إشكاليات التخلف في المجتمع العربي/ البنية الأبوية - عرض وتقديم/ سعيد مضية

2019-08-06

إشكاليات التخلف في المجتمع العربي/ البنية الأبوية

عرض وتقديم/ سعيد مضية

الأستاذ الدكتور الراحل هشام شرابي أحد أهم المفكرين والكتاب العرب الذي بحثوا في طبيعة المجتمع العربي وبنيته الاجتماعية لتفسير أسباب نكساته وهزائمه؛ إذ تناوله في سياق نقد حضاري للمجتمع العربي في نظام اسماه المجتمع الأبوي.

أرجع شرابي أزمة المجتمع العربي  الى بنيته الأبوية التي تكرس منطق السلطوية في اشكالها المختلفة، بدءًا بالسياسة ونظام الحكم، مرورًا بالنظام الأسري والنظام التربوي والتعليمي، وانتهاءًا بسيادة منطق القبيلة والعشيرة على مستوى البنية الاجتماعية، معتبرًا ان إشكالية التخلف الذي يعيشه الوطن العربي كامنه في أعماق الحضارة الأبوية والأبوية المستحدثة، ويسري في كل أطراف بنية المجتمع والفرد، تنتقل من جيل الى آخر كالمرض العضال. الإشكالية مجموعة مشاكل متشابكة ومتداخلة بحيث يستحيل  الخلاص منها دفعة واحدة، بمجرد إجراء أيا كانت فعاليته وشموليته. طرح شرابي النقيض الجذري - الحداثة الاجتماعية: تغيير شامل في البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التعليمية والسياسية، وذلك عبر تحليل اجتماعي جاء من أبرز المحاولات العميقة لتناول المجتمع العربي وتفسير تخلفه الحضاري والسياسي من منظور علم الاجتماع.

نشر الكتاب باللغة الإنجليزية عام 1988؛ وبطلب من المؤلف ترجمه الى العربية الدكتور محمود شريح، وصدر بالعربية عام 1991. يقول المترجم في تصدير الكتاب ان مصطلح الدكتور شرابي جديد وجريء، يستعين بمقولات هيغل وماركس وفرويد وفوكو وداريدا وغيرهم، ليقدم عرضا وافيا للمجتمع العربي، ثم يلحقه بتصور حل ممكن يتجنب الانغماس في أزمات مقبلة....

انطلق الدكتور شرابي في دراسته للمجتمع العربي ردا على زيوف دراسات انثروبولوجية صورت المجتمعات العربية في حالة سكونية تستعصي على التغير؛ إذ قاربت المجتمعات من ظواهر سطحية كالثقافة والتقاليد وعلاقات القرابة والبنى التربوية وتحليل الأمثال الشعبية أو نمط علاقاته الطبيعية؛ ومن هذه الدراسات وجدت الامبريالية المسوغ لحمل نظرة ازدراء عنصرية تجاه شعوب الشرق، ارتأتها شرطا  لشن حملاتها العسكرية الرامية فرض للهيمنة. أعيد النظرفي الدراسات الاستشراقية، مع الإبقاء على النظرة للمجتمعات في سكونها وثباتها في دائرة التخلف، ومن ثم التبعية. هكذا سقطت هذه الدراسات في فخ النظرة التأبيدية ولم تتمكن من استيعاب العوامل التاريخية، الاجتماعية والسياسية والخارجية التي كان لها دور مؤثر في ثقافة هذه الشعوب وحياتها.

هذا العوار المنهجي هو الذي حرض هشام شرابي على دراساته لإشكالية تخلف المجتمع العربي على أنها أزمة تكمن في بنيته الأبوية (البطريركية) الكامنة في داخله، وكان شرابي المبرز في هذا النوع من الدراسات.

يتألف الكتاب من عشرة فصول:الأبوية المستحدثة؛ الأبوية والحداثة؛ التشكل الاجتماعي للأبوية المستحدثة؛ أبنية الأبوية وعلاقاتها الاجتماعية؛ الجذور الاجتماعية للأبوية المستحدثة؛ الأبوية المستحدثة في عصر الامبريالية؛ خطاب الأبوية المستحدثة؛ النقد الجذري للثقافة الأبوية المستحدثة؛ هيمنة البرجوازية الصغيرة؛ وعاشرا ما العمل؟

يستهل الفصل الأول من الكتاب بشرح مفهوم "النظام الأبوي المستحدث (او المحدّث)" ويشير في هذا السياق الى بنى كبرى (الدولة المجتمع الاقتصاد) وبنى صغرى (العائلة او الشخصية الفردية).

"وتاريخيا تستمد ظاهرة المجتمع الأبوي المستحدث معناها من تعبيرين او واقعين يؤلفان بنيتها المادية:الحداثة والنظام الأبوي. الثاني يدل على شكل عام للمجتمع التقليدي؛ بينما الأول يشير الى تطور تاريخي مميز اتخذ شكله الأصلي في أوروبا الغربية- فكان بذلك اول انفصال عن المجتمع التقليدي. وهذا التحول الفريد في تخطيه النظام الأبوي قد عمل على صياغته فادى التحول نفسه الى إرساء التمايز بين النظام التقليدي والنظام الأبوي الحديث. وهذا التمايز في صلب نقاشنا ويتوجب الأخذ بالنظام الأبوي المحدّث باعتباره نتيجة سيطرة أوروبا الحديثة".(20-21).

 يتكئ الباحث كثيرا على منجزات علم النفس وعلم النفس الاجتماعي لرصد تلك الظواهر اللاشعورية التي تحكم تصرفات الأفراد والجماعات. وكما سبق الإشارة اعتمد على كتابات مفكرين آخرين ألقت أبحاثه الضوء على دخائل وخفايا المجتمعات في العصر الحديث. دارت ابحاثه حول محور الرأسمالية التابعة التي انطلق منها،  والتي لم يتنبأ ماركس بتشكلها، مع أنه قيم ثورية التحول الرأسمالي، اجتماعيا وثقافيا، للمجتمع التقليدي؛ سجل الباحث في مقدمة الطبعة الرابعة 1990 من كتاب "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" انه انتقل بعد أيام حزيران الحزينة، من رؤية ليبرالية للماركسية، فكرا أوروبيا "آخر"، وفي صيف 1967، شعرت "كانني اقرأه (ماركس) للمرة الأولى. أعرف تجربة هزتني بهذا الشكل منذ القراءة الأولى- وانا في السابعة عشرة-لنيتشه. لكن وقْع نيتشه في تلك السن كان عاطفيا أكثر منه فكريا؛ بينما نفذ ماركس إلى أسس تفكيري". اخذت ابحاث شرابي تلتزم بمنهجية المادية الديالكتيكية. من منظور معاصر تعتبر هذه التشكيلة الاجتماعية- الاقتصادية (الأبوية المستحدثة) تابعة، وهي الشكل الوحيد للرأسمالية الممكن نشوؤها تاريخيا إثر تنامي رأسمالية أوروبية وفي سوق عالمية يهيمن عليها الغرب. التبعية لا تنقل رأسمالية مكتملة النمو ولم تبق على الأصالة بتماسك روابطها ومتانتها.

يهدف شرابي من دراساته هذه إلى الكشف عن أسباب التخلف العربي وكيفية تجاوز هذا التخلف والتغلب عليه. التخلف هنا ليس تخلفاً اقتصادياً أو إدارياً أو إنمائياً، بل إنه كامن في أعماق المجتمع العربي لا يغيب لحظة واحدة، بل إنه يقبله ويتعايش معه، ويتخذ هذا التخلف صفتين متلازمتين هما: اللاعقلانية والعجز، الأولى تتجلى في عدم القدرة على التدبير أو الممارسة، والثانية في عجزه عن التوصل إلى الأهداف التي يرنو إليها. وإلى ذلك يعزو الانكسارات والهزائم وفشل حركة التنوير ومشاريع التنمية. ومن ثم فمصير المجتمع العربي متوقف على  مقدرته في التغلب على نظامه الأبوي واستبداله بمجتمع حديث.

ما الذي عناه شرابي بالنظام الأبوي في المجتمع العربي؟ في الفصل الثاني يوضح السمات الأساس للمجتمع الأبوي المحدّث: علاقات اجتماعية مركزية للتشكل الاجتماعي السابق للراسمالية. ويتفرد المجتمع الأبوي عن بقية المجتمعات الأبوية في العالم بظهوره على تخوم صحارى مترامية وهيمنة المدن والبدو على المزارعين. الأبوية العربية مغايرة للأبوية الأوروبية وغير الأوروبية؛ فلها سماتها الخاصة المتميزة بامتداد الصحاري في الوطن العربي. يظهر هذا النظام في البنى السياسية والاجتماعية والنفسية. السلطة الأبوية، كما لاحظها هشام شرابي في مؤلفه مقدمات لدراسة المجتمع العربي ليست سوى "افراز مجتمع بطريركي يقوم على علاقات القوة، أي على العنصر الأضعف، أي الاولاد والنساء والمهمشين أن يتقيدوا بالقوانين القائمة التي لا تقبل بتميز الأفراد واستقلالية إرادتهم. فالجماعي يغلب على الفردي، الذي يطلب منه ان يختفي، بهدف تمتين الرابطة الاجتماعية. وإذا كان الرجال هم الذين يسنون القوانين ويثبتون التقاليد والعادات ويحمونها، فإن النساء، الامهات، هن اللواتي يقمن بالمحافظة على ذلك كله، بوصفها القيَم الاجتماعية التي لا بد من ترسيخها في نفوس الاولاد"، خاصة البنات.

لاحظ شرابي بعداً ضمن هذا النظام هو التحديث الذي نتج عن احتكاك العرب بالحداثة الأوروبية. لم تتحول المجتمعات العربية إلى رأسمالية  مكتملة، ولم تبق على تراكيب كانت متماسكة وتحافظ علي انسجام الحياة؛ غدت المجتمعات العربية هجينة تخلت عن التقليدي وقعدت عن إيجاد البدائل. لذلك لا يمكن قراءة المجتمع الأبوي العربي إلا وفق رؤية التبعية والأبوية. ادى تغلغل الرأسمالية في الاقتصاد العربي الى نشوء رأسمالية تبعية ومزيفة. لم تظهر طبقة برجوازية ناضجة، ولا طبقة عاملة أصيلة.

البرجوازية الصغيرة أكثر الطبقات الاجتماعية تمثيلا للنظام الأبوي المستحدث وثقافته، تتعايش فيها أكثر القيم تناقضا فتتوالد بنى متفسخة وممارسات متناقضة تشكل مجتمعة السمات الأكثر تمثيلا للمجتمع الأبوي المستحدث. نمت البرجوازية الصغيرة إثر تفجر سكاني في الأرياف العربية حدث بعد الحرب العالمية الثانية، وفي سبعينات القرن غزت الاستهلاكية والسوق الحرة المجتمعات المحافظة. يوجد تماثل بين النظام الأبوي والتقليدي من النواحي الاجتماعية والثقافية، والنظام الأبوي يعاني انفصاما، حيث تختفي الحقيقة تحت مظهر التحديث فينشأ بينهما تناقض وتوترات. تفككت بنية النظام الى سلطويات محلية متنازعة متعادية ، لتواجه المجتمع ثلاث معضلات رئيسة: الهوية والتاريخ والحضارة الأوروبية او الغربية.

ولّدت اليقظة العربية في نهاية القرن التاسع عشر صراعا بين العلمانية والإسلامية، وبات النظام الأبوي امام نموذجين للحكم: العلمانية والأصولية. لم تحدث النهضة تغييرات نوعية على النظام الاجتماعي أو الأنساق الثقافية. وبقيت المشكلة الحقيقية التي يعانيها الوعي النموذجي التبعي مرتبطة ارتباطا وثيقا بنماذج الفكر اكثر من ارتباطها بمضامين تلك النماذج. "ولكي تكون عملية تحويل الوعي فعالة يتوجب قيامها على استقلالية ذاتية، أي مع استيعاب الأبوية وعلاقاتها النفسية، لاومن ثم قهرها والتغلب عليها، أو على الأقل بعد طمس تناقضاتها الداخلية. وعليه فإن الحداثوية التي تجد في أوروبا مجالات للتعبير عن الحداثة في الفن والأدب والفلسفة وكافة أشكال الإبداع الأخرى تصبح في ظل الأبوية ممارسة صنمية تابعة وغير نقدية. هنا تبرز الخاصية المشوهة والزائفة للحداثة الأبوية" (43).

النظام الأبوي ينطوي على خلخلة مهيمنة يستحيل على الأصولية احتواء مظاهرها. والنقد العلماني نقيض سياسي - ثقافي للأصولية يعاني أزمتين: محدودية تأثيره السياسي (لافتقاره الى التنظيم السياسي) ومواجهته جماهيريا (دينيا) يناقضه قدرة الأصولية على قلب المفاهيم وتعبئة الجماهير، حيث جرت هجمات واغتيالات لعلمانيين، واستمدت الأصولية دعما سلطويا من النظام.

لم يتوافق الاتجاهان في التوصل الى تطوير خطاب نقدي وتحليلي أصيل ومستقل قادر على معالجة معضلات الهوية والتاريخ والغرب. إن البحث عن الهوية أو ترسيخها بنمطيها العلماني والأصولي قد جرى في فضاء سياسي – ثقافي تشابك فيه التاريخ والغرب على انهما قطبا الصراع، "فلجأ كل نمط منهما الى الانجذاب الى قطبه الذي يستلهم مصداقيته على دعوته وتوفير أسس لرؤيته الهوية في الإسلام او القومية العربية" (27) .

أثبتت الثورة الإيرانية إمكانية الإطاحة بالنظام الأبوي، ولا يستبعد الباحث إمكانية انتصارها في باكستان ومناطق اخرى. .

وبالطبع فإن محصلة الصراع بين العلمانية والأصولية "لن تتحدد بتأثير عناصره الداخلية فقط؛ فلا شك أن هذه المحصلة ستتأثر بالاتجاه الذي يسلكه التاريخ العالمي، أي بمواقف الدول الكبرى من هذه المنطقة الحيوية في العالم، إضافة الى التطورات الناشئة في بلدان العالم الثالث."(30)

نقل الباحث عن ماركس قوله أن النظام الأبوي مرحلة تطور سبقت "التطور الكامل لأسس المجتمع الصناعي"، ويقصد بذلك الإقطاعية الأوروبية. في العصور الوسطى كانت الأرياف وليس المدن مشهدا لحركة التاريخ. "المدينة الآسيوية ظاهرة أبوية محددة كانت معسكرا ملكيا وليست بنيانا مدنيا؛ فإذا أراد المجتمع العربي أن يبقى ويستمر فلا بد من تغييره تغييراً جذرياً شاملاً، عن طريق رؤيةٍ بعيدة المدى ونوعٍ من الممارسة الجماعية تتخلص من الأبوية رمزاً وسلطة وتنتهي بتحرير المرأة قولاً وفعلاً وبالمشاركة في صنع القرارات على جميع مستويات النشاط الاجتماعي العام.

في الفصل الثالث- التشكيلة الاجتماعية للأبوية المستحدثة -  نظر شرابي إلى النظام الأبوي تسلسل تبدلات طرأت منذ عصر الجاهلية مرورا بالدول في العصر الوسيط ثم السيطرة العثمانية حتى القرن التاسع عشر.

البدوية  التقليدية السابقة على الحداثة تبدي مقاومة عنيدة بوجه التغيير البنيوي. غدت الأمة الإسلامية قبيلة كبرى وحد الرسول الكريم القبائل وطوع الروابط الاجتماعية والنفسية ضمن بنية المجتمع الإسلامي (48). نشأ في عصر الإسلام نظام تشريعي قوي في مراحل مبكرة نسبيا (القرن السابع).غيّر الإسلام صلة القرابة ودعّم العلاقات الأبوية داخل أشكال اجتماعية / اقتصادية متقدمة. استمرت الرابطة القبلية في جميع التشكيلات الأبوية عصبوية تعادي الخارج. العلاقات العصبوية محددة في الداخل بالطاعة والتكافل ومع الخارج بالخوف من الانتقام.

متى استقرت القبيلة تصبح عرضة لاوضاع خارجية شتى – مناخية وجغرافية الخ. يتحكم بالمجتمع المدني نظام القرابة في الريف وا لقبيلة.

تناول شرابي الأبوية العربية انطلاقاً من تصور محدد لبنية سيكولوجية –اجتماعية من الوعي المنطوي على سلم قيم وممارسات اجتماعية تنتمي إلى اقتصاد وثقافة واضحة المعالم، شكلت القاسم المشترك لجميع المجتمعات العربية رغم اختلافها من حيث المظهر. "الحداثة البطريركية وعي منمط، يعتمد على مثقفين يحافظون على قيم النظام منعكس عن الخارج، تعوزه الاستقلالية والإبداع والنقد. والذي جعل من قيام الدولة امرا طبيعيا بالنسبة الى المجتمع الأبوي المستحدث هو أن تلك الدولة لم تكن غير السلطنة القديمة في ثوب حديث. فالخاصية المميزة للدولة ، مثل الاستثمار الشخصي (شرعا وجورا) بالسلطة الذي يتمثل في أداة الدولة القمعية القسرية، والذي يستمد شرعيته ليس من مصدر قانوني (دستوري أو حتى تقليدي) ولكن من موقع القوة والتفرد بها. في هذا الواقع يصبح الفرد العادي فاقدا لفعاليته ـ يتحول الى ذات بلا مواطنة، ويتجرد حتى من حقوقه الإنسانية والمدنية. ويفقد القدرة على  التأثير في  القرارات ذات العلاقة بمجتمعه الأوسع" (37).

المجتمع البطركي يحبذ شيوع العائلة الموسعة (الأبوية). ويحد من انتشار الأسرة (الديمقراطية). الأبوية كلية نفسانية /اجتماعية تنطوي على سلم قيم وممارسات اجتماعية تنتمي الى اقتصاد وثقافة واضحي المعالم. في ضوء هذا المنظور فإن أنجع السبل لفهم الأبوية هو  الاقتراب منها من منطلق الحداثة، أي نقيضها الجدلي، الذي حل مكانها تاريخيا(35).

تختلف الأبوية عن الحداثة وفق الجدول التالي:

المقولة                        الحداثة                     الأبوية

المعرفة                       فكر /عقل                  أسطورة معتقد

الحقيقة                       عملية /نقدية               دينية /مجازية

اللغة                           تحليلية                      بيانية

السلطة                        ديمقراطية/اشتراكية      سلطنة أبوية مستحدثة

العلاقات الاجتماعية        أفقية                         عمودية

التشريع الاجتماعي         طبقة                         عائلة ، عشيرة، طائفة

الحداثة مفهوم أوروبي محصلة عملية تاريخية زمن النهضة والإصلاح. تنظر الحداثة الى الحقيقة ملموسة وواقعية، رفعت حجاب الوهم الديني والسياسي وكشفت جوهر العلاقات الاجتماعية؛ فأماطت اللثام عن خيارات وآمال جديدة ووفرت إمكانية تمرد. والحداثة مجتمع أصيل منفتح سياسيا واقتصاديا واجتماعيا؛ قواه علمانية ونمط تفكيره علماني. ومع ماركس وعلم الاجتماع الألماني توفر تفسير جدي للتاريخ والتغير التاريخي على انهما يستندان إلى أسس اجتماعية واقتصادية مادية (37).

الثورة البرجوازية ادخلت أكثر أشكال الحداثة دينامية –الهياج والحركة والتغيير المستمر. صاغ ماركس هذا المفهوم في البيان الشيوعي. الحداثة دينامية جدلية على مستوى الفكر وثورية على مستوى الممارسة (38). والحداثوية وعي بالحداثة رؤية ترمي الى تغيير الذات وتغيير العالم، وتعبرعن نفسها ليس في "العقل" و"الثورة" وحسب، بل ايضا في الفن والأدب والفلسفة.

الأبوية المستحدثة ظاهرة محلية ناجمة عن الاحتكاك بالغرب، في العصر الحدیث وأعادت إنتاج خطابھا التحدیثي في العصر الحدیث عن طریق اللغة والأدب. مفهوم محدّث دلالة على توفر عامل خارجي يؤثر في التطور الداخلي، بدفعه الى التحول. افراد محدَثين، نخبة محذثة او شريحة محدثة، يتشوه التطور الذاتي ليتخذ شكلا لم يكتمل نضوجه. جميع المجتمعات الأبوية تفككت بتأثير الحضارة الأوروبية. والتنافر الداخلي والتبعية دفعا بهذه الحضارة الى اتخاذ أنماط مشوهة مختلفة عن النمو التحديثي (40).

تتميز البنية المستحدثة بغياب التقليدية الأصيلة وبالمقدار نفسه غياب الحداثة الحقة . الثقافة التحتية مع التنوع المحدّث شاعت على الأقل في صفوف المتعلمين في جامعات الغرب فنشأوا مثقفين محدّثين. "ليس للحداثة الأصيلة من عدو أشد بأسا من هذا التشكل الاجتماعي الذي يعاني انفصاما حضاريا (41). وكما أورد البرت حوراني فأن "تكون مشرقيا يعني أن لا تنتمي الى مجتمع معين ولا تملك ما هو في حوزتك. هذا واقع يتجسد في الضياع والادعاء والتشاؤم واليأس"(41). النماذج في نظر المثقف المحدّث اصنام، محاكاة، وامتثال.تنقل عن الحضارة الرأسمالية قشورها المهترئة، ولا تنفذ الى اللب. لا يؤخذ بالأفكار والممارسات والمؤسسات، عبر النقد؛ ولكن بالإشارة الى نموذج القومية العربية مرجعيتها أوروبية، وكذلك السياسة ببعديها العقائدي والعملي انعكاس للنماذج الأوروبية. والحداثوية في ظل الأبوية ممارسة صنمية ثابتة غير نقدية.هنا تبرز بشكل واضح الخاصية المشوهة والزائفة للحداثوية العربية " (42).

مؤثرات اقتصادية أحدثت تغيرات في العلاقة:

1- مستوى تحصيل علمي فلم يعد المثقف يعتمد على الأب؛ فيضطر الأب للدخول في علاقة جديدة في المنزل ومع أفراد الأسرة.

2- الديمقراطية مساواة بدل الخضوع،

3- العائلة الحديثة تعتبر المرأة المستفيد الأول، حيث تحصل على قدر من الحرية ، شرط التحرر النسوي التعلم والعمل فيتحقق الاستقلال الاقتصادي.

برزت داعيتان لتحرر المرأة ناقشتا مشكلة الجنس هما نوال السعداوي عالمة النفس المشهورة وفاطمة بنيس عالمة الاجتماع. انتهجت الاثنتان توجها عقلانيا مختلفا جذريا عن توجه الإصلاحيين المبكرين، الذي اعتمدوا المنهج البياني والسطحي. غير أن تحرر المرأة  يظل قضية تربوية تمتد حقبة طويلة وتكافح المرأة من اجلها من المهد الى اللحد (54). المجتمع المدني غابة لا يحظى بالاحترام فيها أإلا الأغنياء وذوو السلطة.

يمارس اليابانيون الطاعة داخل الأسرة وفي المجتمع الخارجي، بينما العرب يمارسونها في الداخل (الأسرة والعشيرة والطائفة) ويعتبرون ما وراء ذلك معاديا.  كان الوطن العربي حتى القرن التاسع عشر مؤلفا من تجمعات مدن متناثرة ومعزولة وأحيانا مندثرة وقرى متخلفة وفلاحة فقيرة وبدو غزاة(55).

في الفصل الرابع - بنية الأبوية وعلاقاتها الاجتماعية- يرى الباحث ان الطبقية لا تستوعب موضوعة النظام الأبوي؛ فهو يناقش التشكيلة من منظور يصور التطور التاريخي للمجتمع الأبوي المستحدث ونشوءه، إضافة الى استيعاب ديناميته الداخلية.

المنظور الماركسي يرى نضوج قوى الإنتاج الحافز للتطور بصفته عملية ارتقاء واسعة، بفعل خاصية ثقافية لمجتمعات معينة. حين يغدو الواقع الاجتماعي اكثر تحديدا فإنه يظهر في مادية وتعقيد كاملين؛ لذا يتوجب على التحليل النقدي أن يكيف نفسه مع هذه المقاربة الأضيق في مواجهته ظواهر اجتماعية/ نفسانية وعبر استفادته من شروح ومقولات العلوم الاجتماعية المختلفة، بخاصة علمي النفس والاجتماع (59).

حقا فقد أثرت الدراسات الإنسانية العربية الفكر العربي بمعطيات علمية شملت علوم النفس وعلم النفس الاجتماعية والعلوم الاجتماعية وعلم النفس السياسي ودراسات في التاريخ العربي وتاريخ فلسطين القديم. يتوجب القول في هذا السياق ان معطيات العلوم الإنسانية لم تدخل الثقافة الوطنية العربية ولم ترشد النشاط السياسي والاجتماعي في المجتمع العربي. في ظل النظام الأبوي المستحدث حصل جمود سياسي وثقافي مضت الحركات السياسية في بيات طال عدة عقود متتالية. على سبيل المثال يعربد النظام العنصري في إسرائيل ويعلن الدولة القومية على نظام الأبارتهايد بحجج توراتية فندها علم التاريخ والأبحاث الأثرية في فلسطين. لم يرتفع حتى تاريخه صوت سياسي او ثقافي متنفذ يتحدى ادعاء اليمين العنصري اليهودي مستندا إلى معطيات حديثة برزت خلال فترة البيات تؤكد بطلان حكايات "الوطن التاريخي لليهود" و"أرض الميعاد" و"أرض إسرائيل". ليس المجتمع اليهودي بفلسطين إلا مجتمعا استيطانيا طارئا على فلسطين مثل المجتمعات الاستيطانية المندثرة في جنوب إفريقيا وموزمبيق والجزائر، وهو يسعى لأن يتوطد مثل المجتمعات الاستيطانية في القارة الأميركية وأستراليا ونيوزيلنده، بد أن يشرد السكان الأصليين او يجبرهم على الانزواء في معازل. هذه الحقائق لم توظف سياسيا في تحدي مفهوم الدولة اليهودية ولم توظف ثقافيا في حشد وتعبئة مقاومة شعبية حاشدة لنظام الابارتهايد الإسرائيلي.

يشير الباحث شرابي في الفصل الأول الى الانتفاضة الفلسطينية (1987) وحركة التغيير في المعسكر الاشتراكي، حدثان بارزان تحققا بعد ان فرغ من كتابه فلم يشر إليهما؛ لكنهما يمثلان نمطا جديدا يتميز عن الثورات والانقلابات التقليدية وصراع الأحزاب الإيديولوجية التي هيمنت على الساحة السياسية منذ بداية هذا القرن.

يمضي إلى القول "والجديد في هذا النمط تقلص دور العقائد والإيديولوجيات الكلية الشاملة وانتشار التعددية السياسية وانبثاق الحركات الشعبية. وهذه الأخيرة تمثل النمط الذي كان الباحث والسوسيولوجي الفرنسي ألان تورين اول من حدد معالمه على الصعيد النظري في كتابه "عودة اللاعب": النظرية الاجتماعية ما بعد المجتمع الصناعي، الذي لم اطلع عليه إلا بعد الانتهاء من وضع دراستي هذه.

ركز تورين على ما سمّاه "الحركات الاجتماعية" التي اصبحت في صوب نهاية هذا القرن (العشرين) القوة الاجتماعية القادرة على تحدي الوضع القائم ومجابهة سلطته المركزية دون اللجوء الى أساليب الثورة التقليدية. وشدد تورين على مفهوم التعددية في تحليله بنية الحركات الاجتماعية بكونها تمثل المجتمع في جميع مستوياته الاجتماعية والطبقية وتنظيماته السياسية، والاتجاهات الإيديولوجية. من هنا كانت مطالب الحركات الاجتماعية عريضة وشاملة: الحريات، الديمقراطية، حقوق الإنسان، العدالة الاجتماعية  الخ. 

إشكالية المقاومة الفلسطينية تمد جذروها في تربة الأبوية المستحدثة على قلب المجتمع، تفرض علاقة الولاء والخضوع، حيث المقرر هو إرادة ذوي النفوذ."

يقتبس الباحث رؤية عالم النفس التحليلي اللبناني، علي زيعور ، أن الذات منشاها اجتماعي، "والتكوين الاجتماعي للنفس الذي لقي تحليلا دقيقا لدى المحلل النفسي  الماركسي فيلهلم رايخ، رأى عملية التنشئة الاجتماعية تشترط مقدرته الداخلية على الوعي وتصوغ فهمه لنفسه وللآخرين" (61). النفسانية العربية تنتج من التنشئة الاجتماعية في ظل العائلة الأبوية. التبعية ترتكز على الخضوع؛ بينما الاستقلال الذاتي يرتكز على الاحترام المتبادل والعدالة. والقانون لا يخدم المجتمع؛ فهو خاضع لنزوات النظام الاجتماعي – السياسي القائم. يغدو الهدف من العقاب ليس الإصلاح، وإنما استعادة حرية العلاقات الاجتماعية القائمة وحمايتها" (66). حيال هذا الواقع يغدو التآمر والتمرد بديلان للمعارضة الشرعية والنقاش العلني. موهبة الإبداع تكون الضحية؛ إذ يسري هذا التأثير على الجامعات والمدارس والمستشفيات ووكالات الحكومة والتجمعات الحرفية، إضافة الى بيروقراطيات المؤسسة العسكرية والدولة  والحزب "الثوري". الأبوية المحدّثة (الأبوية المستحدثة) هي السبب وراء كل محاولة يقوم بها  المجتمع لردع الحداثة والحفاظ على الوضع القائم"(66).

العائلة هي أصل المجتمع الأبوي المستحدث ونموذجه؛ خاصة في علاقات التسلط والهيمنة والتبعية التي تنعكس في بنية العلاقات الاجتماعية. وسائل التربية المجتمعية لا تعد الفرد لأن يكافح ويقارع او يناقش؛ الأب اداة القمع الأساس والعقاب مصدر نفوذه. ومصدر كل ذلك خرافات تمنع التغيرات الاجتماعية. لم تتجذر العقلية العلمية في تفسير الظواهر ولم تنظم العقلانية نشاط الأفراد؛ هكذا فالسمات الشخصية لا تصدر عن "طبيعة " جوهرية، بل عن سمات تعود الى الوضعية الاجتماعية.

وحتى سن السابعة يظل الطفل معتمدا على الأب؛ وفي غياب الأب يفقد قانون الطاعة فاعليته؛ وفي الحادية عشرة أو الثانية عشرة تصبح الطاعة دائمة حيث ينكفئ الفتى وتتمثل له صورة الأهل والسلطة. يدور في مواقف متناقضة يغدو الاحترام حينئذ أحاديا، في نظر بياجيه، عالم النفس السويسري، أما الاحترام المتبادل فيولد في الطفل أخلاقية حرية ومساواة وعدالة.

القاعدة المرشدة تغدو حينئذ احترام القوانين أكثر منها احترام التبعية، ورغبة تغيير القوانين ليست خطيئة، والتعديلات المدخلة على التشريعات تغدو موضع الموافقة والنقاش. ما رغب الباحث التوكيد عليه هو ان "هذا الانتقال لا يبدو كاملا في العائلة العربية المستحدثة؛ فهذه العائلة تستمر في تغذية قيم التبعية ومواقفها" (64).  وما خرج به رايخ يوجز المغزى الاجتماعي لهذه المعضلة :هذه العائلة تخلق الفرد الخائف أبدا من الحياة ومن السلطة. هكذا فإنها تخلق من جديد امكانية قيام حفنة من الأفراد ذوي النفوذ بتسلم السلطة وقيادة الجماهير، تعزز النظام الأبوي المركزي، وتضمن استمرار النموذج الأولي للسلطة الأبوية. سلطة الأب وشيخ القبيلة والزعيم الديني (وليس الزعيم القومي او الوطني) هي التي تحدد وجهة ولاء الفرد وموضوعه. يشعر الفرد بالانتماء الى نظام اجتماعي يمنحه الشعور بالأمان والحماية. اللجوء للدولة الأبوية لا يضمن الحماية والعدالة؛ فالوعي المستحدث يخترق القوانين ويصادر الحقوق. في هذا المناخ يتم اللجوء إلى الواسطة. تقليد الواسطة يوفر بعض المرونة والحيوية. ينشئ الفرد اجتماعيا ويدربه على الشعور بالرضى لسيادة السلطة.

العائلة الأبوية نموذج تختزل فيه جميع سمات المجتمع الأبوي، فهما يقومان على التسلط والتبعية. نظام حكم فردي يمنع سريان ما يسمى العقد الاجتماعي. الأب يتولاه اليقين من أنه القادر وحده والعارف وحده ما يتوجب على أولاده أن يقوموا به، أن  يتعلموه ويعرفوه حاضرًا ومستقبلاً. الأبوية هي القدرة المطلقة والسلطة الأكيدة التي تتخذ، آنذاك، القرارات التي تُلزم مستقبل أبنائها. مع ذلك فإن هذه الأبوية ليست معصومة من الخطأ، ولبعض قراراتها نتائج وخيمة على الأبناء ومستقبلهم. سلوك الأب أو موقفه، تنبع من حسن الإرادة، ومن اعتقاد  أنه معصوم من الخطأ، هو سلوك يتّصف بالأبوي، يلحق أضرارا بالأبناء وقد يخمد جذوة الذكاء لديهم. في كتابه "مقدمات..."، يشير شرابي الى ان "التعليم في نظر الأبوين هو التعليم الجامعي. فهما لا يعرفان ان أهم تعليم هو الذي يتلقاه الطفل في سني حياته الأولى، وان هذا التعليم بالذات يحدد نمو الطفل اللاحق برمته.

لذا فعلى الأبوين أن يعرفا أنهما إذا أرادا ان يتيحا لطفلهما أفضل فرص النمو فان هذا يجب ان يحصل في سن مبكرة . ذلك ان طريقة المعاملة في سني الحياة الأولى هي التي تتحكم في نمو الشخصية فيما بعد". التربية البيتية في الصغر تحدث جروحا عميقة في النفس يصعب ،اكتشافها إن لم  يكن ذلك مستحيلا،  لكنها عوامل تشويه في السلوك  اللاحق. يجري التمويه على الاختلالات بمختلف الأساليب.

التمويه الذي ينطلي على الصغار نتيجة التعسف في المعاملة يستحيل معرفة كنه العقَد المتشكلة عنه. هذه العواقب هي وخيمة من الصعب، لا بل من المستحيل تصحيح الأخطاء، والأولاد هم الذين يتحملون سلبياتها، طوال حياتهم. أحيانًا يندرج السلوك الأبوي، على كلَّ منظمة أو مؤسسة مثل المدرسة، يتخذ فيها أحد الأشخاص القرارات في سبيل الآخرين من دون العودة إلى إرادتهم. مما لا شك فيه أن هذه السلطة الأبوية، أكانت فردًا أم مؤسسة، أم المجتمع بحالته الواسعة، تستند إلى ثقافة مجتمعية، هي مجموع أحوال السلوك والتصرف والتموضع والتفكير الخاصة بجماعة بشرية، تظهر بشكل اقتناعات عميقة تبدو قريبة إلى العقيدة. يحصل تفاعل  بين الثقافة السائدة والتعليم.. تغذيةٌ وتغذيةٌ ارتجاعية. مجتمع الخدمات والاستيراد لا يعبأ بالبحث، يكتفي بالشهادة جواز مرور لوظيفة بيروقراطية تتوسل فرض الموقف بالأوامر دون إقناع؛  أو تسليك الأمور بما تيسر، بالفهلوة  والشطارة.

وفي المجتمع القائم على الانتقام واعتماد القوة الذاتية بدل القانون لا يتورع الأب، أن يطلب من ولده أن ينتقم من رفيق له، يضربه أو يعتدى عليه، لا أن يحتكم إلى سلطة الإدارة المدرسية.

في الفصل الخامس - الجذور الاجتماعية التاريخية للأبوية المستحدثة- يوضح الباحث دور القرابة التي استمرت أساسا للعلاقات الاجتماعية العربية في إعاقة تطور الأرياف والمدن. مركزية الإقطاع، كما يراها سمير أمين نوعا من التشكل الاجتماعي لم تظهر إلا في القرن التاسع عشر ، وذلك نتيجة تأثير الارتباط التبعي بالامبريالية الأوروبية ونتيجة التشريعات الإصلاحية للدولة العثمانية فتشكلت بالنتيجة طبقة واسعة من الملاكين العقاريين.

 وفي مجال الوعي برزت أدبيات الليبرالية العلمانية والإصلاح الديني الإسلامي، احدثت تغيرات على الوعي الاجتماعي. تشكلت سلطنات حديثة ودول صغيرة حديثة، تبدلت أشكال السلطة السياسية العربية وأكثرها جوهرية نمط السلطة القبلية الأبوية في الجاهلية. نشأت عدة أنماط  يجملها الباحث في ستة:

1- الأبوية القبلية في الجاهلية.

2- أنماط الحكم في الإسلام خلال الفترة من القرن السابع حتى الثالث عشر، سيطرة الهوية الدينية في العصر الوسيط وشهد المجتمع العربي حركة الرسول الكريم تجاوز هوية العائلة – العشيرة، وأحل امة الإسلام بديلا لها.

3- سلطنات ذات حكم مطلق تشكلت  منذ بدايات القرن الثاني عشر،على أنقاض انحلال الدولة التوسعية الواحدة وتفككها السريع،حيث سيطرت النخب التجارية.

4- الدولة العثمانية.

5- رد فعل على الركود الاقتصادي إثر اكتشاف رأس الرجاء الصالح وانتقال طرق التجارة من العالم العربي، حدث تفكك سياسي- عسكري، وأدخلت التنظيمات العثمانية.

6- الحركة القومية العربية دعت لتجميع العرب تحت راية عقيدة علمانية في وطن واضح الحدود الجغرافية. خلال هذه المراحل برهنت القبيلة الأبوية عدم قابليتها للتغير وبقيت تركيبة أساسية في بنية الأمة بمعنييها الديني والعلماني. ظهر ادنى أنماط الهوية – العشيرة - على أنه حجر الأساس في بنية الإطار العالمي التي  رمى الإسلام الى إقامتها. والمفهوم العلماني انطوى على البعدين الإسلامي والقبلي. بصدد الإقطاعية والنظام الأبوي تطورت البنية الأبوية خلال تطورها الاقتصادي- الاجتماعي الى تشكل قبلي / تجاري تميز بالتجارة البرية اكثر من تميزه بالإنتاج الزراعي المحض.

 اعتبر سمير امين، على غرار ماركس، أن التشكل اتخذ صفة نمط إنتاج "رافد وغير إقطاعي". ظهرت في وقت متأخر المِلكية الزراعية مصحوبة بنمط اقطاعي، أي حين اندمج الشرق الأوسط بالسوق الرأسمالية العالمية ووقع تحت سيطرة الامبريالية المباشرة. وهذا ما يلقي الضوء على التطور المثير للأصولية العربية، ويطرح السؤال المركزي :كيف اختلف تطور الإقطاعية الأوروبية عن تطور النظام الأبوي في العالم العربي؟ وما هي نتائج الاختلاف؟ لم يتطور في العالم العربي نظام مدني يعرف القانون والقضاء النزيه.

هذا بينما تجاوزت الإقطاعية الأوروبية نظام القرابة وروابط الدم. "في اوروبا استبدلت الإقطاعية الروابط القائمة على القرابة والدم بروابط اجتماعية وسياسية، في حين ان صلات القرابة في المجتمع الأبوي العربي بقيت الروابط الأساسية، واستمرت العائلة – العشيرة الوحدة الجوهرية للعلاقات الاجتماعية والسياسية. وفي حين تمكنت الإقطاعية في أوروبا الغربية من خلق سلطات محلية متزامنة مع السلطات المركزية ومراكز الإنتاج الزراعي، فان المدن في الوطن العربي لم تتطور ابدا الى بلدات مستقلة، وبقيت دائما منعزلة عن القرية ، فنشأ هناك تنافر تاريخي بين المدينة والريف" (71).

النظامان العربي والاوروبي في القرون الوسطى ارتكزا على عدم المساواة؛ تماثل الفرسان والفلاحون في أوروبا، حسب تعريف سمير امين المستند الى مقولات ماركس، مع تقسيم العمل بين التجار والمزارعين والمحاربين في الأرياف العربية. اما الفارق فيكمن في طريقة التعبير عن مفهوم السلطة في المنطقتين. رغم استغلال الفقراء واضطهادهم فإن النموذج الأوروبي قد أبرم ميثاق عقد اجتماعي ما يزال العرب يتوقون الى العيش في كنفه.

الحكم العربي استمد شرعيته من الحق الإلهي وليس من رضى الرعية؛ اعتبرت الثورة على الحاكم امرا غير مبرر مهما بلغ ظلمه؛ غير ان القاعدة انتهكت مرارا؛ وحدثت تمردات وثورات .

خلال الحكم العثماني تدهور الاقتصاد العربي وكسدت التجارة ولم تتطور الحرف. بدل دعم التجارة لجا الحكم إلى مضايقة التجار، وتهديدهم  ومضايقتهم. لم تتوفر ظروف ملائمة لتطور رأسمالية حداثية الى جانب النمط الرأسمالي التقليدي. جلبت الظاهرة انتباه مونتسكيو في كتابه "روح الشرائع"، فرصد الحالة العربية حيث "يعلن الأمير نفسه مالكا للأرض ووريثا لرعاياه لا يصلح حالا، تنشأ الدور للسكن فحسب، ولا تشق ترع، ولا يستنبت شجر ، كل شيء يستمد من التربة ولكن لا يعود اليها شيء، لا تحرث الأرض، وتغدو الأرض بأسرها صحراء" (73).

نشأت طبقة شيوخ القبائل يقطنون المدن وليسوا من الأريستقراطية الزراعية الإقطاعية، تعززت مواقعها بفضل تشريع قوانين الملكية. فجأة وجد هؤلاء انفسهم ملاكين شرعيين لإقطاعيات واسعة كانت سابقا ملكية جماعية لأفراد العشيرة. هكذا تملك امير وادي الحوارث أرض القبيلة ورهنها لسداد تكاليف إسرافه السفيه، ثم بيعت بالمزاد العلني وكان الصندوق القومي اليهودي هو الفائز بتملك الأراضي الشاسعة. ساعدت شرطة الانتداب على طرد مزارعي وادي الحوارث من ديارهم.  تغذت بنية الأبوية بزخم سياسي جديد، والامبريالية عززت ايضا نفوذ شيوخ القبائل والعائلات التجارية والمثقفين ورجال الدين والأعيان المحليين، ووفرت لهم مكانة اجتماعية جديدة. في منتصف القرن العشرين برزت برجوازية وطنية واضحة المعالم حين انجز الاستقلال الوطني السياسي.

تدنى المجتمع المصري الى مستوى انحلال كامل عشية الغزو الفرنسي عام 1798، وغدا الريف يبابا جراء غزو الجند وجباة الضرائب والبدو. انحصر الإنتاج في حرف محدودة، كما افتقر المجتمع الى تنظيمات بلدية مستقلة أو أي شكل من أشكال الاستقلال المدني. بخلاف اليابان، الذي تزامنت  نهضته مع إصلاحات محمد علي في مصر،"ظل الحافز العربي للتحديث خارجيا على الآقل في مراحله الأولى"(75).

حدث اندفاع للتحديث منذ منتصف القرن التاسع عشر، ولولا انهيار الجبهة الاقتصادية لتكيف العرب مع الهجمة الأوروبية. وعت اليابان تماما خطر القروض الأجنبية واعتمدت على مواردها، خاصة فوائض الزراعة، بينما اعتمدت الامبراطورية العثمانية ومصر على القروض من أوروبا. انفتحت اليابان على أوروبا وهي مهيأة اقتصاديا وسياسيا وثقافيا للتعامل مع التحديث.

يتعمد الباحث المقارنة بين تطور المجتمع العربي وتطور اليابان. دخلت اليابان مرحلة الرأسمالية وحدثت مجتمعها؛ بينما استمر المجتمع العربي علي تخلفه.

منذ بداية القرن التاسع عشر راح الوطن العربي يندمج مع النظام الرأسمالي في موقع التابع. وخلال الحرب العالمية الأولى كان الوطن العربي هامشا آمنا للسوق الرأسمالية، ما رسخ علاقة التبعية الاقتصادية والثقافية. لم تندحر التبعية، ولم تخفف مع الاستقلال، تم الاحتفاظ بالبنى القديمة في الجيش وبيروقراطية الدولة والمحاكم والشرطة والتربية. التعليم من الحضانة حتى الجامعة اختط المنحى الأوروبي وبقي التناقض مستترا بين القومية والجناح الأصولي، وهيمنت الليبرالية العلمانية في مصر وسوريا والعراق في فترة ما بين الحربين العالميتين (ينفي سمير أمين علمانية الأنظمة، حيث سخرت مشايخ يضفون سمة إسلامية على قرارات الأنظمة). فشلت الليبرالية العلمانية في إنجاز الوحدة القومية وفي إنجاز التنمية، وجيرت على العلمانيين العرب هزيمة حزيران، ما اعطى دفعة نهوض للأصولية الإسلامية بشكل حركة خلاص بوجه التحديات الخارجية والداخلية. 

"يبدو أن الحاجة الداخلية الى التحديث لم تكن قد تبلورت الى حد كاف للتعبير عن أهداف اجتماعية واضحة المعالم. وحين وصف الجبرتي مواقف العلماء المسلمين غير المكترثة للعرض الفرنسي لعجائب العلم الأوروبي الحديث، فإنه يميل الى الاعتقاد أن المجتمع الأبوي آنذاك لم تكن لديه الرغبة في التحديث (يبدو ان اليابان وحدها في الوطن غير العربي قد تمكنت من الاستجابة للغرب وتبعا لأسباب اجتماعية واقتصادية معينة  بنهج استقلالي ونمط موجه)" (75).

أخفقت الليبرالية العربية والقومية واليسار الراديكالي وتعثر الجميع خلال الحقبة 1920-1970وتزامن الإخفاق مع بداية اكتساب الجماهير العريضة الوعي السياسي واندماجها في الحياة السياسية  بفضل اتساع التعليم والخدمة العسكرية وثورة المواصلات والاتصالات والتحول البروليتاري والهجرة الى المدن.  بدلا من التحول الى الديمقراطية والاشتراكية تم الارتداد الى أشكال تشبه السلطنات القديمة، تقوم على سلطة فرد بلا كابح.غدت الأنظمة الاستبدادية قلاعا حصينة بفضل ما توفر لها من وسائل الهيمنة، خاصة نظم الاتصال الجماهيري. في هذا السياق أحدثت الليبرالية الجديدة وعولمتها ردة في العالم عن الديمقراطية الليبرالية. المجتمع الأميركي شهد خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين ولا يزال انحسار الديمقراطية، حيث اندمج الرأسمال المالي بالسلطة السياسة، وهيمن بواسطة المال السياسي على الهيئات التمثيلية. تراجع التعليم، خاصة التعليم الجامعي الى وضعية تماثل الالم الثالث.

تنتشر في بلدان الغرب عملية تقليص التعليم النقدي من أجل ثقافة نقدية وديمقراطية راديكالية. وهذا لم يتطرق اليه كتاب هشام شراب؛ يبدو ان إفرازات الليبرالية الجدية في حقل الثقافة لم تتوضح اثناء إعداد الدراسة.

احتفظت السلطة السياسية بصلاحيات القمع واتسعت قدراتها الاقتصادية، غدت الدولة أكبر موظِف للعمالة ازداد الأغنياء غنى وتدهورت اوضاع الجماهير الفقيرة. "ان نشوء الدولة السلطنة بموازاة النمو المستمر للأصولية الإسلامية يجب ان ينظر إليه على أنه المحصلة للقوى المتجذرة نفسها التي أدت الى ظهور المجتمع الأبوي المستحدث، على انها التعبير عن الثقافة التقليدية للأبوية التي حمتها الامبريالية الغربية في نظام التبعية الرأسمالية " (78).

في الفصل السادس -الأبوية المستحدثة في عصر الامبريالية- يفيدنا الباحث ان "الإرهاب كنظام عقلاني للقمع والسيطرة اختراع أوروبي جرى تطبيقه أساسا على كل الشعوب غير الأوروبية "(90). ارتكز نجاح الإرهاب في العالم الاستعماري على حقيقة أساسية: التفوق العسكري غير المنازع، فحيث تصادم الأوروبيون والسكان الأصليون كان الإرهاب ينزل بالمستعمَر، على غرار ما حصل في فلسطين. كمستعمرة مباشرة جردت اسرائيل الفلسطينيين من املاكهم وشردتهم الى اماكن نائية، مثلما فعل الفرنسيون بالجزائر والإيطاليون في ليبيا. مع تأسيس الدولة عمدت إسرائيل الى اتنهاج أساليب استعمارية مالوفة؛ استخدمت القوة وانتزعت الممتلكات من أصحابها. "اعتبر المستوطنون الفرنسيون والإيطاليون والصهيونيون ان سكان البلاد الأصليين عثرة في وجه المشروع الاستعماري ، فتعاملوا معهم  على انهم مستعمَرون، دون الالتفات الى الحقوق الإنسانية او القوانين الدولية"(84). 

في هذه المجموعة تشكل نوعان من القيادة المحلية: معاد للاستعمار ومحافظ. اما البلدان الأخرى فقد اكتفت بالسيطرة غير المباشرة بإخضاع الاقتصاد الوطني للمصالح الامبريالية، بمساعدة السلطة الأبوية. غير أن "ادبيات الاستعمار جاءت أشد وقعا من الاحتلال العسكري؛ بخلاف الاستعمار السياسي القديم فقد فرض الاستعمار الحديث سيطرته بتحويل المستعمَر من كائن يثق بنفسه ومتمكن مما يقوم به الى مخلوق لا يؤمن إلا بقدرة الآخرين(90).

"قامت الحركة الواعية الى تجذر الإسلام بمرافقة "التحديث". "ارتبطت بها جدليا، وعلى نحو مماثل للتغريب و'التحديث’.كانت الأصولية الإسلامية ظاهرة نفسانية اجتماعية تتخذ شكلها في ظل الهيمنة الأوروبية ردة فعل لها .إلا أنه يتوجب تفسير الإسلام المسيس (الأصولية) ليس على رفض القيم والأفكار الأجنبية ، بل على أنه محاولة لإضفاء محتوى إسلامي جديد على مفهومي الذات والمجتمع عن طريق صياغة عقيدة إسلامية خلاصية. وهكذا يمكن القول ان أحد أشكال الأصولية الجذرية لردة فعل الأبوية كان الى حد كبير نتيجة الامبريالية الأوروبية والتحديث" (86).

يفسر الباحث كيف  تفوقت اليابان ونجحت حيث فشل العرب وخضعوا للهيمنة. يعود لموضوع المقارنة مع نموذج التطور الياباني الناجح ، حيث تزامن نهوض اليابان مع نهوض محمد علي في مصر. يورد فرقا موضوعيا تمثل في بعد اليابان وعزلتها خلف المحيطات ما أتاح لها إمكانات التطور المستقل. لكن الأهم في العملية ، والفارق الجوهري أن "حكم الامبراطور مثيجي 1868، تميز فيه النظام الأبوي الياباني، وبخلاف مثيله العربي(أو الصيني او الهندي) بخاصتين فريدتين : وحدة سياسية –جغرافية وقيادة حكيمة قديرة". هذه الملاحظة تجاهلها منتقدو الكتاب موضوع العرض؛ إذ أجمعوا على إيراد مثال اليابان، نظاما أبويا استطاع التطور المستقل اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، كناية عن تبرئة النظام الأبوي"(92).

يتوصل الباحث الى استخلاصات تباغت القارئ" خلال مرحلة النضال لتحقيق الاستقلال لم تتحول أي انتفاضة تقودها الزعامة الوطنية الى حركة جماهيرية دون استلهام الباعث العقائدي للثورة من التراث الإسلامي، أي من العرف الأبوي وليس من العقائد العلمانية التي بشرت بها النخبة المثقفة" (93). في هذا السياق يغلب الرأي القائل ان فشل ثورة ظفار مرجعه الشعارات الماركسية التي رفعها الثوار. ومعروف ان المخابرات البريطانية كانت تعيد نشر مناشير الثورة، حيث تدعو الى تحرير المرأة وتأميم الملكية.

نمضي مع كتاب "النظام الأبوي"، حيث يقول: رافق الاستقلال نوع مغاير وغير مباشر للاستعمار الثقافي؛ إلا أنه كان أوسع انتشارا، لم يستمد هيمنته من السيطرة العسكرية - السياسية المباشرة، بل من اختراق الثقافة الغربية للنخبة الأبوية الجديدة، مضافا إليها سيطرة وسائل الإعلام الغربية  وشيوع قيم المجتمع الاستهلاكي وحاجاته. "مع أن الخريجين العرب من المعاهد التعليمية الغربية كانوا في معظمهم قوميين وطنيين في اتجاهاتهم السياسية، إلا أنهم كانوا ثقافيا ونفسيا  تحت تأثير الغرب مشكلين قطاعا منفصلا من اكثر قطاعات المجتمع تبعية للثقافة الغربية- مناوئة للماركسية، يشكل الغرب في نظرها المعيار المعتمد لقياس كل أمر".(87)  يركز شرابي على هذه النقطة ويعود لها مرارا وتكرارا في كتاباته. يقصد بذلك القول أن العدوان الثقافي للامبريالية يحتم ان تكون الثقافة ميدان صراع.

الثقافة تلعب دورا مقررا في حياة مجتمعاتنا ربما يفوق تأثير السياسة. والنشاط الاقتصادي بطبيعته يفرز ثقافته ويرسخها في الوعي الاجتماعي بقوة رهيبة ؛ العملية تتم بأشكال عفوية لا يعيها الجمهور المتلقي، الى أن يقول الباحث: "ان عوامل التخلف العقلي والقحط العاطفي والشلل الفكري التي احدثها الإرهاب الاستعماري ليست واضحة للعيان وضوح آثار الاستغلال الاقتصادي، إلا أنها قد تكون اكثر تدميرا على المدى البعيد. ولربما يتوجب على اية محاولة ترمي الى فهم الأزمة الشاملة التي ولدتها عملية 'التحديث’ في علم الاستعمار أن تستوعب ظاهرة الإرهاب والاستغلال الاستعماريين وآثارهما الاجتماعية والنفسية. وهل هناك من مجال للشك في أن تطور المجتمع العربي كان قد اتخذ وجهة مغايرة تماما لو ان العرب نجحوا في التحديث، كما تم لليابانيين، فيما لو بقوا بمناى عن اوروبا، وبالتالي تجنبوا آثارها الإرهابية الضارية؟" (91)

الجيل العلماني من المثقفين المتعلمين في الغرب يقوم بالانسلاخ عن الثقافة التقليدية ، لكنه سرعان ما يتضح له ان المهمة مستحيلة ولا يستطيع الإفلات من المبادئ التي تشربها أيام الطفولة من النخبة الأبوية المحدّثة، فبقيت تشكل الأساس  الذي يواجه عملية التحديث ويحدد البنية العميقة للشخصية  وتوجهها"(86).

"قبل العام 1800 لم يكن قد نشأ مجتمع عربي أو شعب يشكل وحدة سياسية اجتماعية تتميز بوعي ذاتي؛ هذا الوعي تشكل بفضل النهضة في اواخر القرن التاسع عشر" (88). في ظل السيطرة الاستعمارية تشكل مجتمع مشوه ومزيف؛ فالمستعمر أشاع بين الشعوب المستعمَرة مظاهر الخوف وعقد النقص والخضوع واليأس، وكلها مناقضة للتنوير . وقد أشار ماركس الى ضرورة التخلص من الزيف والتشوه اللذين ولدهما الاستعمار في ظل التبعية المباشرة.

ودخل التبشير والإرساليات العلمية والخيرية ميدان الهيمنة الثقافية. المؤسسات التعليمية عززت انماط الثقافة الغربية، وروجت الإنجليزية لغة اتصال علمي ومعاملات وأشاعت نماذج التفكير الغربية؛ ارتبط الكثير من أنشطتها بالمصالح الاستعمارية السياسية والاقتصادية. ففي نظرتهم لشعوب المنطقة أبدوا نظرات استعلائية ممزوجة بوضع الشعوب العربية تحت الوصاية. لم تخرج عن دعم المطامع الامبريالية.

"ادبيات الاستعمار جاءت أشد وقعا من الاحتلال العسكري؛ بخلاف الاستعمار السياسي القديم فقد فرض الاستعمار الحديث سيطرته بتحويل المستعمَر من كائن يثق بنفسه ومتمكن مما يقوم به الى مخلوق لا يؤمن إلا بقدرة الآخرين أن العدوان الثقافي للامبريالية يحتم ان تكون الثقافة ميدان صراع. الثقافة تلعب دورا مقررا في حياة مجتمعاتنا ربما يفوق تأثير السياسة

وفي انتقاده لمواقف الغرب الامبريالية انتقد ادوارد سعيد التزييف الثقافي ، وقال إن معرفة أوروبا بالثقافات والشعوب غير الأوروبية، لاسيما منها الحضارات الشرقية ،كانت مطعمة بروح الامبريالية الضارية والعرقية. فقد وجد الجشع الرأسمالي والتوسع الامبريالية حججهما الجاهزة في النظريات "العلمية" والمبادئ "الخلقية" العالية والدعوة الى تمدين العالم وتحضيره.

مثال ذلم ما ينقله الباحث عن شهادة هاوارد بليس، رئيس الجامعة الأميركية –بيروت، امام لجنة السلام الدولية في مؤتمر فرسايل: "كانوا –العرب- "عرقا مضطهدا لزمن طويل "يعانون من "الخجل وحب الإطراء وغياب الصراحة... يفتقرون الى التوازن ويتحمسون وتبرد همتهم بسرعة ولا يتمتعون برؤية سياسية منصفة، وهم لا يقرون بسهولة بمحدودية حقوقهم. لذلك يجب التقرب منهم بتعاطف وصرامة وصبر"

اما بيار دودج اول رئيس للجامعة فقد ادار ظهره للعلم وتحلى بروحانية زائفة؛ ليس للعلم الجامعي رسالة التحليل العلمي لمشاكل المنطقة؛ إنما التمسك يقيم التخلف وعلاقاته الاجتماعية وتمجيد الأبوية المستحدثة: "نطمح الى تعليم طلابنا النظر الى معتقدات اهاليهم بعين العطف، واحترام كافة المسئولين رسميا عن رعاية أفراد مذاهبهم وإجلال شعائرهم وطقوسهم وتبجيل اماكن عبادتهم... نطمح الى جعل كل طالب محبا ونقيا ومتفانيا كما كان المسيح. إن الحلول لمشاكل العرق والكراهية والنزاع المذهبي تكمن في الجانب الأخوي ... ان الجواب الوحيد لمشكلة الفقر والغنى المتفشية في الكون كامن في نبذ الانانية". المبشرون الأكثر تواضعا اعتبروا انفسهم ارقى من المواطنين، هم الأساتذة والمرشدون، بهم تناط مهمة محو الجهل وتبديد الظلام. تسمو بقيم المسيحية المنقاة من وحول سياسات الامبريالية وممارساتها.

في الفصل السابع- خطاب الأبوية المستحدثة- يقارب الباحث قضية اللغة الفصحى، يحمل تميزها عن العامية خطر ثنائية لغوية ترسخ الانقسام الاجتماعي التقليدي وطمس الأسس المادية والطبقية للتباين الثقافي . فقد حملت اللغة الفصحي في العصر الحديث  طابع لغة كلاسيكية من خلال النص الديني يحفظه التلاميذ دون أن يفهموه . وهذا ما يريده النظام، لا ضرورة لفهم ما يقال؛ إذ يحرص العنف الأبوي على إبراز هيبته في كل ما يحيط برئيس النظام.  الطريقة المثلى والمعتادة للتعلم واكتساب الأفكار والمثل والقيم تمضي عبر التلقين والتحفيظ وتخزين المعلومات، وتجنب كل تساؤل ونقاش. تمنح الأفضلية لاستخدام الألفاظ الرنانة والمفردات الخطابية والأساليب البيانية والإحالات الداخلية والإيديولوجيا المستمدة من سلطوية اللغة . كما يغدو مجال النصوص هو الخطابة وليس العلم والعيني المدرك من  السماع وليس عبر النظر والتذوق.

لم تساهم الثقافة الأبوية في ترويج قراءة القرآن، علما بأن أطفال المدارس يجبرون على حفظ آيات مختارة وتضمن آيات من الكتاب في نصوص الأدب والمطالعة والقواعد الخ. وحتى الوقت الحاضر يتلى القرآن ويجود ويحفظ عن ظهر قلب ، لكن التفسير مقصور على الجماعة المختصة وتأويلاتها مستمدة من الماضي.

تطرح الدراسة تساؤلات منهجية بصدد الفكر الأيديولوجي الديني والعلماني, وكلاهما يعبران عن مصالح النظام .نقد العلوم الاجتماعية في الغرب تعري النظام الأبوي الحديث؛ تؤول مقولاته وتطرحها تساؤلات مبهمة. يعتمد النظام الخطاب الأحادي بدل الحوار. الخطاب الأحادي (كلمة الأب في البيت لا تسقط الأرض) وللمعلم بالمدرسة وللشيخ في الوعظ والإرشاد كلها تعزز سلطوية متسلسلة هرميا وعلاقات تبعية. عناية الخطاب الأبوي فرض الهيمنة وليس التنوير، والأحداث تكتسب مصداقيتها لمجرد ذكرها ولا حاجة للتقصي أو وضوح الرؤية.

تظهر الإيديولوجيا من خلال ظاهر النص تعابير كلامية شكلانية وخلال المستوى الباطني المضمر في المقولات اللغوية. وفي انتقاده لمواقف الغرب الامبريالية انتقد ادوارد سعيد التزييف الثقافي، وقال إن معرفة أوروبا بالثقافات والشعوب غير الأوروبية، لاسيما منها الحضارات الشرقية ،كانت مطعمة بروح الامبريالية الضارية والعرقية. فقد وجد الجشع الرأسمالي والتوسع الامبريالية حججهما الجاهزة في النظريات "العلمية" والمبادئ "الخلقية" العالية والدعوة الى تمدين العالم وتحضيره.

يعالج الباحث قضية محورية في قضية الترجمة عن الآداب الأجنبية، ويحكم بقصورها. في الترجمة، يتمثل الفشل في عدم فهم المنطلقات الحداثية والعجز عن إحداث الانقطاع مع التراث الأبوي في النص المترجم . ذلك ان لكل لغة إطارها الثقافي. ونقل المعنى من ثقافة إلى ثقافة أخرى لا يشكل القضية المركزية في المقدرة على نقل المعنى من ثقافة لأخرى.؛ يوجد خلل بنيوي في واقع الوعي النهضوي ذاته.

تعرضت ترجمة الفكر الأوروبي الى تشويه كبير نظرا لتقصير المثقفين في سبر أغوار المفاهيم الثقافية للغة المترجم عنها. بقيت محصورة لغة المثقفين العرب العلمانيين والليبراليين واليساريين، خلال حقبة ما بين الحربين العالميين؛ ضيّقت مفردات الصحافة العربية على نص الفكر المترجم فجاءت الترجمة خلوا من مضمونه الفكري الصحيح. الأسلوب اتقليدي وعظ وخطابة ارسى مبادئ شكلانية مشتركة في الخطاب الأحادي السائد.

كان مستحيلا الانقطاع عن التراث التقليدي في ظل اليقظة العربية – أي الأوضاع الناجمة عن توسع السيطرة الامبريالية في مطلع القرن التاسع عشر. في تلك الظروف ولد الخطاب الأبوي المستحدث وإليه توجه المنورون يطلبون الإصلاح. راج وازدهر الخطاب الأبوي في كنف هيمنة الامبريالية.

ليست المسألة مرهونة بالقراءة والكتابة فحسب، الأمية تشكل جزءا لغويا ونفسانيا في آن ليس له مثيل في بلدان العالم الثالث الأخرى. وخلال حملات محو الأمية غدت عملية تعلم الفصحى طقسا استوجب إخضاع الواقعة اليومية  وكبتها في مواجهة النص المقدس. بدل إطلاق المتعلم في عوالم فكرية فإنه يخضع للسلطة وسطوتها ، غير قادر على القراءة .

الانقسام الأساس بين المحكية والفصحى (في شكليه التقليدي والصحفي المبسط)  بقي على ما كان عليه، وعمل هذا الواقع على صيانة الشروخ الاجتماعية والثقافية والإبقاء عيها في المجتمع الأبوي المستحدث، ما حال دون انقطاع جذري مع لخطاب الأبوي. لم يكن ممكنا فتح ثغرة باتجاه الحداثة النامية.

لم يتخذ خطاب المجتمع الأبوي المستحدث خلال القرن الماضي أي موقف نقدي أصيل او متآلف في معالجة المشاكل الاجتماعية او السياسية او العقائدية لهذا العصر الانتقالي. "فقد ابقى مضمون هذا الخطاب فكرا مجردا طوباويا عمل على تثبيت  اسس النظام أكثر مما هدف الى نقد بنيته السياسية والعقائدية. وعليه فقد بقي هذا الخطاب مقموعا في وجه الخطاب الديني" (118). انصرفت الأبوية العربية المستحدثة إلى تبني موقف أدبي - ديني من أوروبا  ومن التاريخ والذات، فحرمت بذلك نفسها منذ البدء من فرص التطور (بعكس ما فعل اليابانيون"ادبيات الاستعمار جاءت أشد وقعا من الاحتلال العسكري؛ بخلاف الاستعمار السياسي القديم فقد فرض الاستعمار الحديث سيطرته بتحويل المستعمَر من كائن يثق بنفسه ومتمكن مما يقوم به الى مخلوق لا يؤمن إلا بقدرة الآخرين أن العدوان الثقافي للامبريالية يحتم ان تكون الثقافة ميدان صراع. الثقافة تلعب دورا مقررا في حياة مجتمعاتنا ربما يفوق تأثير السياسة

وفي انتقاده لمواقف الغرب الامبريالية انتقد ادوارد سعيد التزييف الثقافي، وقال إن معرفة أوروبا بالثقافات والشعوب غير الأوروبية، لاسيما منها الحضارات الشرقية ،كانت مطعمة بروح الامبريالية الضارية والعرقية. فقد وجد الجشع الرأسمالي والتوسع الامبريالية حججهما الجاهزة في النظريات "العلمية" والمبادئ "الخلقية" العالية والدعوة الى تمدين العالم وتحضيره. (120)

في الفصل الثامن - نقد جذري للثقافة الأبوية المستحدثة - استهل الباحث مطالعاته بمقتبس من مقال كتبه صديقه الشاعر أدونيس، افتتح به مجلته" مواقف طليعية"، التي صدرت عام 1969، جاء فيه:" الثقافة كفاح ووحدة عمل وفكر .إنها الثقافة التي لا تعنى بتفسير العالم او الحياة او الإنسان إلا لغاية أساس، تغيير العالم والحياة والإنسان. إنها الثقافة – الثورة." ماركس اول من حدد رسالة الثقافة في التغيير وعدم اقتصارها على التفسير.

ارتد الفكر الأبوي الى الدين يدافع به عن نفسه. وعلى صعيد اللغة تغير ت مفردات الخطاب الأبوي وصاغ تعابير جديدة، كشفت ضيق أفق الخطاب الأبوي المستحدث،  تذيل التفسير الساذج لطبيعته السياسية البيانية. اورد الباحث محمد اركون وعبد الله العروي وصادق جلال العظم والياس مرقص وحليم بركات، ممن وجهوا انتقادات في العمق لخطاب النظام الأبوي.

تصدى محمد اركون بالنقد والتحليل اللذين كبتتهما على الدوام القراءة التقليدية السائدة. اختار أركون منهجا علمانيا يستفيد من تداخل العلوم الإنسانية لغرض تفسير القرآن. كيف تتم المعرفة وكيف يتم إيصالها مشكلة لا تختص بالمنهجية فحسب، بل إنها متجذرة في السلطة السياسية المهيمنة والعقيدة الدينية السائدة.

وهاجم عبد الله العروي الخطاب الأبوي المستحدث في كتابه ازمة المثقفين العرب وادان توجهاته السلفية الانتقائية. تبنى الفكر التاريخي النقدي (130)، ودعا لتبني الماركسية النقدية منهجا وأداة تحليل ومصدرا موحيا للمقولات النقدية على خط الماركسية.

إثر هزيمة حزيران، حيث تكشفت مظاهر التخلف القابعة في ثنايا المجتمع العربي، وجهت انتقادات الى البنى الفوقية في المجتمع (الثقافة  والفكر والأيديولوجيا الغيبية). "تصدى النقد الماركسي الجذري في كتابات الياس مرقص للسلطة الدينية والسياسية، يقوض الوعي الزائف ويفسح المجال لبناء مجتمع 'عربي عصري كليا’". الفقه لا يتحكم بالفكر الديني الأصولي فحسب، بل يسيطر على كل نماذج الفكر في المجتمع الأبوي المستحدث، بما في ذلك التيارات الماركسية والليبرالية والإصلاحية"(132).

وسجل صادق جلال العظم على المجتمع الأبوي الأخذ بالوجهة الدينية، نظرا لكونها عقيدة تدفع الى الاغتراب لتعزيز الوضع السائد  القائم على القمع الاجتماعي والكبت الفكري.(138)

ثم دخل علم الاجتماع النقدي عام 1970 يرفض التجريدات العقائدية ويلح على أسلوب التجريب- التصنيف كما في كتاب حليم بركات الرائد "المجتمع العربي المعاصر- بحث اجتماعي استطلاعي"، اورد فيه "أسعي لتحليل الظواهر في أطرها الاجتماعية وفي حالة تداخل وتفاعل بعكس التحليل المثالي المجرد المطلق" (133). شدد على التناقضات القومية الاجتماعية وعلى طبيعة الصراع في سبيل التغلب على هذه التناقضات.

واورد كذلك عالم الاجتماع سعد الدين ابراهيم يركز على المنهج التجريبي: القاعدة البشرية، القاعدة الإيكولوجية(التبيؤ)، الهيكل الطبقي، الهياكل الإثنية والهياكل المؤسسية. كما عرض بنيوية كمال أبو ديب ومحمد بنيس يشرح فكر عبد الكبير الخطيبي، ثم أجمل رأيه في تلك الانتقادات:

 لغة النقاد غريبة في معانيها الحرفية ومدلولاتها المجازية على السواء. يكتبون بلغة غير عربية، وانغمسوا  كل في واحدة من الثقافتين - الفرنسية اللاتينية والإنجلو اميركية- اللتين يفصلهما بون صارخ من حيث المزاج والحساسية وأنماط التفكير والإدراك. نقاد الثقافتين يتعرفون على بعضهم عبر "الترجمات"، التي ينهض بها الفرنسيون والإنجليز والأمريكان، والتي تختص بثقافتيهما او خطابيهما او نصيهما.بالتالي يتعرفون على ثقافاتهم وتقاليدهم عبر المناهج والتصورات التي تستخدمها كل من هاتين الثقافتين لفهم ذاتها وغيرها من ثقافات العالم. (137) .

لم تعد للتعبيرات العربية الشائعة المدلولات نفسها المتعارف عليها وتعرضت الأشكال التقليدية للتنقيح والتفكك، وأعرض عن الأساليب البيانية وأهملت كليا.(138). النقديون من المثقفين يبدو المجتمع الأبوي في نظرهم واقعا خارجيا يمكن رصد ظاهراته عن بعد بموضوعية وعلمية، وباتوا يشكلون تيارا تتعاظم قوته ويزداد تأثيره . توفرت لهم الفرصة للتأثير الناجع على وجهة النقاش الدائر في الخارج بين المغتربين أنفسهم وفي الوطن العربي نفسه. النقد الجذري يستمد فعاليته من من انماط تحليل وتفسير مكتسبة، ويمثل المرحلة الأولى من الوعي الذاتي المستقل، التأليف والإبداع والتجاوز(رؤية مستقلة ، نظرية أصيلة).

النقد البنيوي وما بعد البنيوي هو التيار الأقوى في مجمل حركة النقد الجذرية العربية في الوقت الحالي. تكمن أهميته في فعاليته التفكيكية التي تعمل على الإطاحة بالمواقف السائدة بنفاذها الى خطاب الأبوية المستحدثة والدخول في ثناياه وتعرية سلطته الأحادية والانفتاح على التعددية، والإقرار بحقوق المستضعفين. لكن لهذا النوع جانبا آخر يعاني من قصور ما في إطار الوضع السياسي والعقائدي  العربي القائم- استبعاد الممارسات السياسية مركزا على اللغة والنص مبتعدا عن الواقع السياسي المعاش . التفكيك لا يكفي بل يحتاج الى تجميع لتوحيد المعارضة المبعثرة. كيف يمكن التعامل مع شمولية ظاهرة المجتمع الأبوي المستحدث دون الأخذ بمنهج شمولي لفهم التاريخ والمجتمع ككل؟ فليس من العجب ان يتغاضى أنفذ النقاد الجدد بصيرة عن الاعتراف بأن الثورة السياسية تبدو ضرورة ملحة لا مفر منها في آخر المطاف؟

اغفل الباحث دراسات الفقه الإسلامي في ضوء العلوم الحديثة، وجهود نصر حامد ابو زيد في الدراسات الإسلامية. برزت قضية  الباحث الإسلامي في تسعينات القرن الماضي بعد صدور الكتاب. واغفل أيضا بروز علم النفس الاجتماعي يحلل مظاهر التخلف الاجتماعي في الإنسان المقهور والإنسان المهدور عقلا وفكرا وإرادة في ظل النظام الأبوي المستحدث. ولم يتطرق بتاتا لتصدير نظام الليبرالية الجديدة. قصرت الأبحاث الاجتماعية النقدية كافة في رصد تأثيرات الليبرالية الجديدة وإسرائيل على المنطقة العربية، حيث عززت تحالفها المضمر والعلني مع الأنظمة الأبوية العربية.

في الفصل التاسع - هيمنة البرجوازية الصغيرة - ينفي وجود شعب عربي قبل غزو نابليون لمصر، بل تجمع جماهيري، بغياب التمايز الطبقي او الوعي الطبقي الراسخ.

عام 1970 بدا ان البرجوازية الصغيرة قد تنامت وتعاظمت أهميتها، بحيث كان مؤهلا لها ان تحتل مكان الصدارة في الحياة السياسية والاجتماعية . لم تتطور طبقتا البرجوازية والعمال لتصبح أي منها طبقة مستقلة قادرة على التحكم بالحياة السياسية والاجتماعية. تفجر الأرياف عجلت الهجرة الى المدن وتضخمت البطالة المقنعة، ما ترك أثرا على الثقافة الشفوية الريفية  وتقاليدها وساعدها على الاستمرار حال ذلك دون تطور ثقافة ووعي بروليتاريين وظهورهما بوضوح" (148).

 البرجوازية الصغيرة بطبيعتها شرائح متناثرة لا تشكل طبقة ، تتطلع للارتفاع، بعضها ينجح في المسعى، والأكثرية يجري إفقارها وتتدهور الى الطبقة المسحوقة. لذا تنحو البرجوازية الصغيرة في بداية بروزها للتطلع الى الطبقة العليا. إما بالمصاهرة او المشاركة في نهب المال العام ونشر الفساد الإداري. وبالفعل تحولت البرجوازية الصغيرة التي استلمت الحكم في البلدان العربية  كافة إلى انظمة ابوية قمعية واغتنت من نهب القطاع العام.

بالمقابل كان لينين يعول على ارتفاع البرجوازية الصغيرة في الاتحاد السوفييتي الى بناة واعين للاشتراكية بجانب الطبقة العاملة، شريطة تنفيذ ثورة ثقافية سلمية تقضي على الأمية وتضع كل مصادر الثقافة من كتب وإبداعات فنية بمتناول افراد الشعب كافة .

"البرجوازية الصغيرة في المجتمع العربي غير منتجة تتوجه نحو الاستهلاكية، ومكانتها في الساق الإنتاجي هامشية وعرضية. وقيمها وعلاقاتها الاجتماعية تقليدية ما يفسر تذبذبها العقائدي وتأرجح توجهها الاجتماعي والسياسي، تحمل اوضح تعبير عن الأبوية المستحدثة، بين التقليد والحداثة، بين العلمانية والدين، بين الرأسمالية والاشتراكية، بين الإنتاج والاستهلاك. لا أمل في الخروج من التناقضات ما يدفع باتجاه الانهيار في نهاية المطاف"(148). لكن الحياة الاقتصادية تولد كل يوم شرائح برجوازية صغيرة تتوزع اهتماماتها بين الديمقراطية والاستبداد.

سيطر مفكرو البرجوازية الصغيرة على المشهد الثقافي في مستوييه الثقافة العليا والثقافة الجماهيرية. وكانت النزعة الاستهلاكية مفصل التحول لدى البرجوازية الصغيرة في خمسينات القرن الماضي(والأدق في اوائل الستينات طرحها المستشارون الاقتصاديون للرئيس الأميركي، جون كندي. كانت الاستهلاكية مصيدة لبلدان العالم الثالث كافة.  وفي المجتمع العربي أشاعت اتجاهات سلبية (151):

  1. اقليمية بدل القومية.
  2. الخشية من تدخل عسكري أجنبي مباشر، إسرائيل على وجه الخصوص.
  3. صعوبة التعبئة السياسية في الأرياف العربية.
  4. تعثر الماركسية العربية وتخلفها سياسيا ونظريا (وكان للجمود الستاليني دوره في هذا الفشل).
  5. سوء استخدام سلاح النفط.

الفساد الإداري في ظل الاستهلاكية افضى الى تشكل برجوازية بيروقراطية باتت تعمل لصالحها وتغلغلت في ثنايا الدولة العميقة، ومنها شرع في اختيار الوزراء. هي اخطر شرائح البرجوازية على قضايا التقدم والديمقراطية تجمع بأيديها سلطات التشريع والتنفيذ وتتحكم في السلطة القضائية، وهي ذات مصلحة في كبح التغيرات وثبات الحكم الأبوي المستحدث. "أبدت البيروقراطية في الجيش والتربية والتجارة مظهرا خارجيا حداثيا؛ لكن بنيتها الداخلية أبوية بالضرورة" (152). بات العمل الوظيفي ثانويا، حيث جرى تقديم الولاء على الأداء في النظام الأبوي، الذي احتضن العصبيات الطائفية والعرقية والعشائرية، وانسجمت معه في تقديم الولاء على الأداء وإقصاء المعارضة. بات المجتمع العربي اكثر مجتمعات العالم طاردا  للكفاءات، واستقر على رأس قائمة الدول من حيث الفساد واضطهاد القليات والمرأة وفي أدني القوائم من حيث جودة التعليم وطلب المعرفة والمطالعة ونشر الكتب والترجمة عن الثقافات الأجنبية. في هذه الأجواء الموبوءة بات " المسعى لإقامة علاقات نفوذ شخصية أجدى  وأكثر فعالية من بذل مجهود في أداء العمل الوظيفي"(153)

من الطبيعي ان يقصر وعي البرجوازية الصغيرة عن فهم مقولتي الطبقة والصراع الطبقي. بدلا من ذلك احتلت الحيز إيديولوجيا الوحدة القومية والتعايش المتجانس بين الطبقات في ظل زعامة خيّرة (الأب وتجسيداته المختلفة). اختلال موازين المدفوعات والميزان التجاري باد للعيان والاعتماد على الاستيراد لتوفير الغذاء بات جليا، حيث زاد من 2 مليار دولار عام 1970 الى اكثر من عشرين مليارا عام 1980. والزيادة مضطردة تبدو في الأفق بوادر تصدع النظام الأبوي وانهياره الاجتماعي والسياسي" (154).

يناقش الباحث احتمال تحول المجتمع الأبوي الحديث الى مجتمع جماهيري، يتكون من برجوازية مشوهة وطبقة عاملة غير مكتملة وبرجوازية صغيرة هجينة غير ديمقراطية اعتمدت على الجيوش وأبعدت الجماهير عن المشاركة في ردع تطاولات الغرب واعتداءات إسرائيل. استجار النظام الأبوي بالأصولية الدينية، حيت تغلغلت في دوائر التعليم والجمعيات الخيرية في أوساط الجماهير وتمركزت في القضاء، نقلت التدين البدوي الى الحواضر العربية وتصدت للإبداع الفكري والفني وقمعت حرية البحث الأكاديمي.قدمت الأصولية منظومة أخلاقية استهوت الجماهير والزمتها القعود في معزل عن قوى التقدم الاجتماعي." لم يسبق أن تمكنت الأحزاب القومية واليسارية من النفاذ الى الجماهير الكادحة وكسب تأييدها الواسع كما حصل مع الحركات السلفية . أصولية البرجوازية الصغيرة أول عقيدة سياسية تقوى على تحقيق ذلك بعد قرن من قيام الأبوية المستحدثة (157).

 الأصولية الجديدة ظاهرة سياسية محصلة حقبة تاريخية اجتماعية – اقتصادية تمثل عقيدة سياسية جذرية تجسد الحنين لعصر ذهبي ، وهي تمثل تطلعات اجتماعية فشلت في تغيير المجتمع أو حتى نفسها، راحت الآن تواجه تحديات خارجية وداخلية لا سلطة لها على تذليلها والتغلب عليها، تبحث عن مخرج من وضع لا يطاق"(158).

تزامن صعود السلفية مع بروز شرائح وطبقات اجتماعية جديدة. وحيث ان الأصولية حركة اجتماعية تعبر موضوعيا عن صراع طبقي  دون ان تعي ذلك، حيث لا تمتلك الوعي الطبقي، ولا تأخذ باساليب الجبهة الوطنية الداعية الى تحالف كافة القوى والطبقات بوجه السلطة الأبوية. الأصولية تفرعت مباشرة من الثقافة الأحادية والشفوية التي تربى عليها وعيهم وتفتح (160).

افرغت من محتواها ومعناها بخفة ودهاء القضية المعرفية المتعلقة بمسألة الصدق والتحقق منه – وهي القضية التي نادى بها المنورون. والسؤال الذي يطرحه السلفيون ويجيبون عليه "انتم أعلم ام الله"؟. بذا استبدلت إمكانية التحليل النقدي بالتأويل الديني يحدد شروط التفسير ويضمن سلفا الأجوبة الملائمة"(160). على سبيل المثال اعتبر سيد قطب وطن المسلمين قطعة أرض، والفشل والتجزئة وكافة الأعراض الأخرى هي عوارض ناجمة عن هجر الدين وعبادة الأصنام القومية والعلمانية والاشتراكية والليبرالية .الإسلام رسالة الخلاص، ليس للعرب فقط ، بل لجميع شعوب الأرض وهدف الإسلام هو التحرر العالمي. "الإسلام بعقيدته وشريعته ونظامه وآدابه يمثل السبيل الوحيد لإنقاذ البشرية" (162).

وفي رسالة وجهها حسن البنا الى الملك فاروق والحكام العرب أوضح أن طريقين ينفتحان: طريق الغرب ومظاهر حياته ونظمها ومناهجها  وطريق الإسلام وأصوله وقواعده وحضارته ومدنيته. (163). الغرب أفلس حضاريا وانهزم وتمزق، حسب حسن البنا.

في الفصل العاشر والأخير يطرح الباحث السؤال الخالد"ما العمل؟"، ويجيب مقترحا ان سبل الخلاص تكمن في ديمقراطية سياسية تناصر العدالة والقانون ووحدة المجتمع من أجل تعزيز المناعة الذاتية بالطرق القانونية والحراك الشعبي. يطرح الباحث مفهوم "الديمقراطية الراديكالية" تمييزا عن الديمقراطية الغربية المبتذلة انحسرت حرياتها مع اندماج الرأسمال الاحتكاري بالحكم. المفهوم بات متداولا لدى عدد كبير من المثقفين المناهضين لليبرالية الجديدة في الولايات المتحدة وغرب أوروبا. يحث الباحث على اعتماد التفكير النقدي والحداثة الديمقراطية العلمانية، المؤدية الى الاشتراكية. فالنظام الأبوي وقف على ساق السلفية الدينية وعمل على تنشيطها وسلمها نظام التعليم ومكنها من التعليم الجامعي وأعطب التفكير الاجتماعي.

ما من امل ان تطيح الحركة الأصولية بالنظام الأبوي المستحدث؛ ولو وصلت الأصولية الحكم فسيبقى النظام الأبوي دون أن يمس. وفي تقرير صدر عن مركز أبحاث الدفاع السويدي ورد أن "تيارات التمزق في منطقة الشرق الأوسط إن استمرت سيبرز خطر داهم وهو احتمال أن تنهار مثلا سوريا والعراق و...لبنان."(طرح هذا الاحتمال في ثمانينات القرن الماضي وكانت جهود إسرائيل والامبريالية في طور ترويج للفتن الطائفية والعرقية  بشعار الطائفية تارة والعرقية تارة أخرى). سيناريو الفوضى لا يمكن التنبؤ بمخاطره؛ فقد رأى سمير أمين ان من المستحيل ان تقود الطبقة العاملة ثورة اشتراكية لأن الطبقة المؤهلة تاريخيا للقيام بها تفتقر الى العوامل التي تمكنها من القيام بالثورة المطلوبة (170).

ان انهيار النظام الأبوي في المجتمع العربي وإقامة نظام حداثي ممكن عمليا؛ يأتي التحول حصيلة سياق طويل من التبدلات والتغييرات المتولدة في ثلاثة مجالات أساس: بنى تحتية، (نمو اقتصادي وفق نمط عقلاني) مؤسسات اجتماعية (تركيب الأسرة)، وممارسة سياسية. والإطاحة بنظام مستبد او رجعي لا يتبعه تلقائيا إنجاز الحرية والعدالة. ومن ثم فإن احد شروط التحرر هو تدمير تصور الحرية القديم الذي أخذت به الأبوية المستحدثة، وما نزال نأخذ به بوعي أو بدون وعي (فوكو).

 كما أن نموذج ثورات الصين وفييتنام والجزائر لم يعد ينطبق على الوضع الراهن؛ يمكن التحول عن طريق الثورة الى  نظام أبوي جديد . بات النقد حاجة قومية ماسة، لا يرمي فقط الى تأسيس "خطاب نقدي" يتمكن من إضفاء الوعي الذاتي الصحيح ، بل لتقديم نظرية فكرية فعالة قادرة على تفكيك أواصر الوعي السائد  والسير نحو وعي جديد وممارسة جديدة. وعليه فالنقد الفعال يشكل اليوم مهمة مركزية في عملية الإطاحة بالخطاب الأبوي المستحدث ونظامه الاجتماعي والسياسي (171).

طبيعي أن عقدين زمنيين يفصلاننا عن زمن هشام شرابي، تواصل خلالهما البيات الشتوي السياسي والثقافي الذي بدأ في سبعينات القرن الماضي، حيث أنجزت مهمات عدوان حزيران 1967، لتغيير الشرق الوسط بما يتوافق ومصالح التحالف الاستراتيجي الامبريالي – الإسرائيلي. طرأت تبدلات سلبية لأن الجميع صدق حجة إسرائيل أنها استبقت خطة القضاء عليها بهجوم عسكري من جانب العرب. مضت التحولات الليبرالية الجدية في المنطقة تنجز أهداف عدوان حزيران. ما من قوة سياسية انبرت للتصدي لمكائد التحالف العدواني. تدهورت الأمور للأسوأ؛ حيث لم يقصر التحالف المعادي جهوده على ضمان ظروف الاستغلال الاحتكاري للثروات الباطنية في المنطقة، واهمها النفط، وانتقل الى تنفيذ مشاريع تدمير الدول والمجتمعات العربية، وتهيئة الظروف بالمنطقة لكي تستأثر إسرائيل بكامل الوطن الفلسطيني من البحر للنهر.

فما هي متطلبات المرحلة المقبلة؟ كما تصورها الباحث في عقد الثمانينات،

1- ابتكار انماط تنظير جديدة واقعية. إعادة النظر في مفاهيم الديمقراطية السياسية  والوحدة والعدالة الاجتماعية وصياغتها من جديد وفقا لمعطيات الواقع المستجد في المجتمع العربي والعالمي ككل. "الخطر على المجتمع العربي وافد من الداخل، من التفكك والانهيار  الداخلي والحروب الأهلية. وقوة الحماية تنبع من الداخل"(172) .

2- إجبار السلطة على التزام القانون والتخلي عن القمع. يمكن اللجوء الى إجراءات فعالة دون اللجوء الى العنف .ظروف النضال تتغير ووسائله تتبدل "سبيل اللاعنف والعصيان المدني هو النضال الثوري الحق (173).

3- بعض الأنظمة منفتحة على التغيير، نظرا لوجود  مؤسسات قطرية للتغيير الاجتماعي الثقافي كالجمعيات الأكاديمية وجمعيات المهنيين والنقابات والتعاونيات الفلاحية واتحادات الطلبة والنساء.

 نظرا للاضطهاد الواقع على المرأة فيمكن أن تشكل النساء طليعة الكفاح من أجل التغيير . وهذا توجه وليس خطة (174).

4- أصيب الجيل القديم بالإحباط ويخشى من انتقال العدوى الى الجيل الصاعد.تشاؤم العقل لا يقاوم، كما قال غرامشي، إلا بتفاؤل الإرادة. القضاء على النظام الأبوي، أدهى الأمراض الاجتماعية في المجتمع العربي.

انتهى