أهل البيت - محمود شقير

2019-08-17

قصة للكاتب والروائي الكبير محمود شقير

أهل البيت

محمود شقير

هذه القصة كتبتها في العام ١٩٦٣، أي قبل ست وخمسين سنة ولم أنشرها في أيٍّ من كتبي. أنشرها اليوم بعد أن أجريت عليها بعض التعديلات. 

كان يمطّ قدميه فوق أرض الزقاق.

وكانت أكواخ المخيّم تتجاور كأنّها علب السردين.. وثمّة أصوات نسائيّة تغنّي

بمصاحبة الدربكة:

يا أولاد العرب لمّوا بعضكم

وإيّاكم تنسوا أرض وطنكم

سَرتْ في أوصاله نشوة حيّة.. الليلة، الناس في فرح.. والأطفال يطاردون في الأزقة، والكلُّ يغنّي ويرقص.. وكلّه من شان عينك يا فالح العبد، وبعد يومين، تمشي في الزّفّة يا فالح، وشباب المخيم ينتظرون ساعة أن يُزفوا مثلك.. والحسرة تنهش قلوب البنات اللواتي لم يتزوّجن بعد.. "وأختك يا عايد بائرة لن تتزوّج، وأنت تكبر فالح العبد بسنتين وما تزوّجت.. ومن الصباح إلى المساء، وأنت تنحت الصخر بالفأس كالثور.. أف، يا سلام.. لو أنّ لك زوجة، ولو أنّها تنتظرك الآن في البيت، وما في البيت سوى أختك البائرة وأمّك العجوز.. وأنت، ليس لك إلا أن تظلّ تشقى وتدور كبغل المعصرة". 

ثار حنقه، وانطلق في زقاق فرعي، واقترب من كوخ منعزل يقبع داخل جدار متهدّم، طرق بوّابة الصفيح عدّة مرّات، انتظر والذهول يسري في عروقه.. "هي لا بدَّ سمعت الطَّرَقات، وها هي تندفع في غنج ودلال وتصنُّع، وإنْ فتحت البوّابة، فسوف تحاول أن ترفع طرف الفستان لكي ينكشف فخذها، معلوم، صاحبة صنعة، تفعل ذلك كلّما زارها الأوباش"، والحقيقة، أنها لم تسمع الطّرَقات.. أمّها هي التي نبّهتها إلى ذلك: "عائشة؛ ناس على البوّابة".

نهضت عائشة صوبَ البوّابة.. كان وجهها جامدًا، وقد تبخّر منه ماء النّضارة، وعيناها انسحبت منهما نظرات الحنان.. سمعت لغط الصبية في الأزقة، وتردّدت قبل أن تفتح البوّابة.. فما زالت تذكر الصبية الثلاثة الذين كانوا يقرعون البوّابة بعجلة وعنف، وما أن شقّت البوابة بحذر، حتى انطلق الصبية يعدون بجنون، مخلّفين وراءهم ضحكات سمجة.. امتعضت عائشة، وشتمتهم بصوت عالٍ.. اندفعت أمّها خارجة من البيت، واقترب منها أخوها عايد: "مالك يا عائشة؟"

نظر نحو الزقاق وأبصر الصبية يتضاحكون عن بعد.. اعتراه غضب طفولي بريء وانفلت وراءهم يقذفهم بالحصى.. وغصّت عائشة بدموعها حينما سمعته يقول بتأثّر وانفعال: "الملاعين خسفوا البوابة.. كأن ليس لها أهل".

يومها؛ أصرت عائشة على أن تكافئ عايد على موقفه.. اقتادته معها إلى المدينة..

وكانت تتمايل فوق الرصيف بحذائها ذي الكعب العالي، وعايد يقفز من حولها تلتهم عيناه المدينة.. وقفت أمام بقّالة "فلسطين"، تلك البقّالة التي اعتادت أن تشتري ما تحتاجه منها.. ولمحتْ شابّين يقفان على مسافة قريبة منها، ويرمقانها بنظرات خبيثة.. كانت تحسّ أنّهما ذبابتان، لكنّها رأت من واجبها أن ترنو إليهما بطراوة.. وكان عايد يرنو باشتهاء إلى صندوق البرتقال في واجهة البقّالة

غادرت عائشة البقالة، وتبعها الشابّان، وكانت تتمايل بدلال؛ وتنطلق من حذائها فرقعات منغومة تتوافق مع اهتزاز ردفيها.. قال أحد الشابّين وهي تسمعه: "أنظر ما أبدعها!".
طربت من الأعماق.. وعايد يثرثر ببراءة، قال الآخر: "سأغازلها". 

وشرع يقول: "فلس... طين فلس.. طين فلس..طين".

-  ما هذا النغم؟!

-  فرقعات الحذاء.

انتبهت عائشة إلى أنّ هذه الحادثة لا شيء أمام الذكرى الأكثر إيلامًا:

كانت ذات يوم تنطلق عبر الحقول. وهي بعدُ فتاة خجول لا ترتفع عيناها عن الأرض، ولا تنظر نحو أيّ رجل. كانت ذاهبة إلى الحقول لتحتطب؛ وفالح العبد، ابن المختار، يتنزّه في بيّارة أبيه. مضت في جمع الحطب. سمعته يغنّي وهو يقترب منها.

ثم تجرَّأ على الحديث معها ولم تجبه بكلمة.

دنا منها وقبض على يدها. حاولت التملّص منه. هجم عليها بضراوة. صرخت باستجداء، وكان كالذئب الجائع. ثم غادرها وعادت إلى القرية باكية

كانت أمّها في البيت، وكان أبوها مع المتطوّعين دفاعًا عن الوطن. تكتّمت أمّها على ما وقع لابنتها في انتظار عودة أبيها لكي ينتقم من المعتدي الجبان.

لكنَّ المعتدين الطامعين في الأرض قتلوه واحتلوا القرية.

هربت عائشة مع أمّها. وكان عايد طفلًا في الخامسة. نامت عائشة مع أمها وشقيقها أشهرًا تحت أشجار الزيتون وفي الكهوف. وانتقلت معهما إلى مخيم راح يتشكَّل في سهل قريب من المدينة، كانت الأم تطمح في أن تزوّج ابنتها برجل ابن حلال، فلم تفلح في ذلك بعد التعرّف إلى سبعة رجال؛ لم يصدق أيٌّ منهم.

كان عايد هو الأمل الذي تنتظره أمُّه وشقيقته. وها هو اليوم شابٌّ بهيُّ الطلعة، يسري إلى الورشة كلَّ صباح. عائشة طوت صفحة الماضي، وما عادت تُسيء إلى سمعتها وسمعة أمّها وشقيقها.

لكنَّ عايد فاجأها حين لم تكن تتوقَّع ذلك منه؛ فتحت البوّابة وطالعها وجهه المكفهر، اقتادها إلى غرفته المجاورة لغرفة أمّه وشقيقته.. غلى ماء فوق النّار. وكانت شقيقته متوجّسة تضرب أخماسًا في أسداس.. ربّما أوغر صدره عليها بعض الناس.

أصابها ذهول، وهو يحاول أن يغطّس ثدييها في الماء الذي يتصاعد منه البخار

أطلَّ من عينيها رعب: "عايد، أنا شقيقتك".

- قولي؛ احكي، ما الذي جرى معك في الحقل قبل سنوات وما بعد الحقل طوال سنوات؟
ارتبط لسانها، ولم تنطق إلا بالتوسّلات.

كانت الأمُّ تطرق الباب وتقول بصوت واهن: "أختك يا عايد؛ ما لها غيرك".

كان بخار الماء يتلوّى صاعدًا مثل أحزان الفقراء، وثمّة حزن كثيف ممزوج بألم يطلُّ من عينيّ عائشة. والأسى يمزّق قلب عايد. تلفَّظت شقيقته ببضع كلمات؛ كانت شبيهة برجاء مستميت أو باعتراف خافت أو صلاة.

أحسَّ عايد بقشعريرة تهزّ بدنه، طبع قبلة حانية على جبين شقيقته. فتح الباب وكانت دموع أمّه تتكلّم من دون كلام.

قال بصوت مضطرب وهو يحتضن أمّه: "أنا لكما يا أمّي، ومن أجلكما أشقى".

كانت أشياء جديدة تولد في أعماق عايد، وكان يرى جيوش أبرهة وهي تغزو الكعبة وتحاصرها بالفيلة، وكان للبيت ربٌّ يحميه، هو ربُّك يا عائشة، لكنَّ الطير الأبابيل ما عادت تقذف حجارة من سجّيل على الغزاة، وأقدام الفيلة تغوص في بطنك يا عائشة، وكان صمت ثقيل يخيّم على عايد وأمّه وشقيقته، وفجأة تعالت طَرقات على البوّابة الصفيحيّة؛ اتَّجه نحوها عايد وفتحها؛ وأبصر ثلاث فتيات: "عايد.. أين أمُّك وأختك؟"
-
في الداخل.. تفضّلن.

دَلَفت الفتيات الثّلاث إلى الدَّاخل.. وكنَّ في مثل نضارة الرّبيع: "والله العرس لا يحلو إلا بكلِّ أهل المخيَّم.. قومي يا أمّ عايد.. وأنت يا عائشة.. تفضّلي أنت وأمّك عندنا؛ تفضّلْ يا عايد".

حاولت أمُّ عايد أن تعتذر: "والله العرس لا يحلو إلا في فلسطين". قالت إحدى الفتيات: "الله كريم.. إن شاء الله عرس عايد يكون في فلسطين". 

وقالت فتاة أخرى:"الله يكثّر الشباب، يتزوّجون، وينجبون من أجل فلسطين".

أحسَّ عايد بقوّة تدفعه إلى المشاركة في العرس؛ ألحَّ على أمِّه وعلى شقيقته: "قومي يا أمّي.. هيّا يا عائشة".

ارتدتْ عائشة ثوبها المطرَّز، وكان المخيَّم يصخبُ بروعة.. والغناء ينبعث شجيًّا وقويًّا:
يا اولاد العرب يا اهل الوطنيّة

واجب عليكم دحر الصهيونيّة

انطلقتْ خطوات عايد بحزم، تدفعه رغبة عارمة في الوصول إلى العرس.. إلى المكان البهيج.

* نُشرتْ في مجلة "الأفق الجديد" المقدسية 

السنة الرابعة، 1964.