الفلسطيني الشاب، ابن الثامنة والعشرين، يذهب إلى لندن "ليكمل نضاله الوطني فحسب" - د. ماهر الشريف

2019-03-16

 الراحل إميل توما

الفلسطيني الشاب، ابن الثامنة والعشرين، يذهب إلى لندن "ليكمل نضاله الوطني فحسب"

 بفضل الدور المتميز الذي قام به إميل، أصدر مؤتمر الأحزاب الشيوعية في الإمبراطورية البريطانية قراراً تاريخياً عن فلسطين، رأت فيه صحيفة "الاتحاد" "أهم حدث من أحداث المؤتمر"، إذ كشف - كما كتبت- النقاب أمام الرأي العام العالمي "عن دعاوي المستر بيفن المضللة وعن حقيقة الصهيونية الاستعمارية"، وأثبت "أن حل قضية فلسطين لا يكون أبداً بالتقسيم، أو بأي حل يشبه التقسيم، وإنما هو بجلاء الجيوش البريطانية عن فلسطين وباستقلال فلسطين استقلالاً تاماً"

د. ماهر الشريف

حيفا: مساء يوم الثلاثاء في 4 شباط 1947، الجموع من رجال الدين والقضاة والمحامين ومدراء البنوك ومدراء المدارس وممثلي البلدية والنوادي والاتحادات النقابية يتوافدون إلى قاعة النادي الأرثوذكسي العربي في حيفا لحضور حفلة شاي تكريمية أقامها الشاعر أبو سلمى، وحنا نقارة، وسمير شما، وجمال حميد ومحمد أبو زايد، من أصدقاء جريدة "الاتحاد"، لوداع إميل توما، عضو مكتب رئاسة عصبة التحرر الوطني في فلسطين ومندوبها إلى مؤتمر الأحزاب الشيوعية في الإمبراطورية البريطانية الذي سيعقد في لندن في 26 من الشهر نفسه.

وخلال تلك الحفلة، ألقى إميل حبيبي كلمة قال فيها: "يذهب إميل توما إلى لندن ليقول للرأي العام العالمي: إن الاستعمار البريطاني الذي ادّعى عدم مقدرته على مقاومة الإرهاب الصهيوني ولذلك يفرض الأحكام العرفية، يريد أن يقضي على حركتنا الوطنية قبل أن ترفع رأسها وتسير إلى الأمام... ليقول كلمة الشعب داوية مدوية: أما نحن فلن نقبل بمشاريعه ولن نستكين لأحكامه.. هذه هي إرادة الشعب، والشعب إرادته لا تلين... يذهب إميل توما إلى لندن ليكمل نضاله الوطني فحسب" (الاتحاد، العدد 35، السنة الثالثة، 9/2/1947، ص 1 و4). 

بعد وصوله إلى لندن، أرسل إميل مقالاً إلى صحيفة "الاتحاد" تناول فيه "مؤامرة " وزير الخارجية البريطاني إرنست بيفن "الجديدة"، الذي هدد  بإحالة قضية فلسطين على هيئة الأمم المتحدة، معتبراً  أن هذه المؤامرة  تهدف إلى تخفيف حدة الحملة الموجهة ضد سياسة الحكومة البريطاينة إزاء القضية الفلسطينية، خصوصاً بعد أن تبيّن "أنه لم يعد، في الوقت الحاضر، من طريق أمام المستر بيفن يستطيع بواسطته أن يوقف القضية الفلسطينية من أن تحال على منظمة الأمم المتحدة، لأنها من قضايا الانتداب الواجب إحالتها على هذه المنظمة".

وخلص إميل إلى أن من واجب الفلسطينيين أن يبادروا هم إلى عرض قضيتهم على مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، بحيث يظهروا قضيتهم الوطنية "أمام الرأي العالمي في مظهرها الصحيح: قضية شعب يطالب بحقه من الحرية والاستقلال وجلاء الجيوش الأجنبية عن أراضيه وتأليف حكومة وطنية دمقراطية مستقلة، هي وحدها التي تستطيع حل مشاكله الداخلية والخارجية" (الاتحاد، العدد 37، السنة الثالثة، 23/2/1947، ص 1).

في 17 شباط 1947، نظم الحزب الشيوعي البريطاني مؤتمراً صحافياً كبيراً لمندوبي الأحزاب الشيوعية في المستعمرات البريطانية، شارك فيه ممثلو أبرز الصحف ووكالات الأنباء، وحضره بالم دات رئيس الحزب الشيوعي البريطاني، ودارت معظم الأسئلة فيه حول القضية الفلسطينية، ومن الأسئلة المهمة التي أجاب عنها إميل مندوب عصبة التحرر الوطني:

س- ما هو حلكم لقضية فلسطين؟

ج- استقلال فلسطين، تأليف حكومة وطنية دمقراطية، جلاء الجيوش الأجنبية وإيقاف المشروع الذي يرمي إلى إنشاء "حصان طروادة" في فلسطين.

س- على من نترك فلسطين؟

ج- اتركوها لأهلها فهم في وضع يساعدهم على حل معضلاتهم، مثلهم في ذلك مثل أي شعب آخر.

س- ما هو موقفكم من الهجرة؟

ج- إننا نعارض الهجرة. إن الهجرة إلى فلسطين هي هجرة سياسية، ولا يوجد شيء يدعى هجرة لاجئين. إننا نقاوم الهجرة لأننا نقاوم المؤامرة الاستعمارية التي تستهدف جعل قسم من فلسطين "الستر"-الإشارة إلى شمالي إرلندا حيث تمكن الاستعمار البريطاني من فصل قسم من إرلندا عن إرلندا الأم تنفيذاً لمآربه-الجديدة لا في فلسطين فحسب بل في الشرق الأوسط عموماً (الاتحاد، العدد 38، السنة الثالثة، 2/3/1947، ص 1).

ومساء يوم 21 شباط 1947، ألقى إميل محاضرة عن قضية فلسطين ومنظمة الأمم المتحدة في جامعة إكستر حضرها جميع الطلبة العرب وعدد كبير من البريطانيين، أكد خلالها على أن الحل الوحيد لقضية فلسطين هو الاستقلال وجلاء الجيوش الأجنبية وإقامة حكومة وطنية دمقراطية، وقدم أرقاماً وإحصاءات عن مالية حكومة فلسطين وكيف تستغل الشعب العربي. كما زار جامعة كمبردج وتناول طعام الغذاء فيها مع رئيس جمعية الطلاب العرب وصفي حجاب من نابلس (المصدر السابق، الصفحة نفسها). 

في 26 شباط 1947، افتتح في لندن مؤتمر الأحزاب الشيوعية في الإمبراطورية البريطانية، وقام إميل بتلاوة برقية مرسلة إلى مندوبيه من اللجنة المركزية لعصبة التحرر الوطني في فلسطين بعنوان: "فليحيى تضامن القوى الدمقراطية في العالم من أجل الحرية والسلم والدمقراطية"، ورد فيها: "باسم أعضاء الحزب ومناصريه ومؤيديه من العمال والفلاحين والدمقراطيين العرب نحيي مؤتمركم، ونعلن عن تأييدنا التام لكل سياسة تتخذونها وتقود إلى تنسيق النضال الذي تقوم به الحركات الوطنية في المستعمرات مع نضال العمال البريطانيين في سبيل حرية المستعمرات سياسياً واجتماعياً، وفي سبيل استقلال فلسطين وتحررها التام". كما ألقى إميل خطاباً سياسياً في الجلسة الأولى للمؤتمر أكد فيه أن الحل الوحيد لقضية فلسطين هو بإعلان استقلالها وجلاء الجيوش الأجنبية عنها وتأليف حكومة وطنية دمقراطية فيها. وفي العاصمة البريطانية، تعرّف إميل إلى ممثلَي الحزبين الشيوعيين في سوريا ولبنان خالد بكداش وفرج الله الحلو (المصدر نفسه، ص 1 و 4).

في مطلع أيار 1947، وصل إميل إلى مدينة غزة، ومنها تابع مشواره، برفقة الشخصية الوطنية التقدمية حمدي الحسيني، إلى مدينة حيفا، حيث خفت حوالي خمسين سيارة إلى قرب العزيزية في ضواحي حيفا لاستقباله، كان من بينها سيارة الأساتذة أبو سلمى وحنا نقارة ومجد أبو زايد، وسيارات أعضاء عصبة التحرر الوطني الذين قدموا من مختلف المدن الفلسطينية.

وبفضل الدور المتميز الذي قام به إميل، أصدر مؤتمر الأحزاب الشيوعية في الإمبراطورية البريطانية قراراً تاريخياً عن فلسطين، رأت فيه صحيفة "الاتحاد"، "أهم حدث من أحداث المؤتمر"، إذ كشف - كما كتبت- النقاب أمام الرأي العام العالمي "عن دعاوي المستر بيفن المضللة وعن حقيقة الصهيونية الاستعمارية"، وأثبت "أن حل قضية فلسطين لا يكون أبداً بالتقسيم، أو بأي حل يشبه التقسيم، وإنما هو بجلاء الجيوش البريطانية عن فلسطين وباستقلال فلسطين استقلالاً تاماً"، معتبرة أن موافقة مندوب عصبة التحرر الوطني ومندوب الحزب الشيوعي اليهودي في فلسطين على هذا القرار "جاء صدمة للاستعمار البريطاني ولمشاريعه ولحليفته الصهيونية وللرجعيين العرب الذين يعملون بطريق غير مباشر على تقسيم فلسطين" (الاتحاد، العدد 40، السنة الثالثة، 16/3/1947، ص 1 و 4). ومما ورد في ذلك القرار:

"إن هذا المؤتمر الذي يشترك فه ممثلون عن الأحزاب الشيوعية في جميع أقطار الإمبراطورية البريطانية يوجه تحياته الصادقة إلى جماهير الشعب في فلسطين التي تناضل من أجل التحرر الوطني وفي سبيل القضاء على سيطرة الاستعمار البريطاني عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وفي سبيل الوقوف أمام تدخل الاستعمار الأميركي اقتصادياً وأمام مشاريعه الاستراتيجية، ويتعهد المؤتمرون، باسم أحزابهم، أن يقدموا إلى هذه الجماهير في سبيل حريتها واستقلال وطنها كل مساعدة في مقدورهم تقديمها...

إننا نعتقد اعتقاداً جازماً بأن من واجب جميع من يتعشقون الحرية ويسعون في سبيل السلم في فلسطين وفي جميع أنحاء العالم، أن يوحدوا قواهم للمطالبة بجلاء الجيوش البريطانية عن فلسطين، وإنهاء حكم الانتداب وتأليف دولة فلسطينية حرة مستقلة دمقراطية، هذه الدولة وتلك شروطها تستطيع حتماً أن تؤمن العدالة في الحقوق والواجبات لجميع السكان، وأن تؤمن حرية الدين وحرية التطور الثقافي لجميع سكان فلسطين من عرب ويهود...

إننا نحيي الحركة الوطنية العربية المتزايدة قوة ووعياً يوماً بعد يوم في جميع أنحاء الشرق الأوسط في نضالها من أجل الحرية واستكمال أسباب الاستقلال. ونحيي الجماهير اليهودية في فلسطين التي يجب أن تعرف أن لها دوراً تقوم به في النضال المشترك مع العرب من أجل تحرير فلسطين من الاستعمار. إننا نحذر الجماهير اليهودية من أن الصهيونية، التي تهدف إلى جعل فلسطين أو قسم من فلسطين دولة يهودية حليفة للقوى الاستعمارية ومركزاً لهذه القوى في الشرق الأوسط، أن هذه الصهيونية تحوّل نضال اليهود عن الطريق الصحيح الذي يقودهم إلى حل مشكلة اللاسامية، فإن حل هذه المشكلة يكون بالتطور الدمقراطي وبنشر التساوي في الحقوق في الدول التي يعيش فيها اليهود...

ولكن الاستعمار البريطاني- الأميركي لم يكتفِ بتسخير الصهيونية لتنفيذ سياسته المعروفة، سياسة "فرق تسد"، بل إنه يحاول أيضاً أن يكسب تأييد العناصر الرجعية العربية لمشاريعه ومؤمراته ضد الاتحاد السوفياتي وضد الحركة الوطنية التحريرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط. إننا نحذر الشعب العربي من هذه العناصر الرجعية العربية  المستعدة لخيانة الحركة الوطنية التحريرية إذا ما كسبت تأييد الاستعمار لمصالحها الفردية المغايرة لمصالح الجماهير..." (الاتحاد، العدد 41، السنة الثالثة، 23/3/1947، ص 2). 

وقبل مغادرته لندن، قام إميل بنشاطات مكثفة، إذ قدم  محاضرة  يوم 6 آذار 1947 في جامعة لندن، استمع إليها كلٌ من خالد بكداش وفرج الله الحلو وحشد غفير من الطلاب العرب والبريطانيين. كما أجرى سلسلة اتصالات مع أعضاء في مجلس العموم البريطاني، وأثار مع النواب الشيوعيين فيه قضية العمال المضربين في شركة بترول العراق في حيفا وتعديات البوليس والشركة عليهم، وأجرى لقاءً مطولاً مع هاري بوليت السكرتير العام للحزب الشيوعي البريطاني، واجتمع بأرثور هورنر السكرتير العام لاتحاد نقابات عمال المناجم المركزية، وحدثه عن قضية عمال الزيوت والتنظيم النقابي في فلسطين الذي لم تعترف به الحكومة الفلسطينية رسمياً، وألقى خطاباً في اجتماع موسع  نظمه مركز الشباب العالمي، كما عقد اجتماعات جماهيرية في أحياء لندن الفقيرة، كان من بينها الاجتماع "الرائع" الذي نُظم في حي "هكنى"، وشارك ظهر يوم 16 آذار 1947 في مأدبة غذاء كبيرة أقامتها الصحافة البريطانية على شرف الوفود المشاركة في مؤتمر الأحزاب الشيوعية، وقدم "تحية فلسطين" إلى المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي البريطاني (الاتحاد، العدد 41، 23/3/1947، ص 1 والعدد 42، 30/3/1947، ص 1 ).

وفي طريق عودته إلى وطنه، عرج إميل على مدينة باريس، حيث قدمه خالد بكداش وفرج الله الحلو إلى موريس توريز الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي ونائب رئيس الوزراء، ومن العاصمة الفرنسية انتقل إلى مدينة براغ، حيث التقى المسيو رايمن رئيس دائرة العلاقات الخارجية في الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، ووليم فوستر زعيم الحزب الشيوعي الأميركي. ومن براغ، انتقل إميل إلى بلغراد، حيث قابل الماريشال تيتو بحضور نائب وزير الخارجية اليوغوسلافي الجنرال فيليكس، كما زار جمهورية البوسنة والهرسك والتقى رئيسها الذي أقام مأدبة غذاء على شرفه (الاتحاد، السنة الثالثة، العدد 44، 13/4/1947، ص 1 والعدد 45، 20/4/1947، ص 1 والعدد 46، 27/4/1947، ص 1).   

وفي مطلع أيار 1947، وصل إميل إلى مدينة غزة، ومنها تابع مشواره، برفقة الشخصية الوطنية التقدمية حمدي الحسيني، إلى مدينة حيفا، حيث خفت حوالي خمسين سيارة إلى قرب العزيزية في ضواحي حيفا لاستقباله، كان من بينها سيارة الأساتذة أبو سلمى وحنا نقارة ومجد أبو زايد، وسيارات أعضاء عصبة التحرر الوطني الذين قدموا من مختلف المدن الفلسطينية.

ولما ترجل إميل، وكان بصحبته حمدي الحسيني وفؤاد نصار، دوت ساحة الخمرة بالتصفيق الشديد بحياته وحياة عصبة التحرر الوطني، وسارت الجماهير في تظاهرة ضخمة "أربى عددها على خمسة آلاف إلى مقر العصبة" الذي ازدان بأقواس النصر من أغصان النخيل والأعلام العربية تتصدرها يافطة كتب عليها "يا مرحبا بالقائد الوطني إميل توما". وكان إميل حبيبي من داخل القاعة، وبواسطة مكبرات الصوت، يبعث بتحيات عصبة التحرر الوطني ويرسل النداءات الوطنية. وبعد أن تليت تحية من السجناء السياسيين في سجن عكا المركزي، تحدث كلٌ من حمدي الحسيني وأبو سلمى وفؤاد نصار مشيدين "بالخدمة الوطنية الكبرى التي أداها إميل توما في ديار الغرب" (الاتحاد، العدد 1، السنة الرابعة، 4/5/1947، ص 1).