لقد جاءت في السفن الأولى: الرأسمالية في أميركا - توماس ماكرو - / د. عماد الحطبة

2018-07-21

لقد جاءت في السفن الأولى: الرأسمالية في أميركا

توماس ماكرو

ترجمة/ د. عماد الحطبة

لم يعرف التاريخ دولة أكثر توجهاً نحو اقتصاد السوق – منذ نشأتها وخلال تاريخها اللاحق أكثر – من الولايات المتحدة الأمريكية. كان استقرار البلاد، من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ، وبعد ذلك من ألاسكا إلى هاواي مغامرة طويلة من الريادة. حتى في أيامنا هذه، ما زال الكثير من الأميركيين يكونون ثرواتهم من تقدير الأميركيين لملكية العقارات أكثر من أي مصدر آخر. لكن العلاقة بالأرض لم تكن سوى البداية للدراما الملحمية المسماة الرأسمالية الأمريكية.

كانت تلك القصة، مقارنة بالتاريخ الطويل للعمل في البلدان الكبيرة الأخرى، قصة منافسة شديدة ومتواصلة. أظهر الأمريكيون خلالها أنهم على استعداد للارتباط بقوى السوق مع تردد قليل نسبيا.

في السنوات الأولى، ولدت شهية الأمريكيين للأرض من الحرمان الذي عانوه في أوروبا والذي وجد فرصة في العالم الجديد. الطلب، الذي كان مكبوتا لقرون، وجد نفسه ،فجأة، أمام عرض وفير. إن جوع المستوطنين إلى المزيد من الأراضي هو ما دفعهم للتوجه بكثافة نحو الغرب، حيث يمكنهم إنشاء المزارع وامتلاكها. كان تلك الفكرة البدائية (الأولية) للحلم الأمريكي، لقد امتلك هذا الحلم بالنسبة للأشخاص الذين يعيشونه هالة من عدم الشك المزدوج. فمن ناحية إنكار فكرة حسن حظ هؤلاء المستوطنين، ومن ناحية أخرى تقدير حجم الأعمال المضنية المطلوبة للاستفادة من هذه الأراضي.

منذ بداية الفترة الاستعمارية وفي السنوات الأولى من عمر الدولة الأميركية، وامتدادا حتى القرن التاسع عشر، بدا كل شيء جاهزًا في البلاد الجديدة. فقد منحت الحكومة المستوطنين مساحات شاسعة من الأراضي على نحو غير محدود أو باعتها لهم بأسعار مخفّضة لا يمكن مقاومتها. للحصول على أفضل الأراضي، لم يكن لدى المستعمرين الأوائل ولا الرواد الذين يتدفقون عبر الحدود الكثير من الضوابط التي تمنعهم من طرد الأميركيين الأصليين أو حتى طرد بعضهم البعض. لقد لجأوا في بعض الأحيان إلى القتل. لقد شكلت الحركة نحو الغرب ملحمة كبيرة، لكنها في تفاصيلها لم تكن قصة جميلة.

كانت الأرض متوفرة بشكل مبهر في التاريخ الأمريكي المبكر، لكنها شكلت واحدة من “عوامل الإنتاج” الاقتصادية الكلاسيكية. أما أما العوامل الأخرى فهي: العمل ورأس المال وريادة الأعمال. كما أوضحت الفصول السابقة من هذا الكتاب ، فإن الرأسمالية الحديثة تدمج هذه العوامل الأربعة في أنظمة تشغيلية لإنتاج دورة حياة الاقتصاد، وأهم هذه الأدوات العبقرية، الشركات التجارية.

هناك عدة ملايين من الشركات في الولايات المتحدة اليوم، حفنة من هذه الشركات كانت موجودة عند الولادة الرسمية للبلاد عام 1776. أصبح هذا الجهاز جزءًا لا يتجزأ من الاقتصاد الأمريكي اعتبارا من منتصف القرن التاسع عشر، لكن هذه المؤسسات كانت موجودة في الواقع قبل 250 عامًا. ففي عام 1607، وصل المستوطنون إلى جيمس تاون بموجب ميثاق شركة فرجينيا اللندنية. كما أسس التطهريون مدينة بوسطن عام 1630 تحت رعاية شركة إنجليزية أخرى، هي شركة خليج ماساتشوستس.

اهتم مالكو شركة فرجينيا بشكل أساسي بإيرادات التبغ. كانت شركة “خليج ماساتشوستس” أقل اهتمامًا بالربح، وانصب اهتمامها على ما أطلق عليه زعيمها جون وينثروب “مدينة على تل”. أرادوا أن يثبتوا للبشرية جمعاء فضائل الحياة المسيحية النقية. أما إذا حقق بعض التجار التطهريين بعض الثروة، فإن ذلك يكون نعمة من الله ، طالما أنه لم يغش الزبائن أو يتقاضى منهم أثمانا باهظة. كان الخط الفاصل بين الربح الصادق والطمع البغيض ضبابيًا في ذلك الوقت ، كما هو عليه اليوم. لكن من الواضح أن التطهريين امتلكوا عقلا رأسماليا.

هذا ما فعله ويليام بن وجماعة من أصدقائه. لقد اضطهدوا في إنجلترا بسبب معتقداتهم الدينية ، لكنه حصل عام 1681 على منحة ملكية بأراض شاسعة في أمريكا، فشرعوا في إنشاء مستعمرة جديدة مبنية على كلٍ من المبادئ الدينية والتجارية. أزدهر أعمال تجار كويكر من خلال شركة بنسلفانيا الدولية. ِمثْلَ التجار التطهريين في نيو انغلاند، استخدم تجار كويكر علاقاتهم العائلية والدينية لتشكيل شبكة ضيقة من العلاقات القوية الممتدة عبر المسافات البعيدة. يشكل هذا النوع من النظام القائم على الالتزامات التجارية المضمونة، أحد الشروط الأساسية للتنمية الاقتصادية القوية. ما زال هذا النظام، في معظم الاقتصادات الرأسمالية، جزءا لا يتجزأ من قانون العقود التي تفرضها الحكومات المعاصرة من خلال المحاكم.

رغم ذلك، لعبت شركة إنجليزية أخرى دورا في جلب السكان إلى العالم الجديد، وهي الشركة الأفريقية الملكية. لقد أخذت هذه الشركة التي أستُأجرت عام 1672، دورًا هامًا وإن لم يكن مهيمنًا في تجارة الرقيق. لتحقيق الأرباح للمساهمين، جلبت إلى نصف الكرة الغربي أعدادا كبيرة من الرجال والنساء الذين اختطفوا من أفريقيا. بالنتيجة، شارك الآلاف من التجار والبحارة البيض على جانبي الأطلسي في هذه التجارة، بما في ذلك عدة مئات جاءوا من ولاية ماساشوستس ورود آيلاند. بلغ العدد الإجمالي للأفارقة الذين تم نقلهم إلى العالم الجديد حوالي 10 ملايين. كانت وجهتهم عادة البرازيل أو واحدة من جزر البحر الكاريبي، ولكن حوالي 596000، أو واحد من كل 17، ذهبوا إلى المناطق التي أصبحت جزءا من الولايات المتحدة.

في العام 1776 ، أعلنت المستعمرات الـ13 التي شكلت الولايات المتحدة الأصلية استقلالها بعد ما يقرب من 170 عامًا من الاستعمار البريطاني. حتى في تلك المرحلة الباكرة، كان بين سكان البلد الجديد البالغ عددهم 2.5 مليون نسمة نماذج رأسمالية عديدة. إذن، كما هو الحال عليه اليوم، يمكن للرأسمالية أن تلعب أدوارا قذرة، أو نبيلة، أو خليطا من الاثنين.

في المسافة بين العبيد المضطهدين من جهة والمزارعين الأحرار وأصحاب المشاريع من جهة أخرى يوجد عدد كبير من البيض الذين جاءوا إلى أمريكا كعمال بعقود. وصل ما بين نصف إلى ثلثي المهاجرين البيض قبل الثورة تحت هذه الشروط. لقد توافدوا إلى أمريكا بشكل رئيسي من إنجلترا، إضافة إلى اسكتلندا وأيرلندا وألمانيا. (كان الألمان يميلون إلى الى الهجرة على شكل مجموعات عائلية، والبعض الآخر كبالغين منفردين). لقد تم اختطاف عدد من هؤلاء ونقلوا على متن السفينة بالقوة، لكن الغالبية العظمى منهم جاءوا بشكل طوعي. بعضهم قام باستبدال ما بين أربع إلى سبع سنوات من العمل للحصول على وسيلة للمرور إلى العالم الجديد.

وهكذا فالرأسمالية جاءت في السفن الأولى، وبأشكال عديدة ومختلفة: التجارة المشروعة، والغطاء القانوني للحرية الدينية، وتجارة الرقيق، واستبدال العمل بتذكرة للوصول إلى أمريكا. رغم ذلك، فإن أي من هذه الأشكال لايمثل الرأسمالية الحديثة. فقلة من هؤلاء المهاجرين كانوا على علاقة بالثورة الصناعية الأولى، ناهيك عن الثورة الثانية أو الثالثة. كلهم جاءوا لأعمال تتعلق بالزراعة والتجارة وليس من أجل التكنولوجيا والتصنيع. رغم ذلك فقد اشتملت أعمالهم على عناصر رأسمالية قوية، ثبت أنها كانت ذات أهمية كبيرة بالنسبة لمستقبل الدولة.