الحاج مراد ...رواية تولستوي المنسيَّة - عبد الرزاق دحنون

2018-10-18

الحاج مراد ...رواية تولستوي المنسيَّة

عبد الرزاق دحنون

الحاج مراد من أكابر الزعماء الداغستانيين الذين عملوا تحت أمرة القائد الأسطوري الشيخ شامل، القائد الميداني الذي حارب جيوش القيصر الروسي نقولا الأول  خمسة وعشرين عاماً وعندما طالت الحرب وتعب الناس جاء بعضهم إلى الشيخ شامل يحاول إقناعه بالاستسلام، فما كان من هذا إلا  أن  أمر بجلد كل من يتحدث عن الاستسلام مئة جلدة في الساحة العامة أمام الناس.

عندئذ لجأ طالبو الاستسلام إلى أم شامل، وهم يعرفون مكانتها عند ابنها، لتقنعه بالاستسلام. فقال لها: ألم يبلغك الأمر الذي صدر في حق من يطلب الاستسلام؟  فأجابته: نعم  يا بني، ولكني أمك  يا شامل.

فرد عليها: أنت داغستانية  قبل أن تكوني أم الشيخ شامل ولذا سيسري عليك ما يسري على أهل داغستان. وأمر أن تحمل أمه إلى الساحة العامة ويسدل عليها غطاء وتجلد.

وقف الناس ذاهلين أمام ما يجري، وبينهم وقف الشيخ شامل أيضاً. ولما جلدها الجلاد ثلاث جلدات قال له الشيخ: حسبك  يا هذا أنا سأتحمل عن أمي السبع وتسعين جلدة الباقية، وبدأ يتجرد من ثيابه، وراح مريدوه وقواده يحاولون ثنيه عن عزمه، قائلين له: أنت الشيخ شامل زعيم داغستان تجلد في الساحة العامة أمام الناس؟  بهذه الروح تربى مريدو الشيخ شامل ومنهم الحاج مراد، الذي تعرف إليه تولستوي مصادفة  حين كان  ضابطاً روسياً في القفقاس.

الحاج مراد اسم رواية قصيرة من روايات تولستوي  كتب مسوداتها العشر خلال السنوات من 1896 إلى 1904 لذلك لا نجد نصاً ناجزاً بيد المؤلف. في هذه الرواية يمسك تولستوي ناصية القول الفني المدهش, والذي يجمع على جودته خلق كثير, و تطرب  لوقعه أفئدة الملايين من البشر. أنظر كيف  يطل علينا من عليائه, من قمة التعبير الأدبي الساحر, وليس بيننا وبينه سوى مسافة الاستجابة لهذا السحر. فقد استقى عبقري الأدب الروسي من يومياته  المسودة الأولى من رواية الحاج مراد وكان عنوانها "التوت البري" وهذه الشجيرة  تنبت ما تزال في ضواحي مدينة إدلب في الشمال السوري, ونسميها "سنية برية" نأكل من ثمرها.

أعجب تولستوي  بحكاية  هذا الشجيرة  المقاومة والصامدة التي تنجو حتى بعد دهسها بعجلات العربة, وعبث الإنسان وجوره. وهي الرمز الذي اختاره تولستوي ليصنع منه إطاراً عاماً لروايته عن الحاج مراد حيث يقول في مقدمة الرواية: كنت أسير في الحقول متجهاً نحو منزلي. كنا في عز الصيف. وكانت الحقول يانعة والموسم خصيباً والحصاد وفيراً.

ثمة في هذا الوقت من السنة مجموعة رائعة من الأزهار تزين الحقول هنا وهناك, قطفت باقة كبيرة من مختلف تلك الأزهار واتخذت طريقي إلى البيت رجوعاً, فلاحظت في خندق قرب الطريق شجيرة توت بري في عز عنفوانها, فكرت في اقتطاف غصن من هذه الشجيرة وضمه إلى باقتي فنزلت إلى الخندق وطردت دبوراً كان قد تحصن في وسط الأزهار  نائماً هناك بسلام. حاولت أن أقطف الزهرة فوجدت العمل أصعب مما كنت أتصور, فقد أخذ الجذع يحز كف  يدي من كل جانب وبعد نضال عنيد نجحت في قطع غصن  بزيل مشرشر, بل إن الغصن ذاته لم يكن بعد قطعه بتلك الطلاوة والجمال كما كان على أمه. وأسفت كثيراً لأنني أتلفت بحماقتي تلك الشجيرة  التي قاومت عدواني بحيوية وعنفوان، كم دافعت في سبيل حياتها مستبسلة  حتى الرمق الأخير.

كان طريقي يمر في حقل حديث الفلاحة ذي تربة غنية سوداء. وكنت أفكر  بقسوة الإنسان حين لمحت شيئاً مكوماً على  الجانب الأيمن من الدرب الذي أسلكه, وحين وصلت إليه وجدته حطاماً لشجيرة توت بري أخرى. كانت الشجيرة بثلاثة أغصان, وكان أحدها مكسوراً وما تبقى منه ظل قائماً عارياً وكأنه جرموذ ذراع مبتورة,  أما الآخران فقد أزهرا وكانت الزهرتان بالأساس حمراوان ولكنهما أصبحتا الآن سوداوين. وكانت أحد الساقين مكسوراً تدلى طرفه العلوي باتجاه الأسفل وتعلقت بطرفه زهرة معفرة بالغبار والطين. أما الأخير فقد ظل شامخاً رغم تلطخه بالتربة السوداء. لاشك أن الشجيرة تعرضت لعجلة إحدى العربات التي دهستها فاستقامت ثانية محطمة لكن ظلت واقفة على قائمتها لقد انبعج جزء من جسمها-إن صح التعبير- وانبثقت أمعاؤها وبتر أحد أذرعتها وفقئت عينها مع هذا ظلت صامدة ترفض الاستسلام  للإنسان الذي دأب على تحطيم إخوته الأحياء من حوله.

حينئذ تذكرت حكاية داغستانية قديمة  شهدت بعض فصولها وسمعت أجزاء أخرى من شهود عيان وتخيلت الباقي وأليكم الرواية كما تشكلت في ذاكرتي.                          

هذه العتبة الجميلة الزاخرة بألوان الحياة النضرة التي يدخل منها تولستوي  إلى أحداث الرواية  شاهد حسن على النكهة الأخلاقية  التي  ميزت تجربة تولستوي الفنية وأمدتها بقوة فلسفية هائلة. لقد أهملت رواية الحاج مراد من قبل القائمين على نشر الأعمال الكاملة  لهذا الأديب العظيم. مع أن الرواية  تمتع بجاذبية خاصة تأسر القارئ لأنها مسرودة بكل أناقة مما يجعلها أهلاً للانتماء إلى ذلك الصنف من الأدب العالمي الرفيع المقام.

تُرجمت رواية الحاج مراد إلى العربية أول مرة في سلسلة روايات مجلة الهلال المصرية في خمسينيات  القرن العشرين بقلم الأستاذ مجد الدين حفني ناصف. ثم وجدت ترجمة أخرى بقلم المحامي السوري سهيل  أيوب, طباعة دار دمشق الطبعة الأولى 1982. وهناك ترجمة حديثة قام بها هفَال يُوسف وصدرت عن دار نشر التنوير 2016 ولكن هفَال أخطأ في ترجمة شجرة "التوت البري" إلى  نبتة "اللفت" وشتان ما بين النبتتين. وتولستوي يتحدث بوضوح عن شُجيرة التوت البري بكل أوصافها وأهل المدن لا يعرفون التوت البري إلا فيما ندر.

والذي نبهني لأهمية هذه الرواية  الأديبة السورية المعروفة ألفت الإدلبي -رحمها الله- حيث قرأت لها رواية  بعنوان: حكاية جدي. تناولت فيها كفاح أهل داغستان ضد الاحتلال الروسي. وألفت الإدلبي كاتبة قصة عريقة ازدهرت في النصف الثاني من القرن العشرين وهي دمشقية كرست معظم كتاباتها لمدينتها. ومدينتها دمشق مش إدلب وإنما تأدلبت تبعاً لزوجها على حسب العادة الغربية. رواية ألفت الإدلبي هي الثانية التي تناول هذه الفترة من كفاح أهل داغستان بعد رواية تولستوي الحاج مراد. تحدث تولستوي أثناء كتابة الحاج مراد عن الحاجة إلى التعبير بالفن عن  الجوانب المتغيرة والمتناقضة عند البشر إذا تغير السياق بدا الشخص ذاته بصورة جديدة.

قال: ما أحسن أن يتمكن المرء من كتابة عمل فني يعبر بوضوح عن طبيعة الإنسان المتحولة عن واقعة أنه شيطان وملاك في آن معناً حكيم وأحمق. وتماشياً مع هذه الآراء حاول تولستوي أن يقدم بطله الحاج مراد مقنعاً بأقنعة كثيرة مختلفة. ومن هنا نلمح جاذبية المشاعر العاطفية البشرية التي يتحرك من خلالها الحاج مراد والتي يسميها تولستوي مشاعر شديدة البساطة يومية ومتاحة للجميع.