هذا الكتاب: إشكاليات التحديث الثقافي في فلسطين - المؤلف: سعيد مضية - مراجعة: محمود شقير

2019-05-07

هذا الكتاب: إشكاليات التحديث الثقافي في فلسطين

  المؤلف: سعيد مضية

مراجعة: محمود شقير

يجيء هذا الكتاب في مكانه الصحيح وفي وقته الصحيح لكي يميط اللثام عن الأسباب الموضوعية التي وقفت حائلًا دون تحقيق الحداثة بمعناها الحضاري العميق في فلسطين وفي غيرها من البلدان العربية؛ ولا يكتفي الكاتب الباحث سعيد مضية بذلك؛ بل إنه يجتهد في وضع المقترحات التي من شأن الأخذ بها وتطبيقها أن يخرج بلداننا من دوامة المراوحة في الموقع نفسه، وأن يمكننا من اللحاق بركب الشعوب المتحضرة وتحقيق المستوى المأمول من الرفعة والتقدم والازدهار على الأصعدة كلها بدءًا من الثقافة التي تحترم العقل ولا يقتصر تأثيرها على النخبة المثقفة؛ وإنما تمتد لتصل إلى قاع المجتمع حيث الناسُ المعنيون بالتغيير، وانتهاء بالسياسة المبنية على خطط وبرامج واعية بعيدًا من الليبرالية وأوهامها الزائفة، وبالاقتصاد المنزّه عن الاحتكار؛ المكرس لتحقيق العدالة الاجتماعية ولإنصاف الطبقات المسحوقة في المجتمع.

من أجل ذلك يعود الكاتب، بالاعتماد على ثقافته الواسعة وعلى مراجع رصينة لعلماء اجتماع معروفين ودارسين موثوقين؛ إلى المنابع الأولى لكي يثبت كيف أن سماحة الدين الإسلامي وما يتصف به من دعوة إلى العدالة، وإلى الابتعاد عن الإكراه في تبني المعتقدات؛ وغير ذلك من الصفات الحميدة التي كانت وما زالت ماثلة في جوهر الدين؛ والتي تجسدت في زمن الرسول محمد بأبهى صورها؛ قد جرى طمسها بفعل المصالح الخاصة لذوي النفوذ الذين جاءوا بعد الرسول وربما بعد عهد الخلفاء الراشدين إلى حدّ ما، واستلموا زمام الأمور وتحكموا في مصائر الناس وفي إدارة شؤون المجتمع، ليحلّوا في مكان السماحة والعدل والاحترام والرحمة والتراحم سلوكيات مختلفة ورؤى واجتهادات ليست من صلب الدين ولا من فحوى الرسالة، وإنما أملتها المصالح المصطرعة؛ ودعمتها أحاديث جرى انتحالها وإلصاقها زورًا بالرسول وبرسالته؛ وجرى في الوقت نفسه إسكات كل صوت ينتصر للحقيقة وللحق ولمنهج الدين الصحيح، بل وصل الأمر بأغلب الخلفاء والولاة الذين تعاقبوا على حكم المسلمين وبلاد الإسلام إلى استخدام القمع وجزّ الرقاب لفرض السيادة والهيمنة والنفوذ.

صحيح أنه على امتداد تلك العصور من تاريخ العرب والمسلمين التي امتدت حتى نهايات حكم العثمانيين، ظهرت حركات اجتماعية كانت ترى الأمور بمنظار مخالف لما كان يفرضه أولو الأمر من خلفاء وسلاطين وولاة؛ غير أن فداحة القمع والملاحقة أو عدم نضج الظروف التي ظهرت في رحمها هذه الحركات، وانفصالها عن القاعدة الشعبية التي لها مصلحة في التغيير، وعدم التصاقها بهذه القاعدة على نحو متين لهذا السبب أو ذاك؛ كان يعصف بها ويعزلها ويجعلها عاجزة عن الانتصار.

ولعل الدعاية الرسمية المضادة لهذه الحركات ووصمها بالزندقة وبالخروج على تعاليم الدين كانت تعزلها عن الناس وتسهل أمر نبذها ومن ثم القضاء عليها قضاء مبرما.

وفي الوقت الذي لم تجد فرقة المعتزلة التي اعتمدت العقل سبيلًا للنظر في أمور الشريعة والفقه الإسلاميين وفي شؤون الحياة اليومية للناس فرصًا مواتية للانتشار وللرسوخ في قلب المجتمع؛ كان الخلفاء وولاة الأمر يمهدون السبيل أمام الاتجاه السلفي المتناغم مع مصالح هؤلاء الولاة، لكي يأخذ من الدين مظاهره السطحية أو على الأصح يلصق بالدين بعض المظاهر والطقوس التي تعمق الجهل بالدين؛ ويعتمد النقل ويقصي العقل وكل ما من شأنه تعزيز نزعة التفكّر العميق في شؤون الدنيا والدين.

من هذا المنطلق؛ حوربت فرقة المعتزلة وتم الترويج للأشاعرة السلفيين؛ وحورب في الوقت نفسه ابن رشد الذي تركت فلسفته أثرًا واضحًا على الفلسفة الأوروبية، وأحرقت كتبه بأمر من السلطان؛ وتم الترحيب بالأفكار السلفية لأبي حامد الغزالي الذي كان ضد الفلسفة؛ وكان من الداعين لإبعاد العوامّ عنها، للإبقاء على دين الفطرة في قلوبهم؛ وهو ما يعني الترويج للجهل الذي يحول بين الناس وبين الحقيقة بأجلى معانيها.

وتمّ في الوقت نفسه التعتيم على إنجازات العلماء المسلمين في شتى صنوف العلم والمعرفة؛ تلك الإنجازات التي بنت أوروبا على أساسها نهضتها العلمية والفكرية.

ولذلك؛ وانطلاقًا من هذا الابتعاد المقصود عن العلم والفلسفة؛ جرى الترويج للسلفية بما تمثله من إقصاء للعقل وللجدل وللمنطق؛ وظلت متسيّدة على أمور الشريعة والفقه والنظر في أحوال المجتمع والناس وصولًا إلى العصر الحديث الذي جرت فيه محاولات للإصلاح الديني؛ ولفصل الدين عن الدولة وليس عن المجتمع، ولإعطاء فرصة للعلمانية لكي تأخذ مكانها في حركة النهضة العربية؛ هذه النهضة التي لم تصل إلى نهاياتها المأمولة بسبب نزعة التلفيق المصطنعة للمواءمة بين الأصالة والمعاصرة؛ ما أوقع مشروع النهضة في مأزق؛ وما جعلها تقصر عن الوصول إلى أهدافها؛ وقد جاءت حركة الاستعمار الغربي التي سيطرت على مقدرات شعوبنا منذ مطالع القرن العشرين؛ لتساعد مع الطبقات الاجتماعية المهيمنة ذات السمات شبه الإقطاعية شبه البورجوازية على إجهاض حركة النهضة العربية وتعميق مأزقها، ثم جاء قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي في العام 1948 على جزء من فلسطين؛ ومن ثم احتلال بقية الأراضي الفلسطينية مع أراضٍ عربية أخرى في العام 1967 لتكتمل دائرة الهيمنة والتسلط واحتجاز عوامل النهوض الفلسطيني والعربي، ووضع عراقيل جديدة أمام الحداثة التي لا بد منها لنفض غبار الجهل والتخلف وإقصاء العقل، والاستمرار في تغييب الدين الصحيح والعقلانية؛ والترويج للسلفية التي أنتجت عددًا من التنظيمات الأصولية المتطرفة، وإشاعة نزعات العنف ورفض الآخر المنتمي إلى الوطن نفسه؛ والفصل التعسفي بين دعاة التغيير والجماهير العريضة التي لها مصلحة في التغيير؛ هذا الفصل الذي تتحمل قوى التغيير وبخاصة اليسارية منها قسطًا من المسؤولية عنه، وتتحمل القسط الأوفر مواقع أجهزة الإعلام الحديثة التي تستغلها القوى المتسلطة للتحريض ضد هؤلاء الذين يحملون مشروع التغيير؛ وتسهم في الترويج لثقافة استهلاكية مريضة تسعى إلى حرف الناس؛ وأجيال الشباب على وجه التحديد عن تلمس المشكلات التي تحاصرهم وتهدر كرامتهم وتحدّ من طموحهم ومن فرص العيش الكريم لهم.

أخيرًا؛ يخلص الكاتب سعيد مضية إلى التطرّق للمناهج الدراسية التي تعتمد التلقين في المدارس والجامعات؛ ويحملها مسؤولية غير قليلة في خلق أجيال مستلبة فاقدة للقدرة على الابتكار؛ بعيدة  عن إدراك واقعها الملموس وضرورة المشاركة في تغييره، يخلص كذلك إلى أن المعضلة الأساس تكمن في تغييب ثقافة التغيير التي تعتمد العقل والمنطق والمجادلة وتستند إلى الفلسفة التي من شأنها ليس فقط إحلال الثقافة الصحيحة في قلب المجتمع؛ وإنما تغيير مناهج الدراسة في المدارس والجامعات؛ وإحداث حالة من التغيير الشامل في مختلف مناحي الحياة والمجتمع، لكي نكون أقدر على مجابهة المشروع الصهيوني في فلسطين؛ وعلى التصدي للحلف الذي يجري تشكيله بين بعض الحكام العرب وحكام إسرائيل برعاية أمريكية، تحت شعار التصدي للخطر الإيراني المزعوم، وهو في حقيقته لا يهدف إلا إلى تصفية القضية الفلسطينية وإلى التنكر للحقوق المشروعة الثابتة للشعب الفلسطيني في وطنه.

هذا كتاب جدير بالقراءة؛ ولا تغني هذه المقالة عن الاطلاع على ما يتضمنه الكتاب من آراء واجتهادات.

تحية للكاتب الباحث سعيد مضية.