قبل فوات الأوان - د. غسان الخطيب

2019-02-07

قبل فوات الأوان

* د. غسان الخطيب

لم يعد من الجدوى محاولة تحليل ومعالجة المشكلات المتزايدة التي تشغل بال الجمهور الفلسطيني في المناطق المحتلة، أولاً لأنها تتزايد لدرجة تجعلها غير قابلة للحصر، والجديد منها يشغل الجمهور والمهتمين عن التي سبقتها، وهكذا، وثانياً لأنها مجرد أعراض لأمراض، لا تجدي معالجتها دون استئصال أسبابها.

إن اختلال التوازن بين أذرع سلطة النظام السياسي الفلسطيني الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية، هو المنبع الأساسي لمعظم الأعراض التي تشغل بال الجمهور، وتدفعه للغضب والاحتجاج سواء بالنزول إلى الشارع أو بالتعبير بوسائل الإعلام التقليدية والحديثة.

اختلال التوازن بين هذه السلطات هو مصدر العلل، فهو يؤدي إلى غياب الشفافية وبالتالي إلى عدم الثقة والريبة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم، وهو سبب غياب المساءلة، مما يؤدي إلى الاستخفاف بتأثير السياسات والممارسات والمواقف على الجمهور وكذلك إلى تراجع نوعية الخدمات الأساسية، كما يؤدي إلى تراجع المشاركة في الحياة العامة، وهذا سبب عزلة أي نظام سياسي، ما يؤدي إلى توسيع الفجوة بين المؤسسات الرسمية وجمهورها.

والجذر الثاني لمشكلات النظام السياسي، إضافة لاختلال التوازن بين سلطاته، يتمثل بتآكل الشرعية، وإذا حفرنا أكثر قليلاً، فسنجد أن هذين الجذرين ناتجان عن غياب الانتخابات، أو تغيب نتائجها، الأمر الذي ألغى دور المؤسسة التشريعية، وأدى إلى تغول السلطة التنفيذية، حتى على حساب السلطة القضائية.

لقد استمدت منظمة التحرير شرعيتها من قيادتها لكفاح الشعب الفلسطيني وتضحياتها الجسيمة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وما أدى له هذا الدور من انتزاع الاعتراف العربي والدولي الذي نتج أساساً عن اعتبار الشعب الفلسطيني أن المنظمة هي ممثله الشرعي والوحيد. وفي مرحلة لاحقة، استمدت نفس القيادة شرعياتها من الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي جرت مرتين متتاليتين في تسعينات القرن الماضي. ومع مرور الزمن، ومع تراجع الدور الكفاحي، وعدم إجراء الانتخابات لمدة طويلة، تراجعت شرعية النظام، واختل توازن سلطاته الرئيسية.

هناك ثلاثة اتجاهات رئيسية في داخل النخبة السياسية الفلسطينية حول أفضل السبل للخروج من مأزق النظام السياسي، فبعضهم مهتم بترميم السلطة وإجراء انتخابات لها، باعتبارها مكسباً يمكن أن يتطور تدريجياً إلى دولة، ولأنها تضطلع بمهمات وخدمات سيشكل غيابها أذى كبيراً للجمهور، والاتجاه الثاني يعتقد أن السلطة جزء من الاتفاقات التي تتنكر لها إسرائيل وأنها انتقالية أصلا وانتهى وقتها، لذلك يدعون إلى استبدالها من خلال مؤسسات دولة، من خلال تشكيل مجلس تأسيسي أو ما شابه، أما الاتجاه الثالث، فيدعو إلى العودة إلى تفعيل مؤسسات المنظمة لأنها مصدر شرعية السلطة ولأنها تمثل وتوحد الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده. وغني عن القول إن هناك تداخلات كثيرة بين هذه الاتجاهات الرئيسية.

ولكن ما لا تستطيع أن تختلف حوله تلك النخب، أن كل الخيارات السابقة تحتاج إلى الشرعية الانتخابية، التي سيؤدي غيابها إلى استمرار التصارع حتى الانهيار. وهذا يقودنا إلى السؤال حول ما إذا كان نظامنا السياسي ما زال قادراً على حمل مشروع كبير وصعب مثل الانتخابات؟ أم أن مشكلات هذا النظام وخاصة مشكلة الشرعية تجعل الحديث عن الانتخابات متأخرا أصلا، وأن أوانها قد فات؟

يعتبر الرئيس أبو مازن آخر الشرعيات المعترف بها فلسطينياً ودولياً، ولكن بالطبع هذا لن يستمر إلى الأبد. لذلك، قد تكون مبادرة من الرئيس لإجراء انتخابات ما، سواء للسلطة أم للمنظمة أم غير ذلك، هي الفرصة الأخيرة لاستعادة الشرعية الضرورية لبقاء النظام السياسي الفلسطيني، والضرورية لاستمرار الكيانية الفلسطينية، واللازمة لاستمرار المشروع الوطني الفلسطيني.

وغني عن القول، إن الانتخابات، أي انتخابات، إذا تقررت، فتحتاج إلى تحضير، ويجب أن تأتي في سياق معالجة متكاملة للأزمة، وبالتالي، صحيح أن الانتخابات وحدها لا تشكل مخرجاً من الأزمة، ولكن الأصح أيضاً أن أي مخرج منها لن ينجح ما لم تكن الانتخابات جزءاً منه.

* أستاذ الدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت - فلسطين