أربعون عاما على وثيقة 6 حزيران 1980 - نحن أهل هذا الوطن ولا وطن لنا غير هذا الوطن! عصام مخول

2020-06-05

أربعون عاما على وثيقة 6 حزيران 1980 - نحن أهل هذا الوطن ولا وطن لنا غير هذا الوطن!

عصام مخول

لم ننكر، ولا يمكن ان ننكر حتى لو جوبهنا بالموت نفسه، أصلنا العريق: اننا جزء حي وواع ونشيط من الشعب العربي الفلسطيني

في السادس من حزيران قبل أربعين عاما صدرت صحيفة الاتحاد الحيفاوية وعلى صدر صفحتها الاولى "نداء الى الرأي العام"، أصبح يعرف بوثيقة 6 حزيران 1980، والتي شكلت نقطة ارتكاز وطنية وديمقراطية محورية في تبلور الفكر السياسي للجماهير العربية في اسرائيل وتبلور طريقها النضالي حتى أن اللجنة التحضيرية لمؤتمر الجماهير العربية المحظور في حينه اعتبرت "أن الاسس والمطالب التي تتضمنها الوثيقة يجب ان تصبح ميثاقا وطنيا تؤيده الجماهير العربية كافة، وتشارك في النضال من أجل تحقيقه قوى السلام والديمقراطية اليهودية ".

في صلب هذه الوثيقة تحديد واضح وقاطع لمسألتين استراتيجيتين تؤسسان لموقع الجماهير العربية على الساحة الاسرائيلية، وموقعها من شعبها العربي الفلسطيني وقضيته التحررية المتواصلة . فقد أعلنت الوثيقة في معرض تصديها لتصاعد الاصوات الفاشية ومخططاتها لطرد المواطنين العرب واعتبارهم غرباء في وطنهم: "نحن أهل هذه البلاد، ولا وطن لنا غير هذا الوطن". واعتبر اميل توما في الاجتماع الاول للجنة التحضيرية للإعداد لمؤتمر الجماهير العربية التي وقف على رأسها: "من العمى السياسي والتوجه الكارثي، أن يتصور القائمون على هذه الدولة أنهم يستطيعون اقتلاعنا من جذورنا الضاربة عميقا في تربة وطننا .. لقد صمدت الجماهير العربية وهي أقلية ضئيلة لا يتجاوز عددها المئة وخمسين ألفا، وهي تعاني صاعقة نكبة الشعب الفلسطيني وحرب 1948.. واستطاعت حتى في تلك الفترة العصيبة أن تتغلب على شعور التمزق والضياع فخاضت معركة البقاء بصلابة وحزم .. فما بالكم اليوم وقد أصبحت جماهير واعية، متراصة الصفوف، متلاحمة القوى فخورة بأبنائها، تتسم بالتفاؤل وبالثقة الذاتية، تخوض معاركها دفاعا عن حقوقها اليومية والقومية مؤمنة بعدالة قضيتها وصدق طريقها ؟".

وفي الرد على السياسة العنصرية والقوانين الفاشية التي تقوم على تحريم التزامنا بانتمائنا الطبيعي الى شعبنا الفلسطيني والى ثقافتنا وأناشيدنا الوطنية، وتجريم تماثلنا السياسي مع نضال شعبنا الفلسطيني ، ومع العَلَم الفلسطيني والتهويش على شرعية مواطنتنا كلما أنشدنا "بلادي بلادي"، وكلما طالبنا بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، جاءت الوثيقة لتحدد المقولة الاستراتيجية الشجاعة الثانية: "حتى لو جوبهنا بالموت نفسه فلن ننسى أصلنا العريق، نحن جزء حي وفاعل ونشيط من الشعب الفلسطيني". فوثيقة السادس من حزيران لم تكتف بأن تحدد أن الجماهير العربية الباقية في وطنها هي امتداد إثني وثقافي من شعب فلسطيني بدّدته النكبة، ولكنها أصرت على "أننا جزء حي وفاعل ونشيط" من نضاله ، ومن معركته التحررية على حقه في تقرير المصير وفي استقلاله الوطني، من موقعنا داخل اسرائيل ومن قلب مواطنتنا فيها.

من استراتيجية حزب الى استراتيجية شعب !

مع نشر الاتحاد لوثيقة السادس من حزيران 1980 ، تنادى "ممثلو أوسع أوساط الرأي العام العربي في اسرائيل" الى التوقيع على النداء والالتزام به كتعبير عن الموقف الجمعي لأكثر من نصف مليون مواطن عربي فلسطيني في داخل اسرائيل ، يحدد مهامهم الكفاحية كأقلية قومية ، ويبلور دور الجماهير العربية السياسي ومنطلقاتها وثوابتها الوطنية وأدوات تنظيمها.

وأعلن الموقعون على وثيقة 6 حزيران 1980 في ختام الوثيقة: "انهم سيعملون، بمشاركة غيرهم ممن سيضيفون تواقيعهم الى هذا النداء، على عقد مؤتمر يعبر عن ارادة شعبنا في التصدي الحازم، جنبا الى جنب مع كل القوى الدمقراطية اليهودية، لتصاعد خطر العنصريين والفاشيين في اسرائيل. ويعبر عن تصميم شعبنا على الوقوف، صفا واحدا مع قوى السلام العادل في اسرائيل والعالم أجمع، ضد استمرار الاحتلال وأعماله القمعية والكولونيا لية، من اجل تحقيق السلام العادل والشامل والثابت.

وبادر أكثر من مئة من الشخصيات العربية في هذه البلاد الموقعة على الوثيقة، الى الاعلان عن لجنة تحضيرية للإعداد للمؤتمر، وترأّس اللجنة وقاد أعمالها القائد الشيوعي التاريخي الدكتور إميل توما. واقترح في اجتماعها التمهيدي في 6 أيلول 1980 في مدينة شفاعمرو ملامح المؤتمر، وحدد في تقريره المفاصل الاساسية لمفهوم مؤتمر الجماهير العربية ومهامه في بناء وحدة الجماهير العربية الكفاحية كأقلية قومية، ووضع ملامح نضالها بالمشاركة مع القوى الديمقراطية اليهودية الحقيقية في اسرائيل، وطرح بديل للإجماع القومي الصهيوني السائد، يقوم على المواطنة المتساوية والاعتراف بالحقوق المدنية والقومية المتساوية للجماهير العربية في اسرائيل ، وتخليص الشعبين العربي واليهودي من نتائج الاحتلال الاسرائيلي وما ينتجه من تعمق العنصرية والفاشية في اسرائيل. إن مثل هذه الشراكة هي ليست رغبة هلامية ، بل هي نقلة نوعية تقوم بالضرورة على أساس برنامج سياسي واضح المعالم ، هو البرنامج الذي تضمنته وثيقة السادس من حزيران 1980.

الوحدة الكفاحية أداة استراتيجية !

وحدد اجتماع شفاعمرو مفهوم الوحدة الكفاحية كمفهوم استراتيجي ، يختلف عن أشكال أخرى من الوحدة الانتخابية والاصطفافات العابرة فجاء: "لقد اتفق المبادرون الى وثيقة 6 حزيران والالاف التي تماثلت مع برنامجها السياسي .. على انهم لا يهدفون الى تحويل المؤتمر الى منظمة سياسية تخوض الانتخابات القطرية او المحلية .. وأجمعوا على أمر واحد : أن يجسّم هذا المؤتمر أوسع وحدة شعبية عرفتها الجماهير العربية في هذه البلاد ، بغض النظر عن معتقداتها السياسية – الاجتماعية المتباينة وعن انتماءاتها الحزبية .. فبهذه الوحدة تستطيع الجماهير التي تؤلف قوة سياسية – اجتماعية ذات وزن كبير، أن تمارس دورها في الكفاح من أجل حقوق الشعب العربي الفلسطيني المشروعة، من أجل السلام العادل والمقيم .. ومن أجل العيش باحترام متبادل في هذه البلاد .. من أجل المساواة ولا أقل من المساواة للجماهير العربية ".

وبهذا المعنى، شكلت الدعوة لعقد مؤتمر الجماهير العربية بمشاركة القوى الديمقراطية اليهودية على هذه الاسس، أرقى وأعمق تجربة لتنظيم الاقلية القومية العربية وطنيا وديمقراطيا حتى يومنا هذا، بحيث تستطيع أن تطرح مشروعا يتحدى الاجماع القومي الصهيوني ، ويقدم بديلا يهوديا عربيا ديمقراطيا وتقدميا له ، مناهضا للاحتلال والاضطهاد القومي، ليس في إطار عملية انعزالية، وليس كحل وسط بين الثوابت الوطنية من جهة وبين الاجماع القومي الصهيوني واليسار الصهيوني من جهة أخرى، وانما كقاعدة لنشوء قوة تغيير حقيقية مناهضة للإجماع السائد، تلتقي مع القوى الديمقراطية اليهودية الحقيقية، على اعتبار أن مصلحة هذه القوى ومصالح الجماهير الشعبية التي تمثلها، تتطلب النضال المشترك الى جانب معارك الجماهير العربية ضد الاحتلال والقمع اللاحق بالشعب الفلسطيني، وضد العنصرية والفاشية المتربصة بهذه الاقلية القومية في داخل اسرائيل من جهة أخرى، ليس كفعل خير وعمل أخلاقي نبيل، وانما كمصلحة استراتيجية مباشرة لهذه القوى وطموحاتها .

وكان من البديهي أن يرتبط الكفاح من أجل السلام العادل بالكفاح من أجل المساواة .. وأن تكون المعركة على الديمقراطية في اسرائيل مشروطة جدليا بالكفاح ضد الاحتلال والضم وبالمواجهة مع الاضطهاد القومي، وليس لكع قضايا الاحتلال والاضطهاد القومي على الرف، ريثما يتعافى "المعسكر الديمقراطي"، لأن هذا المعسكر لن يتعافى ولن يكون أصلا، الا إذا ناضل بصدق ووضوح وبلا تلعثم ضد الاحتلال وجرائمه، وضد الاضطهاد والتحريض القومي وضد عقلية التهويد والفصل العنصري.

وبهذا المعنى فإن وثيقة السادس من حزيران 1980 واللجنة التحضيرية لمؤتمر الجماهير العربية بمشاركة القوى الديمقراطية اليهودية، "لم تعتذر"، ولم تتعفف عن الربط المباشر بين الانحدار الفاشي في اسرائيل والازمة المطبقة على "الحيز الديمقراطي فيها"، وبين تعمق الاحتلال وقمع الشعب الفلسطيني والتنكر لحقوقه القومية، إضافة الى التنكر لحق الجماهير العربية في اسرائيل بأن تمارس دورها السياسي كاملا - مرة كجزء من الشعب العربي الفلسطيني ومعركته التحررية، ومرة أخرى كجزء من المواطنين في اسرائيل ومن المجتمع الاسرائيلي .. مرة باعتبار أننا "أهل هذه البلاد ولا وطن لنا غير هذا الوطن"، ومرة أخرى باعتبار الساحة السياسية في اسرائيل هي ساحة نضالنا المشروع كقوة تغيير تقدمي أساسية، قوة معنية بالنضال المشترك مع القوى الديمقراطية اليهودية خارج الاجماع القومي الصهيوني وفي مواجهته، ليس بالأذناب الى هذه القوى، وانما من خلال الاستثمار في تطوير وعيها وفي تطوير وعي جماهيرنا بالمواقف الصحيحة والصعبة وليس بالمواقف السيارة والشعبوية .

هذه هي المعادلات التي وضعتها وثيقة السادس من حزيران وما زالت أسسها ماثلة بقوة منذ أربعين عاما وحتى السادس من حزيران 2020 برغم تغير التفاصيل وتراجع المد الثوري .

وثيقة 6 حزيران والاعصاب المكشوفة للمؤسسة الحاكمة

كان التحدي النوعي الذي فرضته وثيقة 6 حزيران والتحضير الدقيق لمؤتمر الجماهير العربية والنقلة الاستراتيجية التي مثّلها أقوى من الأعصاب المكشوفة في المؤسسة الحاكمة في اسرائيل، فأصدر مناحيم بيغن رئيس الحكومة بصفته وزير الأمن أمرا عسكريا يعتمد على أنظمة الطوارئ الانتدابية (التي كان هو نفسه قد حذر منها في الماضي باعتبارها– أنظمة فاشية)، يحظر فيه عقد المؤتمر، ويحظر التعامل بوثيقة السادس من حزيران ويخرجها خارج القانون، ويحظر اللجنة التحضيرية للمؤتمر، وتستحق وثيقة 6 حزيران معالجة إضافية مني قريبا تتناول جوانب لم يتسع لها المجال هنا. وأشعر بأكبر الاعتزاز انني تشرفت بكوني عضوا في اللجنة التحضيرية للمؤتمر ممثلا عن الحركة الطلابية العربية في الجامعات الاسرائيلية ورئيسا للاتحاد القطري للطلاب الجامعيين العرب، في وقت كانت فيه الحركة الطلابية العربية والتقدمية في الجامعات الاسرائيلية، مركبا عضويا أساسيا في كل حراك وطني، وقوة فاعلة وازنة في كل ممارسة ثورية وفي صقل ملامح المرحلة وتدفع ما يستحق من أثمان.

لقد حظرت حكومة مناحيم بيغن عقد المؤتمر بأمر عسكري، لكن خارطة الطريق التي رسمتها وثيقة السادس من حزيران ما زالت ماثلة وراسخة توجه نضالنا، وما زلنا أهل هذا الوطن الذي لا وطن لنا سواه.

* ملحق جريدة الاتحاد الاسبوعي 5 حزيران 2020