قضية للمناقشة: بين العظمة والسفالة - فريدة النقاش

2019-08-22

قضية للمناقشة: بين العظمة والسفالة

* فريدة النقاش

رد علىَّ أستاذنا الراحل “محمد عودة” حين سألته عن رأيه فى أمريكا بعد زيارته لها رداً عبقرياً حين قال: إن التجربة الأمريكية التي تمثل ذروة التقدم الرأسمالي هي تجسيد لعظمة الرأسمالية وسفالتها معاً.

مضى على هذا الرد البليغ ما يزيد على ربع قرن، وبعد ذلك ازداد إيقاع التدهور العالمي، خاصة بعد أن سادت الرأسمالية دون منافس بعد سقوط التجربة الاشتراكية، وتفكك الاتحاد السوفيتي، وتزامنت قوة الإنتاج ووفرته مع اتساع قاعدة الحرمان، وهو ما تبينه إحصائيات الأمم المتحدة عن زيادة الجوع”.

ويقول المفكر الأمريكي الجنوبي “هرناندو سوتو” مؤلف كتاب “لغز الرأسمالية” “إن سبعين فى المائة من سكان العالم لا يتمكنون من الدخول فى الاقتصاد العالمي، ونسبة كبيرة جدا لا تتمكن من تصدير منتجاتها، وهم باختصار لا يزالون خارج اللعبة”. ولأن الليبرالية التي ارتبطت وثيقا بالتطور الرأسمالي تجاهلت الصراع الطبقي تماما ودار كل اهتمامها حول الحريات العامة دون جذور على الأرض، أي فى العلاقات الإجتماعية انحدرت الفاشية مباشرة من الليبرالية، وهو الواقع الذي درسه الفيلسوف الألماني “هوركايمر” وذاق العالم كله مرارة الفاشية والعبقرية بعد صعودهما. وتحقق التجارة فى البشر، والدعارة فى القلب منها 30 مليار دولار أرباحا سنوية وفقا لتقديرات منظمة العمل الدولية، وهي تمثل ثالث تجارة غير مشروعة فى العالم، وتستهدف عادة النساء والأطفال .

ولست بحاجة إلى عرض مآسى الهجرة، والموت فى عرض البحر بحثا عن فرصة للبقاء على قيد الحياة، هروباً من القارات الطاردة. ويتسارع إندماج رأس المال والإنتاج والأسواق عالميا وتتخذ العولمة طابعاً متوحشا يؤدي إليه منطق الربح وحده دون أي اعتبار لشيء آخر. وتخضع الديموقراطية فى ظل هذا الواقع خضوعا مطلقا لسلطة رأس المال، وأصبح المفكرون الموضوعيون يتداولون مصطلح الديموقراطية الشكلية أو الزائفة، وهم يرون مؤسسات الإعلام الكبرى وهي تنحدر وتنحاز بصور شتى لا للحقيقة، كما كانت فى بدء صعود الرأسمالية، ولكن لسلطة المال.

ويكتب الإيراني “كريم عبديات بني سعيد” قائلا عن نشاط اللوبي الإيراني الأمريكي الذي يعَرف اختصارا بـ “ناياك” إنه يبذل كثيرا من المال على شركات العلاقات العامة والمحاماة. ويضيف فى واشنطن يمكن أن تضمن لك هذه الشركات تغطية صحفية، ومقالات إفتتاحية فى أي من الصحف والمجلات الأمريكية المرموقة مقابل دفع مبالغ جيدة” .

وكان عنوان الموضوع الذي نشره بني سعيد فى جريدة “ الشرق الأوسط “ هو : كيف يؤثر اللوبي الإيراني فى أمريكا على وسائل الإعلام الليبرالية .

أما صحيفة “كومولكايا برافدا” الروسية فكتبت تقول إن ما يحصل عليه بعض الخبراء الذين يشاركون فى البرامج الحوارية الموجهة يقرب من مليون روبل شهريا، أي ما يساوي 16 ألف دولار. أما عن المشاهدين الحضور فتتم دعوتهم مقابل 300 أو 400 روبل بموجب نظام يلتزمون فيه بتنفيذ ما يُطلب منهم سواء بالتعبير عن دعمهم للمتحدثين، وتأييدهم لما يقولونه بالتصفيق تلبية لإشارة يجرى الاتفاق حولها، أو بصيحات الاستهجان، أو الاستحسان حسب المتفق حوله.

ويضيف “سامي عمارة” كاتب الرسالة من “موسكو” لجريدة “الأهرام” بعنوان “البرامج الحوارية مدفوعة الأجر تجتاح روسيا “ يضيف: أنه حتى الاشتباكات وتبادل اللكمات والشتائم تجري بموجب سيناريو”. ولكن الصراع الإجتماعي والسياسي ينتج أدوات أخرى فى مواجهة هذا الانحطاط، وكان المفكر التقدمي الأمريكي “نعوم تشومسكي” هو الذي استخدم مصطلح “الانحطاط“ فى وصف الواقع الناتج عن انتخاب “ترمب” رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.

وتقول الكاتبة المصرية “منى الطحاوي” التي تعيش فى الولايات المتحدة الأمريكية وتكتب فى بعض صحفها. “ إن الحاجة هي أم الإختراع معلقة على انتشار كتابات المصريين على “الفيس بوك” و”تويتر” و”الواتس” وغيرها، إذ وجدوا ضالتهم فى حرية التعبير لأنه ليس لديهم الكثير من قنوات التعبير عن الرأي.

ومن جهة أخرى استطاعت المدونات الأمريكية وبنجاح خارق أن تحقق ما لم يكن ممكنا أن تقوم به الصحف المطبوعة حين تصدت لفساد الشركات العملاقة المالكة للصحف الأمريكية الكبرى وأدوات الإعلام الأخرى خاصة التليفزيون .

ولم يتعود قراء الصحف الأمريكية على أن يقرأوا تحقيقات أو آراء تنتقد سلوكيات أصحاب الصحف، وتدخلهم المباشر او غير المباشر فى التحرير، ونشر الموضوعات مدفوعة الثمن كما يوضح لنا نشاط اللوبي الإيراني.

ولقيام المدونات بهذا الدور أي تحولها إلى منصات لحرية الرأي والتعبير حصلت على صدقية واسعة لدى الملايين التي تزداد شكوكها يوما بعد يوم فى وسائل الإعلام التقليدية التي يسيطر عليها المال ومنطق الربح فقط. وأعود إلى تعبير أستاذي الراحل “محمد عودة” عن عظمة الراسمالية وإنحطاطها، وقبل ربع قرن كتب أستاذ الاقتصاد والمناضل الاشتراكي د. فؤاد مرسي” كتاباً تأسيسياً بعنوان “الرأسمالية تجدد نفسها” بحث فيه بعمق الآليات المبتكرة والمبدعة لهذا التجديد، لكنه لم يتوقف أمام موضوع التدهور الأخلاقي الذي صاحب عمليات الاستغلال المكثف للكادحين، وهو ينتج هذا التفاوت الفادح والفاضح بين الذين يملكون الثروات والذين ينتجون هذه الثروات، والأخلاق ليس القول بالقيم ولكن العمل بها، وقد تجردت الرأسمالية فى مرحلتها الليبرالية الجديدة التي تسيطر الآن على العالم كله من أي أخلاق متشبهة بعلاقات الغابة الأقوى هو من ينتصر .

ومع ذلك فإن البشرية لن تقبل هذه الأوضاع إلى الأبد، والثورة ضدها قايمة والكفاح دوار، من أجل عالم تحكمه القيم التي تصارع الآن أخلاق الغابة وليسمح لي أستاذي “محمد عودة” أن أضيف لاستنتاجه البليغ أن عظمة الرأسمالية يصنعها بشر عاملون أسوياء، أو سفالتها فهي ناتج التكالب على الربح بأي ثمن .. ولابد أن ينتصر البشر .

* مناضلة وكاتبة يسارية مصرية