من وجهة نظر هذا الكتاب ـ لبداية تدفق القبائل العربية العاربة، بما فيها بقايا قبيلة بني إسرائيل، من يهود اليمن وسواحل البحر الأحمر وتهامة ونجد اليمن واليمامة نحو جنوب بلاد الشام (فلسطين) لن يتجاوز حدود العام 200 ق.م .. إذ بدءا من هذا التاريخ تدفقت على شكل موجات متعاقبة وتحت ضغط الحروب والحملات العسكرية المدمرة، جماعات وقبائل وشعوب منهكة تقلصت ، وإلى حد كبير إمكاناتها القتالية والحربية، وأضحت قدرتها على مواصلة التمرد محدودة وتكاد تكون معدومة...." [الربيعي: المجلد الثاني ـ ج5،ص561].
الفلسطينيون من كريت
لقد كانت فلسطين وسكانها في العصر الحديث ضحية هوس الاستشراق الاستعمارية.
وأحد الأمثلة الصارخة للتزوير أن ما يدعى ’فلشتيم' ليس اسما دالا على فلسطين أو الفلسطينيين".[الربيعي: المجلد الثاني ـ ج4 :408]. الاسم الوارد (فلستيم)، حسب السياق التوراتي، وبناء على دلالات كتاب الهمداني، أطلق على قبيلة يمنية قديمة كانت تعبد إلاها بالاسم نفسه(فلس)، واشتبكت مع القبائل اليهودية في معارك طويلة. "ولدت التوراة ـ وفي الأصل شريعة موسى ـ ككتاب ديني ينتمي إلى الطفولة الدينية واللغوية للعرب اليمنيين.كان موسى شخصية عربية يمنية لا أحد يعلم مبلغ الصدق فيما وصلنا من القصص حولها ؛ كما ان تلميذه يشوع ، الذي وهب الأسباط أرض مستقرهم، كان عربيا يمنيا كذلك .التوراة لا تروي شيئا عن فلسطين او الفلسطينيين"[ الربيعي: المجلد الثاني ـ ج3، 320].
وفند الباحث الزعم بأن أصل الفلسطينيين جزيرة كريت أو بحر إيجة: "على هذا النحو جرى ـ في نظرية الأصول البحرية للفلسطيني ـ تغريب منهجي منظم للسكان الأصليين، ونفيهم خارج التاريخ تمهيدا لنفيهم من الأرض وقطع كل رابطة لهم مع الفضاء الجغرافي الذي احتضن تجربتهم التاريخية. وللأسف لقيت النظرية التلفيقية تقبلا لدى دارسين عرب معاصرين [الربيعي: المجلد الأول ـ ج2 ،449]. "ولأن الاسمين كرتيم ـ كرت وفلشتيم ـ فلشت هما مجرد اسمين في قائمة طويلة من أسماء الشعوب والجماعات العربية الأولى الواردة في التوراة، فإن التحقق من المعنى المباشر لهما لن يكون ممكنا بدون تفكيك الغاز سائر الأسماء التوراتية وفك الارتباط بينها وبين القراءة المخيالية. لنلاحظ أولا أن التوراة تشير إلى معارك داوود ـ عصر النبي صمويل دارت قبل جبل الرمة ، ولنلاحظ، ثانيا، أن هذه الأسماء لا وجود لها في فلسطين قط . فليس ثمة جبل يدعى الرما، ولا وجود لواد يدعى الرُمة . ولنلاحظ ،ثالثا، أن سكان أرض الفَلسَ (ء رص ها فلشتيم) يقصد بهم جماعة كانت تقيم قرب جبل أوبن آل العيزار (ءوبن ها عيزار) وأنها عرفت باسم معبودها الإله فلس معبود قبيلة طي اليمنية، كما في الروايات التاريخية الموثقة. ولنلاحظ ،رابعا، أن الجماعة الوحيدة التي أقامت بالقرب منهم هي القبيلة اليمنية التي نسبت إلى مكان يدعى الفرش ـ فرشت. واسم المكان يكتب في النقوش اليمنية في صورة فرشت. ولذلك فإن قلب الراء لاما ، وهو ما قام به المستشرقون ، هو تلاعب باطل.
ولنلاحظ ،خامسا، وأخيرا أن القبيلة اليمنية التي أقامت قرب هؤلاء وعرفت باسم واديها ، وادي كرث تنسب عادة في الأنساب العربية التي سجلها الهمداني إلى كراث بن هنوم . وتسجل التوراة نفس الاسم، هنوم. يتضح من ذلك أن نظرية الأصول الإغريقية للفلسطينيين لا أساس لها سوى وجود كلمة كرث"[ الربيعي: المجلد الأول ـ ج2، 452].
من النيل إلى الفرات
ويعرج الباحث على أصل خرافة الوعد ومداه ما يزعم أنه مملكة اليهود القديمة المترامية من النيل إلى الفرات، ومن سيناء حتى صور. يستند الزعم إلى العبارة في التوراة ( م ـ نهر مصريم ـ عد ـ جبول نهر فرت). عربت الترجمة العربية بخبث النص التوراتي فغدا( من نهر النيل حتى نهر الفرات) . أما المدقق والمطلع على لغة التوراة فينفي أن مصريم جمع مصري، بل هم "المُضَريون، القبيلة التي ورد اسمها مرارا في التوراة، وخصوصا في مراثي أرميا وأشعيا. كما يورد الهمداني (نهر فراةـ فرت ) عبارة عن منطقة تمتد على مساحة جغرافية من الساحل حتى البادية. وهي منطقة قبيلة كندة التي تضم المضريين [الربيعي: المجلد الأول ـ ج2، 469]. من غير الطبيعي أن يذكر النص التوراتي أولا نهر المصريين ومباشرة يتبعه بذكر نهر الفرات ، علما أن النيل اتخذ اسمه من زمن أبعد في القدم.
جرى تفسير العبارة التوراتية لتنطبق إطلاقا على المنطقة التي فسرها البحث الاستشراقي للتوراة[ المجلد 1، الجزء الثاني ، 448] . كما يستند المفهوم الشائع والخاطئ إلى ورود صور، البلدة التي طلب داوود من ملكها أخشابا ونجاربن مهرة لصنع سور حول القدس. لكن التفسير يفضح مخططا قديما لأن تأتي الدولة التي ستقام استنادا إلى النص التوراتي تمتد حتى مدينة صور اللبنانية، كي تستحوذ على مياه الليطاني ، و لتغدو بذلك دولة إقليمية مهيمنة وسط محيط عربي.
ويعود [الربيعي: المجلد الثاني ـ ج5، 507] لتفنيد التأصيل الاستشراقي ل "إسرائيل من الفرات إلى النيل". يفضح الربيعي النوايا الامبريالية القابعة خلف خلط النيل والفرات في جملة واحدة والقفز عن بيت لحم . فالمدينة بناها اللخميون، وهم قبيلة يمنية بائدة." يلتبس اسم ءفرة في النص العبري (ءفراتة في الطبعة العربية من التوراة) في ذهن قارئ النص باسم نهر الفرات العراقي، نشأ عن اللبس سوء فهم فظيع أدى بدوره إلى نوع مثير من الدمج الماكر والمخادع، تجلى في أبشع صوره في تخيل حدود مملكة إسرائيل القديمة ـ وهي لا وجود لها في التاريخ الفلسطيني ـ وقد امتدت من النيل إلى الفرات (..) لكن شهادة الهمداني ستكون حاسمة في هذا الميدان؛ فهو يصف النيل اليمني في سياق توصبف الأودية ذاتها التي يسجلها نص يشوع، ومنها مسيل وادي ءفرة. إن وجود اسمي النهرين العظيمين ، النيل والفرات في الكتاب المقدس لليهودية هو مخيال استشراقي قامت اوروبا بتصعيده في سياق حمى الاستيلاء على الأرض في الشرق في عصر الفتوحات.
"وما صلة الفرات أصلا بمدينة بيت لحم الفلسطينية ؟ لماذا جرى القفز على هذا الاستدراك الواضح والقاطع، والذي لا يقبل الجدل: (ءفرة هي بيت لحم)؟ التوراة في مروياتها عن حروب داوود تذكر اسم بيت لحم وءفرة في سياق أحداث تدور في مواضع لا وجود لها قط بفلسطين" وينسب داوود إلى ءفرات .
هوذه ومملكة حمير
يعزز الربيعي في مؤلفه القيم مرويات الدكتور شلومو ساند في كتابه "اختراع الشعب اليهودي"، ويختلف معه في تأرخة المملكة الحميرية ، حيث يرجعها إلى ما هو أبعد من القرن الثاني قبل الميلاد، دون أن يحدد لنا التاريخ الحقيقي لحروب شاول وداود واستقرار الملك لداود. يتوسع الربيعي في تتبع تجربة تاريخية غنية للعرب، في مملكة حمير العربية المعتنقة للعقيدة التوحيدية اليهودية بصورتها البدائية. جرى إغفال دولة حمير مع من أغفل من الدول التي أنشأها يهود من غير سلالة الإسرائيليين في بلاد البربر شمالي إفريقيا حتى قبيل الفتح العربي، وفي بلاد الخزر في القرنين الثامن والتاسع الميلادي. الأبحاث التوراتية المغرضة تركت هذه التواريخ تضيع كي لا تلحق التصدعات والثقوب المثيرة للريب في النصوص التوراتية المؤولة.
كيف ناقش الربيعي أضاليل الاستشراق التي ألبست فلسطين القديمة ثوب التوراة فجاء مهلهلا مضطربا كما اتضح لدى عدد من المؤرخين الباحثين في التوراة؟ إن منهجية البحث التي اتبعها الربيعي وفرت له وسائل الاستدلال، التي أثبتت التاريخ الحقيقي لقبائل عربية دانت باليهودية وعمرت البلاد وأنتجت حضارة باد جزء منها وسلم جزء آخر وصل عصر التدوين، واتصل بالثقافات الأكثر تطورا، الفارسية والهلينية؛ فاكتسب بذلك ميزة الانتشار الواسع. استطاع الربيعي من خلال عمله القيم كشف أنماط التزوير والتلفيق التي اتبعها المستشرقون الأوروبيون، ممن أسقطوا أسماء مدن ومواقع جغرافية وردت في التوراة تماثل من حيث الشكل مدنا فلسطينية، لكنها ضمن سياق النص التوراتي والمواقع المرافقة لها تختلف بشكل جلي.
فقد حملت التوراة أسماء مدن فلسطينية وعربية اتكأت عليها التفسيرات الاستشراقية لدعم الزعم بأن التوراة تحكي تاريخ فلسطين القديم: القدس، بيت لحم، حبرون، اللد، أشدود، غزة، عكا ،الجولان، جرش، يافا، دورا، أريحا، وادي عربة، عمواس الخ. لننظر كيف أن الباحث يمسك المستشرقين متلبسين بجريمة التزوير المتعمد، مغفلين تارة مواضع مجاورة في الفضاء الجغرافي، أو عبر تزييف المعنى المترجم، أو مستغلين تعقيدات اللغة القديمة. وفي كل الحالات نجد إغفالا أو تجاهلا لكون الأقوام العربية هاجرت من اليمن تحت ضغط الظروف المتدهورة وغزوات الرومان المدمرة للقيم والحياة. هاجروا إلى الشمال، لما ضاقت بهم الأحوال في القرن الثالث قبل الميلاد، وحملوا معهم أسماء المواقع، وعلى مثالهم تصرف المهاجرون الأوروبيون إلى العالم الجديد.
ظهر آخر ملوك اليهود في اليمن، وهو هوذه السحيمي الحنفي. ومن قبله برز ملك يهودي اسمه يهوذا خاض معارك ضد الغزاة الرومان، عرفت بحرب المكابيين (260 ـ 243 ق.م) جرت في منطقة اليمامة. وهناك معتقد يمني قديم تردد في الكثير من الأشعار عن وجود اتصال مباشر لليمنيين بشجرة هود النبي (يهوذة )، الذي تعد حضرموت موطنه الأصلي . إن الكشف عن قيمة هذا المعتقد وأهميته في بحث من هذا النوع تتجلى في الفكرة التالية : إن اليمنيين انتسبوا ذات يوم إلى أب أعلى هو هود ـ هوذة ـ بإسقاط الياء اللاصقة ( اللغة اليمنية القديمة تضيف الياء، وكذلك الميم في بداية الاسم ).[ الربيعي: المجلد الثاني ـ ج4 ، 525، 526] .
اما التوراة فهو "كتاب إخباري ديني عربي قديم تركته الجماعات البائدة من العرب العاربة في اليمن. روت فيه العرب في عصر مبكر من عصور التوحيد تاريخ هجراتها ومنازلها ومعاركها وأخبارها في سراة اليمن؛ ولا صلة لفلسطين بهذا الكتاب. أما شاول، مؤسس الملكية في إسرائيل التوراتية فيدعى شاول بن قيس، وهو من سبط يامن. في هذا الإطار يشير الهمداني إلى ما يلي: إن يُمون هي من مدن قبيلة الصدف؛ وهؤلاء هم من البدو الرحل الذين أقاموا في منزل شهير من منازل اليمن يدعى صيعر ـ صيعر.( في قائمة منازل يهوذه رقم 55). تكمن أهمية هذه الإشارة في أن صيعر اليوم تدعى ربدة صيعر وهي من أعمال مخلاف( مملكة قبيلة) ذي السفال، وهي ما يتوافق كل التوافق مع نص يشوع". [الربيعي: المجلد الثاني ـ ج4 ،427].
أورشليم
أورشليم التي عاد إليها المنفيون وباشروا أعمال البناء في أسوارها المهدمة، وهي من غير شك مدينة لا صلة لها بالقدس الفلسطينية. إذ لا وجود فيها لأي مكان من الأمكنة الواردة في الوصف. وسوف تتجلى المفارقة الكبرى حين ندقق في قائمة أسماء القبائل والجماعات التي شاركت في بناء المدينة؛ فهي قبائل عربية يمنية دانت بدين اليهودية لا تزال آثارها هناك في السراة اليمنية وليس في فلسطين.[ الربيعي: م2، ج3، ص72]. يتتبع الباحث جولة نحميا النبي على القبائل اليمنية يدعوها للمشاركة في البناء؛ كما يصف عمليات البناء وهندستها إلى أن يقول "لسوف يكون بوسعنا، ونحن نتتبع الأسوار سورا سورا وهي تبنى هناك، أن نتعرف على المكان الحقيقي لما يدعى الهيكل؛ وبذلك تكتمل صورة المدينة وتتساقط الأوهام الاستشراقية. ها هنا جبل الهيكل في سراة اليمن وليس في فلسطين"[ الربيعي: المرجع السابق: 89].
يعزو الربيعي الخلط في الأماكن على تهجئة مغلوطة للأسماء وافتراضات مبنية على النصوص التوراتية وليس على نتائج البحث الأثري، التي لم تبين قط حدوث المعارك على أرض فلسطين. وسبق أن بينت التنقيبات الأثرية في بداياتها أنها تمت بأساليب المسح الجغرافي ـ تحديد المواقع بناء إحداثيات النص التوراتي، شأن أولبرايت . مثال ذلك أن" رفح المدينة التي دار فيها القتال ثم امتد إل قو ، وقرقر،وحمة ـ التي تخيلها الغربيون مدينة حماة السورية، هي ذاتها رفح القريبة تماما من بيت بوس ـ أورشليم؛ بينما لا توجد رفح فلسطينية قرب القدس إذا ما سلمنا جدلا أن القدس هي اورشليم. بالضد من ذلك هناك جبل قدس ـ قدش إلى الجنوب من تعز، على مقربة بالفعل من رفح هذه" [ المرجع السابق : 200].
واستخدم الاستشراقيون بدهاء وجود أسباط إسرائيلية عتيقة حصلت من موسى النبي على حق تملك غربي أردم، وأولوا ذلك الضفة الغربية في فلسطين، كما هو الحال مع الجولان السوري ـ خولان التوراة . "النص يورد لفطة الأرديم ـ الأردم، ولا يشير إلى أن الاسم يخص نهرا، وليس ثمة دليل لغوي او جغرافي أو ثقافي يدعم التصور". [ المرجع :213].
تجتمع أسماء الجليل ويردن وأريحو وغيرها في النص التوراتي المتعلق بحروب المكابيين. نقدم نتفا مختصرة من سردية الباحث للنص التوراتي لمعارك المكابيين مع الرومان: نهض المكابيون يقارعون الغزو الروماني المنطلق من مصر في عهد البطالمة واحتلال يروشليم (اورشليم). بعد نحو اثنين وثلاثين عاما من بداية الحملة أصبح يهوذه المكابي ملكا على بلاد اليهودية، وذلك عام 166 ق.م. وبدأت منذ ذلك الحين معارك وصدامات دامية أجبرت القبائل العربية العاربة على الهجرة نحو حاضرة الامبراطورية الرومانية آنذاك ، بلاد الشام .
ولد يهوذه المكابي، حسب قول كاتب السفر التوراتي في مكان يدعى مِدان لأب كاهن يدعى متنيه بن يوحنين بن سمعان (مثنى بن يوحنا بن سمعان) من قبيلة بني يريب (والياء يستهل بها الاسم فالاسم ريب، ومنهم الشاعر مالك بن الريب، وعلى غراره سمي الفارس المشهور عمرو بن معدي يكرب وغدت كرب). حشد الرومان جيشا ضخما لإخماد حركة المكابيين، ودفعوا جيشهم باتجاه بيت صور؛ فاعتصم يهوذه في حصن جبل صهيون. عمل على توسيع ملكه وإخضاع القبائل. اشتبك مع جيش الرومان بقيادة طيموتوس وتمكن من هزيمته، الأمر الذي أقنع القبائل بمناصرته.. شن حملة على الجليل لطرد واليها الروماني وأوكل لشقيقه سمعان مهمة قيادة القبائل المحاربة بينما اختار السير مع شقيقه الأصغر، يوناتان نحو جلعد. عبر منطقة ها يردن بعد ثلاثة أيام من المسير في العربة، وسمع من القبائل المترحلة في المنطقة أن الرومان استولوا على بُصرة وباصر ومناطق أخرى وأن القبائل الموالية حوصرت أو استسلمت. اضطر يهوذه إلى تغيير خطته الحربية. وتقول الرواية التوراتية أن الرومان فاجأوا المكابي ودارت معركة في بيت بسان انتصر فيها المكابي وصعد إلى حصن صهيون. . زحف يهوذه على سراة دنب ـ سراة جنب وحبرون واجتاز مريشه ـ مرسه قبل أن يصل إلى أشدود ـ ْءشدد، وكانت إحدى أهم معاركه تلك التي وقعت في كفر سلامة وفي بئروت ـ بئرة ، إذ أمكن مطاردة القوات الرومانية حتى حصور ـ حضور.
كما يأتي الهمذاني في الصفحة التالية من مجلده على الأماكن الوارد في السفر التوراتي (الريب، أعماس ، المراء موطن بني يمرؤ)
حروب المكابيين
يخرج الباحث من جماع ما أجراه من مقارنات ومقاربات أنه قد " جرى تلفيق تاريخ روماني في فلسطين ، وتم حشر جماعات وعصور وأماكن داخل مشهد جغرافي يعج بالتناقضات... " [الربيعي: مجلد2 ،541].
من ناحية أخرى شهدت فلسطين تقسيمات إدارية يصعب تنظيمها في فترة حرب ؛ علاوة على أنه كان حوالي العام 160 ق.م. حاكم روماني على بلاد (مدينة) السمرا، وكان ولاة عسكريون في المناطق الممتدة حتى وادي حورون ، حيث جرت معارك هزم فيها الرومان وفروا باتجاه البحر كما يقول السفر التوراتي، وحيث اغتيل يوحنا، شقيق يوناثان. ولا وجود لجبال ووديان قرب مدينة اسدود (أشدد في السفر التوراتي) الفلسطينية قرب البحر ووقعت فيها معارك، ولا وجود لواد بالاسم في فلسطين على مقربة من البحر. وهذه جميعا ذكرها الهمذاني ضمن فضاء جغرافي واحد باليمن. أما عمواس (عم أوس) التي تحدث عنها ياقوت الحموي قرب الرملة في فلسطين، فلا يوجد بقربها بقية الأسماء الواردة في سفر المكابيين و" الرسم العبري هو عُماس، وهي سلسلة جبال صغيرة تتجمع في أسافلها المياه القادمة من قرية السدة ، وعلى مقربة تماما من عزلة أرباب وأدم، أي بالضبط قرب سائر الأماكن التي يصفها السفر التوراتي"[ الربيعي: مجلد2، ص 551]
ثم يفند الباحث الادعاء بقدوم إبراهيم من العراق. فهو "من موضع يدعى (بين) قرب جبل شعر. كل هذا سيحيلنا إلى مسألة اور الكسديم في مروية سفر التكوين، والتي تتحدث عن مجيء إبراهيم منها. جرى تخيلها اور الكلدانيين في العراق. في الواقع تثير مسألة تحقيق التوراة التي أشرف عليها علماء ومتخصصون مشهود لهم بالكفاءة، مشكلات عويصة أمام اليهود المتدينين. فإذا كانت كسديم تعني كلدانيين ـ مع أن هذا مستحيل من الناحية اللغوية الصرف ـ وهي في الآن ذاته موطن النبي إبراهيم فما الذي جاء بهم إلى هذا المكان؟
كل المواقع التوراتية وبالأسماء ذاتها تؤكد حقيقة أن تلفيق فلسطين التوراتية لا سند له لا في الأدلة اللغوية الاستشراقية، ولا في الوصف الجغرافي المتخيل لفلسطين؛ إذ ليس ثمة دمونة ولا صيعر ولا يافع ؛ كما لا وجود لمئات الأسماء الأخرى الواردة في التوراة والتي سنقوم بوضعها بين أيدي القراء". [الربيعي:المجلد الثاني ـ ج4، 427].
يتتبع الربيعي الأحداث المتعلقة بمدن ومواقع جغرافية تماثل أخرى تقع في الفضاء الفلسطيني. يورد النصوص التوراتية ويعقد المقارنات مع مؤلف الهمداني والشعر العربي القديم للبرهنة على أن المقصود مواقع في الفضاء الجغرافي لليمن، وليس فلسطين:
على الصفحة 57 (الجزء الأول) يورد النص التالي: حسب الرسم العبري للاسم (ر.ق.م) فإن الضبط العربي الصحيح له هو رقْْْْْْم وليس راقم كما ورد في الطبعة العربية من التوراة . إننا لا نعرف موضعا في فلسطين التاريخية قرب عُمق وقصِص وسيل كتاف والكفيرة. ومع ذلك عملت القراءة الاستشراقية على تلفيق هذا الموقع عبر ضمه إلى فلسطين خيالية من اختراعها. بيد أن هذه القراءة التي لم تتقيد أصلا بقواعد العمل العلمي، وجدت نفسها أمام معضلة غير قابلة للحل؛ إذ ليس ثمة بديل لغوي يمكن استخدامه لتبرير الأجواء التلفيقية، وما من حل آخر سوى إثارة الشك حول دقة رسم الاسم . في هذا الإطار فإن الشعر العربي القديم قد ترك لنا منذ العصر الجاهلي وصفا رائعا لمنازل قبلية بين جُرش اليمنية ونجران هي منازل قبيلة تميم.
قال ذو الرمة (غيلان بن عقبة ، توفي عام 171 هجري في أصفهان ، معجم 923):
على ظهر جرعاء العجوز كأنها سرية رقم في سراة رقام
وقال أبو صخر الهذلي
لمن الديار تلوح كالوشم بالجابتين فروضة الحزْم
فبرملتي قردى بذي عشر فالبيض فالبردان فالرقم
ان جميع المواقع التي تأتي قصيدة الهذلي على ذكرها هي منازل قبيلة معروفة ذكرها الشعر العربي كما ذكرتها التوراة ، ومنها وادي بيض ـ بيص في التوراة، ووادي عشر فضلا عن وادي رقم. وسوف نرى ذلك حين نحلل الأسماء الأخرى في قوائم منازل أسباط اليهود وبعضها بين بلاد تميم ووادي الضمان.. "ولكن إذا ما عدنا إلى نص يشوع من أجل فحص تحديدات السِفر التوراتي فسوف نجد موضع رقْم هذا قرب الكفيرة والموض ـ الموصة ."
أسماء المواقع هذه تتكرر في النصوص المتعلقة بحروب داوود ، وغزوة البابليين لأراضي قبيلة حمير اليهودية .
وعلى الصفحة 104من نفس الم جلد يسرد الباحث أسطورة مفارقة إسماعيل لقبيلته و ضياع سبط من قبائل اليمن. إن وجود أب أعلى لقبيلة يدعى سُمْع ـ سمع ءيل الأب الأعلى للعرب ـ ينتسب لقبيلة قحطان الجنوبية وليس إلى شجرة أنساب العدنانيين. ولما كان جبل سمع من الجبال الشهيرة والقديمة في اليمن (سمع عند يشوع) فإن هذا يعني ببساطة أن السبط أخذ اسمه من الجبل أو أعطاه الاسم الذي سيعرف به، على غرار ما فعل سبط ابن يامن حين أخذ أو أعطى اسمه لجبل بن يامن. والمثير للاهتمام أن التوراة تتحدث عن هجرة هذا السبط شمالا، أي صوب مكة حسب المرويات العربية الكلاسيكية وتنظر إليه باعتباره سبطا ضائعا."
الكرمل وحبرون
و نفس الجهل والتعسف في إلصاق خارطة فلسطينية لسجالات التوراة يكشف الباحث على الصفحتين 224 و225 من الجزء الثاني (المجلد الأول) التضليل في موضعة جبل الكرمل: "إذا ما سرنا غربا على خطط يشوع بين هذه المواضع قاصدين جبل الكرمل الفلسطيني فهل نجد عم ـ عد هناك ؟ وهل تصادفنا شحر ولبنى وهل نشاهد وادي مثال؟ وهل نعبر ـ مثل داوود وادي الملك؟ وإلى أين ستقودنا هذه الطريق إذا ما سلكنا قاصدين جبل الكرمل كما وصفه يشوع؟ حسب هذا الوصف سنكون في بلاد طي القديمة وليس في قلسطين، التي رأينا فيما سبق أنها أقامت في بيجان وامتدت منازلها إلى جُرش. وجبل الكرمل هذا من جبال طي التي اشتهرت بمياهها العذبة . قال زيد الخيل:
فسيري يا عدي ولا تراعي وحلي بين كرمل فالوجيد
إلى جزع الدواعي ذاك منكم معان فالخمائل فالصعيد
هنا جبل كرمل لقبيلة طي حيث تقع حلي بينه وبين جبل الوحيد . يحدد الهمداني منازل طي في بيجان إلى الجنوب من مأرب ؛ وهم عباد الإله (الفلس)، ومنهم قوم عرفوا بالفلستيم، الفلَس، الذين توهم المترجمون أنهم الفلسطينيون". وربما يكونون الأصل العربي لجماعات الفلاشا التي اكتشفت في الحبشة.
كما ينقل الباحث أقوال محقق الهمذاني، العلامة الأكوع في معرض شرحه لمفردة حُبر الواردة في النص التاريخي للهمذاني ما يلي: حُبر بلدة مشعة حولها أنقاض كبيرة مما يدل على أنها كانت وسيعة ، وإليها تنسب الثياب الحبرية ( المخططة) وتقع في أعالي جبل الشوافي. ما تقوله هذه الملاحظة الثمينة هو التالي: إن موضع حبر ـ حبر والأثري والخَرِب اليوم ـ كان مكانا هاما لا لجهة اتساعه ووجوده في أعلى الجبل فحسب؛ إنما كذلك لارتباطه بصناعة الثياب المخططة، أي ما يعرف بثياب البجاد. ان هذا وحده ما يحيلنا، فورا، إلى الروايات الكلاسيكية العربية التي كانت تربط بين موضع حُبر هذا والملك داوود، بما يعرف بنسيج داوود أو دروع داوود، في الشعر العربي القديم والمرويات التاريخية ، هو هذا النوع من الثياب الشفافة والجميلة، وليس الدروع بمعناها الحربي ـ العسكري. لا يتعلق الأمر هنا بمجرد مصادفة لغوية أو جغرافية؛ بل بحقائق تاريخية وأدلة أثرية؛ إذ أية مصادفة هذه أن يتفق صموئيل والهمذاني على تسمية المكان َحُبر ـ حبرون، وان يشتهر بصناعة الثياب المخططة المرتبطة في قصص العرب وأشعارها بالملك داوود؟ [الربيعي:المجلد الأول ـ ج2، 268]. على أن هذا الموقع ليس مدينة حبرون الواردة في التوراة. فهذه تتموضع في جهة أخرى من ديار حمير.
حملة نبوخذنصر
يكرس الباحث فصلا كاملا يستقصي أخبار حملة نبوخذ نصر على يهودا وسبي عدد من زعمائها (حملة نبوخذ نصر على بني إسرائيل في نجران (المجلد الأول ـ ج2،، 388 ـ 447). خط سير الحملة يتطابق مع فضاءات جغرافية تقع في اليمن وليس فلسطين. يدحض في تحرياته الزعم بأن السبي البابلي حدث من فلسطين. يقول الباحث: ولسوف يكون مثيرا للاهتمام والجدل أكثر من كل هذا أن يبرهن الكتاب على أن حملة نبوخذ نصر لم تتجه إلى فلسطين قط؛ بل إلى السراة اليمنية لتأديب القبائل العربية البائدة ومنها قبيلة بني إسرائيل. وما يدعى بالسبي البابلي ـ وهو حدث تاريخي لاشك فيه ـ لم يقع على أرض فلسطين، كما أوهمنا المؤرخون؛ إنما وقع في نجران وعدن وصنعاء. كما سيثير القسم الثاني من الكتاب مسألة فتح أريحا على يد يوشع بن نون، مثلما قصتها التوراة، ليبرهن أن أريحا هذه ليست سوى أريحا اليمن؛ وأن الوصف الذي يقدمه محررو النصوص التوراتية للمدينة لا ينطبق على أريحا التاريخية كما عرفها القدماء والمعاصرون ولا بأي صورة من الصور".
ويواصل القول: كما لا وجود لأي مكان من الأماكن الواردة في هذا الوصف قرب أريحا الفلسطينية التي أطلق عليها الاسم المهاجرون من جنوبي اليمن، وأن معركة (العي) التي يتحدث عنها يشوع لا وجود لها في التاريخ الفلسطيني؛ بل هي معركة دارت في جبال ومرتفعات اليمن. "وإذ صار أمرا مألوفا في السرديات العربية التاريخية رؤية حادث السبي البابلي بوصفه الجزء الأهم في هذه الحملة الحربية فقد جرى امحاء لمعالم المسرح الحقيقي الذي جرت فيه الأحداث. ومن المؤلم أن السرديات العربية لا تزال حتى اليوم تغرف من خزان الرواية التوراتية ـ الاستشراقية رؤيتها وفهمها للأحداث، ومن تصوراتها للمواضع التي سار نحوها الجيش الآشوري، ومن دون إمعان النظر في غرائبية الأسماء أو انعدام إمكانية العثور عليها داخل فلسطين" [ الربيعي : المجلد الأول ـ ج2، 393].
جرى استبعاد سفر يهوديت ـ يهودية من قائمة الكتب الدينية والقانونية المعترف بها من جانب المتدينين. لقد اتسمت معالجات بعض المشتغلين في الكتاب المقدس من المستشرقين وعلماء الآثار، وبقدر فظ من الاستخفاف بهذا السفر تحديدا لا لسبب إلا لأنه يعطي أسماء مواضع الحملة الحربية لنبوخذ نصر على نحو لا يتوافق مع القراءة الاستشراقية. أي أن السفر لا يصادق على الدعاية الغربية القائلة بأن نبوخذ نصر اتجه نحو فلسطين. وهذا هو المغزى الحقيقي لاستبعاد السفر الذي ينظر إليه عادة على أنه من كتب الأبوكرافيا، مثله مثل الأسفار المتأخرة الأخرى. كتب سفر اليهودية في الأصل باللغة الكنعانية القديمة واليونانية، وهو يصور على نحو ممتاز المواضع التي سارت إليها جيوش الآشوريين" [الربيعي : المجلد الأول ـ ج2، 396] .
عرف القدماء أريحا بوصفه اسم حي من العرب واسم مكان معلوم ورد ذكره في الشعر العربي القديم بوصفه ميدان معارك بين القبائل العربية ـ اليمنية البائدة. لأجل كل ذلك سعى الكاتب إلى إعادة تركيب التاريخ التوراتي ليبرهن على أن الدعاوى الاستشراقية التوراتية السائدة والمنتشرة بكثافة وقوة لا أساس لها ـ أصلا ـ في التوراة ذاتها؛ لأن التوراة لم تذكر اسم فلسطين أو الفلسطينيين، ولم تأت على ذكرهم بأي شكل من الأشكال (..) عن كل ما ورد من أسماء لأماكن ومواضع وشخصيات وأسماء قبائل لا وجود له البتة في التاريخ الفلسطيني". إن الهمداني الذي يعيد الكتاب اكتشافه وتقديمه للقراء المعاصرين، هو من وصف ـ قبل مئات السنين من مولد مؤلف هذا الكتاب ـ وبدقة متناهية ـ كل ما ورد من أسماء أماكن باعتبارها أماكن القبائل العربية اليمنية التي دان بعضها في وقت من التاريخ بدين اليهودية.
ها هنا يستخلص البحث العاني أين توجد المواقع والشخصيات الواردة في التوراة، الأمر الذي يضع النص في نسق منسجم ويكشف حقبة من تاريخ الديانة اليهودية ومنشئها بين قبائل عربية عملت الثقافة الاستشراقية على تحويرها وخلطها كي تلائم أغراضا استعمارية.
صهيون
وفيما يتعلق بالاسم صهيون، فإن من مفارقات القراءة الاستشراقية للتوراة أن سقوط حصن صهيون يرتبط في التوراة بسقوط اورشاليم بيد داوود. ليس في التوراة أية إشارة على أن صهيون جبل في فلسطين؛ ان بيت بوس قرب صنعاء كانت تدعى أورشاليم أيضا. واليمنيون والعرب عرفوا ثلاثة مواضع باسم قَدَس. اثنان منها قرب وادي شليم ـ وادي سليم، والثالث جبل شهير إلى الجنوب من تعز يعرف حتى اليوم باسم جبل قَدَس. وفي معركة احتلال أورشليم سقط حصن صهيون بيد داوود؛ فبادر هذا إلى زيادة تحصينه والدفاع عنه. والاسم الحقيقي للجبل هو صيون والهاء بالوسط تضاف في اللغة العربية البدائية على غرار بريق ـ بهريق. مهد الاستيلاء على الحصن الطريق للاستيلاء على ربة، وليس في فلسطين مكان بالاسم على مقربة من صهيون. وبعد احتلال أورشليم البوسية طلب داوود من ملك صور تزويده بأخشاب ونجارين لتحصينها. وامتدادات السور في التوراة تتضمن أماكن لا وجود لها إلا باليمن. " ولكن إذا ما تتبعنا خطى صموئيل والهمذاني ووصفهما المنمق لبيت بوس وحصن صهيون وصور والربة في فضاء جغرافي واحد فإن الرواية ستبدو، آنئذ، مقبولة ومنطقية تماما."[الربيعي: المجلد الأول ج2، ص326].
ومثال آخر نورده عن القدس في الفضاء الجغرافي أمثلة متكاملة ومتداخلة على صفحة من تاريخ القبائل العربية في اليمن. "أن وجود مدينة السلام لا يقصد به حصرا المكان نفسه في التوراة. فمدينة السلام صفة تطلق على مدن عدة تيمنا بحلول عصر تنعدم فيه الحروب. إن اورشليم، بلاد اليهودية العتيقة التي اجتاحها نبوخذ نصر كانت مع ذلك مكانا بعينه.
في هذا الإطار لا بد من الإشارة إلى أن قدس وأورشليم ووادي شاليم على التوالي ، بوصفها أماكن بعينها قصدتها الوفود( أرسلها ملك بابل لتنذر القبائل المتمردة، قبل أن يحرك جيشه للغزو)؛ ثم اتجه الجيش الآشوري لتدميرها(...) وقدس غير بعيدة عن وادي عُنةـ بيت عنوت في سلسلة جبال السريح اليمنية إلى الجنوب ـ اليوم ـ من مدينة تعز (...) يقع وادي عُنة على مقربة من زبيد( وهي ليست الزبداني السوري)، وفيه تصب مياه حوالي خمسين واديا مجاورا لتجتمع أخيرا في سيل يصب في البحر الأحمر. وهذا سر ازدهاره كمملكة يمنية قديمة وسر خصوبة أرضه ، ونشاط قبائله ... وعلى غير بعيد من هذا المخلاف تقع صيدا اليمنية ، وهي بلد ساحلي تماما كما وصفته التوراة. ولذلك يبدو مفهوما قول كاتب السفر أن سكان صيدا على الساحل ارتعدوا وهم يسمعون أخبار الحملة الحربية؛ إذ لا توجد صيدا ساحلية في فلسطين. والسائر في وادي عنة من زبيد على الساحل متوجها صوب صنعاء سوف يصل إلى بيت بوس ـ بيت بوس في حروب داوود ومنازل يهوذه، والتي تصفها التوراة بأنها اورشليم وليس قدش ـ قدس. بل إن السائر في هذه الوديان متتبعا خطا الهمذاني ويشوع وصموئيل وكاتب السفر المجهول سوف يصل إلى وادي العرب ـ ها عربه وريمه ـ رمه ، قبل أن ينعطف باتجاه بلدة صيدا مارا بالمملكة اليمنية القديمة ،مخلاف حضور ـ حصور. هذه الخريطة المثيرة لا يمكن مماثلتها مع الخريطة الفلسطينية [الربيعي : المجلد الأول ـ ج2، 418] .
"إن جبل القدس، هذا الذي تخيلته القراءة الاستشراقية على أنه مدينة القدس في فلسطين ، لا يحمل من عناصر التماثل معها سوى التطابق الشكلي في الاسم. اما وصف المكان، كما في نص يشوع، فإنه يتناقض كلية مع منطوق النصوص التوراتية ؛ لأن قدس التوراة ، وإن كانت تقع قرب وادي وجبل حضور( بينما تقع القدس الفلسطينية قرب تل صغير يدعى حاصور ) فإنها ليست قرب جبال شمير بكل تأكيد، إن الالتزام بتحديدات القراءة الاستشراقية للمواقع المتخيلة في فلسطين يقود إلى الفوضى إذا ما جرى التقيد بها على أنها تحديدات جغرافية صارمة في فلسطين الحقيقية. وبالعكس تقودنا تحديدات يشوع والهمداني والشعر الجاهلي إلى الأماكن نفسها في ارض اليمن دون عناء أو تكلفة ." [الربيعي: المجلد الثاني ،ج4، 435]
قبر راحيل
دحض الباحث [الربيعي:المجلد الأول ـ ج2، 456] خرافة وجود قبر راحيل قرب بيت لحم الفلسطينية، ويورد " جرى مسح شاوول على إسرائيل ملكا قرب قبر راحيل؛ هذا ما تقوله التوراة. وهذا يعني أن قبر راحيل المزعوم في فلسطين ليس سوى خرافة. تقول الرواية التوراتية أن "صموئيل استدعى شاوول وصب قارورة الزيت على رأسه عند مدفن راحيل في حدود بن يامن، في صلصح . يقول التوراتيون لا يُعرف معنى الكلمة ، صلصح؛ أما الحدود فهي بن يامن وأفرائيم (..) إنه التقليد القديم عن قبر راحيل الذي حدد مكانه بالقرب من بيت لحم حيث يرى إلى هذا اليوم التلفيق الاستشراقي. إذن لا يعرف كلمة صلصح ولكنه يستطيع الجزم بأنها موضع يقع في حدود بن يامن ... هذا يعني أن القراءة المخيالية للتوراة استندت إلى مطابقة عشوائية بين أسماء مواضع في فلسطين لا سياق لها في التوصيف الجغرافي، وبين أسماء وردت في التوراة. في الواقع توجد صلصح على مقربة من جبل يامَن، ولكن الهمداني يضبطها وفقا لشكل نطقها في عصره في صورة قريبة الشبه صلحلح . وهذ الموقع غير بعيد عن جبل حُمَر في سلسلة جبال السرو قرب نجران [الربيعي: المجلد الأول ـ ج2 456 ـ 457]
إلى فلسطين من اليمن
تعرّف العرب قبل الإسلام على بقايا مملكة مزدهرة دان سكانها بدين اليهودية على ساحل البحر الأحمر، وأن هذه المملكة هي التي أرسل الرسول محمد إلى بقايا سلالتها الحاكمة في اليمامة .
ما يقوله الاقتباس من الهمداني وبطليموس (التصورات الفلكية ـ الجغرافية) ببساطة أن بلاد اليهودية العتيقة هي جزء من الجزيرة العربية، ولها مكان بعينه في فضاء جغرافي محدد لا صلة له بفلسطين. ولذلك فإن الخطأ الشائع الذي يروج له الاستشراقيون والقائل أن فلسطين عرفت باسم إيليا ـ ايلياء هو خطأ قابل لأن يندرج بسهولة في سياق التضليل[ الربيعي: المجلد الأول ـ ج2،408] .
بدأت الهجرة إلى فلسطين من اليمن قبل عام 200 ق.م؛ وتفيد الدراسات التاريخية أن حاكم اليهودية هيرودوس كان إيدومياً عربياً متهوّداً. ]....، تزوج من ابنة أحد ملوكهم بنى معبدًا، وهو المسمى "هيكلاً"، في مدينة القدس لإرضاء كهنة البلاد المسيطرين على مختلف الطوائف "الموحِّدة"، وعلى مر التاريخ ارتأى الحكام أن مما يقّرّب السكان منهم تشييد أفخم المباني الدينية." والوثائق المكتشفة عن طريق التنقيبات الأثرية تغطي حقب حياة الكنعانيين ولا تشير إلى مملكة داوود وسليمان. ورد أول ذكر لليهود أنهم بدو رحل يتعاطون إلى جانب الرعي بالتجارة في تاريخ مدون على ألواح تل العمارنة [د.عبد الوهاب المسيري: الإيديولوجية الصهيونيةـ عالم المعرفة'، 13].
وذكر المؤرخ سترابو أنّ العرب سكنوا الأجزاء الغربية من فلسطين قروناً قبل الميلاد. وكانت البادية شرقي الأردن، التي لجأ إليها المسيحيون الأوائل في عصر الاضطهاد الأول، نبطية عربية تمتد من الفرات إلى البحر الأحمر. وكذلك كانت مملكة دمشق التي مر بها الرسول بولس عربية صريحة. وكانت مملكة حمص عربية، ومملكة مدينة الرستن أيضاً.
بل إنّ المؤرخ الروماني بلينيوس أدخل الرّها (في تركيا اليوم) في جملة أراضي العرب، منذ القرن الثاني قبل الميلاد. وينسب المؤرخ ابن العبري إلى ملك الرّها العربي الأبجر، أنّه راسل السيد المسيح".
ويقول جون سبنسر ترمنغهام، المؤرخ البريطاني في كتابه "المسيحية بين العرب في العصور السابقة للإسلام"، إنّ الجموع التي كانت تحتشد حول السيد المسيح وهو يبشر كانوا عرباً، وإنّ أول المهتدين خارج نطاق الرسل الأوائل كانوا عرباً كذلكً"." قبل الإصلاح اعتبرت فلسطين الوطن المقدس الذي أورثه المسيح لأبناء المسيحية، ولم تكن القدس توصف بأنها صهيون اليهودية ، بل مدينة العهد الجديد المقدسة "[ ريجينا الشريف:21 الصهيونية غير اليهوديةـ ترجمة أحمد عبدالله عبد العزيز / عالم المعرفة عدد 96 /،1985 ،21
في مقالة كتبها إبراهيم بولاك، وهو صهيوني مؤسس قسم تاريخ الشرق الأوسط بجامعة تل أبيب، لم يورد أن جميع الفلسطينيين هم الأحفاد المباشرون أو الوحيدون ل "اليهودائيين". أدرك أنه على مدار مئات وآلاف السنين لم تكن هناك تقريبا مجموعة سكانية في العالم ، خاصة في ممر ضيق كالبقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط،إلا واندمجت مع جيرانها، في محتليها أو الخاضعين لاحتلالها. أتى على المنطقة في مراحل تاريخية مختلفة يونانيون وفرس وعرب ومصريون وصليبيون، وجميع هؤلاء اندمجوا أو ذابوا دائما في السكان المحليين. غير أن بولاك افترض أن احتمال تأسلم اليهودائيين كبير للغاية. وبالتالي كان هناك تواصل ديمغرافي في الوجود المستمر والطويل ل "فلاحي البلاد" منذ الزمن القديم وحتى الآن...كل ما لم ترغب فيه كتب التاريخ للصهيونية حذف ببساطة. ومن هنا لم تهب أي هيئة بحثية ولا جامعة إسرائيلية لمساعدة بولاك [ بروفيسور شلومو ساند: 238]
يذكر الربيعي أن المؤرخ هيرودوس ،الذي جال في المنطقة في القرن الخامس قبل الميلاد ،وكتب ملاحظاته لم يسمع، ومن ثم لم يسجل كلمات تشير إلى أي من "أورشليم" ،"يهوذا"، "إسرائيل" "السامرة" أو هدم "الهيكل" ولا "السبي"، وذلك على الرغم من أنه تحدث عن مواقع وأقوام تبعد عن خط رحلته آلاف الأميال. وتفيد الوثائق القديمة أن اسم فلسطين ورد ذكره في الكتابات اليونانية والرومانية القديمة. وجميع من كتبوا عن الإقليم في تلك المرحلة استخدموا المصطلح نفسه، أي فلسطين، أرسطو وباليمو الإليومي وكاسيُس ديو العضو في مجلس شيوخ بالإمبراطورية الرومانية الذي رفض صراحة اسم "يهوذا" الرسمي، ويوليوس أفريقانوس وبطليموس وفيلو السكندري، جميعهم أطلقوا على الإقليم اسم فلسطين.
والأمر ذاته فعله آباء الكنيسة ومنهم أسقف مدينة قيسارية يوزبيُس وأُرِغِنِس.
يؤكد وايتلام أن إسرائيل لم تكن سوى لحظة عابرة في مسيرة التاريخ الحضاري لفلسطين القديمة؛ وعلى النقيض من هذه الحقيقة فإن نظرة سريعة في النشرات الإعلامية الصادرة عن أقسام الآثار في أميركا وأوروبا وإسرائيل وكتيبات هذه المؤسسات تدخل في إطار دراسة التوراة العبرية من وجهتي النظر اليهودية والمسيحية. والشيء ذاته ينطبق على الجامعات "العلمانية" ، التي تحتوي على أقسام للدراسات الدينية ( بدلا من كليات اللاهوت).
لا يوجد تاريخ موثق لدولة يهودية بفلسطين. هناك وثيقة تعود لعام 853 ق.م تتضمن خبر قيام تحالف بين ملك يهودا، إهاب، وملوك سوريا وفلسطين ضد ملك آشور. وصيغة العبارة تفشي أيضا تباينا بين فلسطين وسوريا ومملكة يهودا. احتفظ الأشوريون بوثيقة عن المعركة التي جرت في كركر بسوريا، أجلت زحف الآشوريين، دون أن تهزمهم. لم تختلف مملكتا يهودا والسامرة ثقافيا عن بقية الممالك في المنطقة ؛ كما تشير الموجودات الأثرية إلى أن الناس قدموا أضحيات لآلهة أخرى غير يهوة. كانت القدس بلدة صغيرة، هي أفقر وأصغر مما صورتها التوراة. لم تظهر قط كلمة يهودي ، وحيثما ظهرت كانت تعني سكان يهودا، المنطقة المحيطة بالقدس، لكن أي قدس، وفي أي فضاء جغرافي؟
ينفي وايتلام اعتبار تاريخ فلسطين خلال خمسة قرون (القرن الثالث ق.م حتى القرن الثاني الميلادي) خلفية لتواريخ إسرائيل ويهودا، أو فترة الهيكل الثاني[ وايتلام: 25]. ويمكن أن نجد الحل لهذه الإشكالية في تقديرات الباحثين في التاريخ القديم للشرق الأوسط إذا ما وضعنا في الحسسبان أن اليهود في فلسطين ظلوا منذ أن وطأت أقدامهم أرض فلسطين في زمن أبكر قليلا من هذا الزمن كانوا قبائل عربية هاجرت من الجزيرة العربية بعد تدمير مراكزها في جنوبي اليمن وحملت معها التوراة نصا شفاهيا. وهناك القبر المكتشف قرب حيفا عام 1936 وعليه ما يشير إلى طائفة يهودية من قبيلة حمير.
ويقول جون سبنسر ترمنغهام، المؤرخ البريطاني في كتابه "المسيحية بين العرب في العصور السابقة للإسلام"، إنّ الجموع التي كانت تحتشد حول السيد المسيح وهو يبشر كانوا عرباً، وإنّ أول المهتدين خارج نطاق الرسل الأوائل كانوا عرباً كذلكً"."قبل الإصلاح اعتبرت فلسطين الوطن المقدس الذي أورثه المسيح لأبناء المسيحية، ولم تكن القدس توصف بأنها صهيون اليهودية، بل مدينة العهد الجديد المقدسة "[ ريجينا الشريف:21 الصهيونية غير اليهوديةـ ترجمة أحمد عبدالله عبد العزيز / عالم المعرفة عدد 96 /،1985 ،21
ينفي وايتلام اعتبار تاريخ فلسطين خلال خمسة قرون (القرن الثالث ق.م حتى القرن الثاني الميلادي) خلفية لتواريخ إسرائيل ويهودا، أو فترة الهيكل الثاني[ وايتلام: 25]. ويمكن أن نجد الحل لهذه الإشكالية في تقديرات الباحثين في التاريخ القديم للشرق الأوسط إذا ما وضعنا في الحسسبان أن اليهود في فلسطين ظلوا منذ أن وطأت أقدامهم أرض فلسطين في زمن أبكر قليلا من هذا الزمن كانوا قبائل عربية هاجرت من الجزيرة العربية بعد تدمير مراكزها في جنوبي اليمن وحملت معها التوراة نصا شفاهيا. وهناك القبر المكتشف قرب حيفا عام 1936 وعليه ما يشير إلى طائفة يهودية من قبيلة حمير.