معالم تخلف المجتمع العربي وعوامله (الحلقة التاسعة) سعيد مضية - الحزب الماركسي ضرورة

2020-06-09

ننشر (الحلقة التاسعة) من  مقالات الباحث والكاتب سعيد مضية، بعنوان (معالم تخلف المجتمع العربي وعوامله).

معالم تخلف المجتمع العربي وعوامله

(الحلقة التاسعة)

سعيد مضية

الحزب الماركسي ضرورة

ماركس: البشرية لا تطرح على نفسها إلا المسائل التي تقدر على حلها، إلا تلك المسألة التي باتت شروط حلها متوفرة.

كتب هشام شرابي في مقدمة الطبعة الرابعة (1991) من كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي"كيف تحول الى الفكر الماركسي. مقيما الأثر الكبير الذي تركه ماركس على تفكيره وثقافته، وكيف تمت عملية التطهر الذاتي من هيمنة الفكر النقيض وثقافته المسيطرة: "في جامعة جورجتاون كنت أحاضر في تطور النظريات السياسية والاجتماعية الأوروبية ابتداء من هيغل وانتهاء بسارتر، وكان عنوان المادة 'تاريخ الفكر الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين’. بالطبع كانت الماركسية تحتل جزءا كبيرا من هذه المحاضرات بصفتها خليفة الفكر الهيغلي وملتقى تيارات الفكر الاقتصادي الانكليزي، من جهة، والفكر الاشتراكي الفرنسي من جهة أخرى. ولاقت هذه المحاضرات قبولا حسنا بين الطلبة ، مما دفع رئيس دائرة التاريخ الى أن يطلب الي الاستمرار فيها عام1962-1963 والعالم الذي يليه،  ومن ثم كل عام دون انقطاع.

"ومع انني كنت في مطلع كل عام أعيد النظر في محاضراتي وأنقحها وأعيد كتابة مقاطع منها، فإنني لم أغير قط تلك المقاطع المتعلقة بماركس، وكنت حتى سنة 1967 أعالج الماركسية من زاوية الفكر الليبرالي الكلاسيكي ، فأتناول ماركس من حيث انه مفكر أوروبي 'آخر’ وأنقد نظريته الجدلية في ضوء "الفشل" الذي أصاب تنبؤاته حول حتمية انهيار النظام الرأسمالي والشكل الذي اتخذته الماركسية في الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الأخرى. وهكذا بقيت أرفض الماركسية طوال سنوات عديدة بشكل لا يقبل إعادة النظر.

"وفي صيف 1967 أخذت في إعداد  محاضراتي لفصل الخريف. ولسبب لا ادري مصدره ابتدأت بماركس. وما أزال اذكر قراءتي لماركس للمرة الأولى . أعرف تجربة هزتني بهذا الشكل منذ قراءتي الأولى- وانا في السابعة عشرة- لنيتشه. لكن وقع نيتشه، في تلك السن، كان عاطفيا أكثر منه فكريا، بينما ماركس نفذ الى أسس تفكيري.

"كان من نتائج هذه التجربة انها كشفت لي عن مقدرة الثقافة المسيطرة في إخضاع عقلية الفرد لقيمها وتضليله على أعمق المستويات. وشعرت انني ابتدأت بكسر القيود الفكرية التي كبلتني، وأصبحت أسير في اتجاه فكري مستقل استمده من  قوة داخلية وليس من قوة تسيطر علي من خارج. أدركت أن الخطوة الأولى في التحرر تكمن في التحرر الذاتي، وان بداية التحرر تكمن في التخلص من عبودية الفكر  المسيطر. "ولكن سرعان ما اكتشفت ان تحقيق هذه الخطوة ليس امرأ سهلا وإنما هو في غاية الصعوبة. إذ ان التحرر الذهني يتطلب عملية غسل دماغ جذرية وطويلة المدى، وإعادة نظر في جميع ركائز الفكر الموروثة، والمستمدة من الثقافة المهيمنة، وإخضاع هذا الفكر لنقد مستمر وشامل."

لم يقتصر التغير على الفكر، بل شمل الأخلاق كذلك؛ "ايام الثورة كانت أيام المحبة- محبتنا للأرض والإنسان وللعالم ولبعضنا بعضا. ولم يكن العنف الثوري إلا تعبيرا عن هذه المحبة (والعنف الثوري ممارستنا له كانت كلامية) كان عنفا نبيلا مطهرا يقهر قوى الظلم والاستعباد، ليبني على أنقاضها عالما جديدا تسوده العدالة والحرية وأخوة الإنسان للإنسان...في تلك الأيام تحولت الى شخص أفضل من الذي كنته فكرا وشعورا، ونية وعملا، وأصبحت اشعر بتأنيب الضمير إذا ما فكرت بنفسي قبل ان أفكر بزملائي، وإذا اهتممت بمظهري او قمت بعمل او تفوهت بكلمة بدافع حب الظهور..." 

طرحت الحلقات السابقة إشكاليات التغيير التقدمي للمجتمعات العربية، وهي إشكاليات لم تخطر ببال المناضلين الأوائل، ممن ظنوا ان استجابة الجماهير لنداء الحرية الوطنية تطيح بالسيطرة الامبريالية المباشرة، وتنضج تلقائيا ظروف الحرية والوحدة العربية، وتمضي الأمة العربية الموحدة باتجاه التنمية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي. لكن الوقائع المترتبة بعد زوال السيطرة المباشرة للإمبريالية أسفرت عن نظام أبوي مستحدث جعل الناس تحن الى ماضي السيطرة الامبريالية المباشرة؛ فقد ابتليت بأنظمة أبوية لم تعرف حدودا للقهر واستباحة الحريات العامة وهدر الكرامة الإنسانية. "ومن استبيحت إنسانيته سوف يستبيح كل شيء حين تحين الفرص. وأحداث الاضطرابات خير شاهد، حيث التلذذ بالقدرة على الهدم والهدر. نزوة الموت الوجودي التي فتكت بكيان الميليشيات تعود فترتد على أيديهم تدميرا للعمران" [2/247].

رد نتنياهو على طلب الرئيس الفرنسي بتحسين معاملة الفلسطينيين، وقال ان الفلسطيني تحت حكمه يعيش بأفضل من العرب تحت الأنظمة العربية. ولكن يتوجب على نتنياهو تمييز"الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" عن الأنظمة الاستبدادية المتخلفة التي يتباهى بصداقتها لنظامه العنصري. 

في حالة الإبقاء على آثار الهدر يستمر الضياع ، وتتكيف النفوس لتقبل القهر من جديد. وهذا ما حدث في البلدان الخارجة من السيطرة الامبريالية المباشرة؛ بقيت تابعة للإمبريالية من خلال الأنظمة الأبوية. وبعد المتاهة الطويلة في دنيا الأبوية المستحدثة فإن الإنسان العربي يقف أمام احتمالين: استمرار الضياع في المتاهة ليتحول الى فضلات بشرية والانضمام الى الفئات المستغنى عنها؛ او التخلص من هوية الفشل وارتهاناتها وبناء هوية النجاح تتمثل في وجود مليء ذي معنى يتصف بالتمكن وحسن الحال" [2/319].

التوجه العقلاني للتغيير الديمقراطي يبدأ بمحاولة التعريف بالمسألة ثم يحدد الهدف المطلوب الوصول اليه، وتأتي بعد ذلك بحث المشكلات المتضمنة، ثم يجري جمع المعلومات والمعطيات  المتوفرة عن المسألة في مختلف جوانبها ومستوياتها  وفرزها من حيث الأهمية ومدى واقعيتها. عند هذا الحد يغدو ممكنا طرح تصورات متعددة  بالحلول الأنسب، أخيرا يتم رسم خطوات الحل ومراحل  التنفيذ وأدواته وأساليبه، ليس في الغرف المغلقة، وإنما في ميادين الحراك الجماهيري. وتكون الجماهير المنطلقة من الجمود والحيرة متطلعة للتحرر والانعتاق من العبودية، وقد اكتسبت الوعي بواقعها وسيطرت على محيطها، هي المرجِّح لأي خيار يمضي عبره ركبها المظفر.

أجمل هشام شرابي إشكاليات التحرر الاجتماعي بتحديث الحياة الاجتماعية في النظام الأبوي المستحدث  يعيق الانطلاق الديمقراطي : أبوية "مستحدثة أو محدثة" دلالة على توفر عامل خارجي حفز التطور داخلي، دفعه الى التحول، فأخل بعملية التطور الذاتي الداخلي واورث العلل الاجتماعية ؛ البنية الأبوية تعطل نمو برجوازية ناضجة وطبقة عاملة حادة؛ فتستقر هجانة اجتماعية تستعصي على التقدم والتحديث وتلفظ العلم.

سلطوية الأبوية منعت تجذر العقلية العلمية في الشخصية العربية، فملأت فراغ المعرفة العلمية  بالخرافات وبالسحر والشعوذات بها تفسر الظواهر، واحيانا تلوذ بتدين شعبي ذي نزعة جبرية حتمية؛ لا عقلانية تنظم النشاطات الفردية، الاجتماعية  والسياسية، وترتد العواقب عجزا وقصورا. الدولة ذات النظام الأبوي المحدث كيان مفتت لا يستطيع النماء لأنه لا يتمتع بالمناعة والحيوية والدينامية، وبغض النظر عن بناها التشريعية والسياسية وأشكالها، ليست سوى سلطنات قديمة محدثة، جرى تحديث أجهزة القمع ومراقبة الجمهور وفق أرقى مستويات العلوم والتكنولوجيا.

الأبوية تهدر المؤسسات والثروات لإشباع نزواتها؛ وحين يتم هدر المؤسسات والثروات يتم الاستفراد بالإنسان وكيانه من خلال تجريده من كل مرجعيات القوة والمنعة والحقوق. السيد الأبوي يجحد إنسانية القاعدة الاجتماعية المقهورة، يفقد التعاطف مع المعذبين في الأرض والإحساس بمعاناتهم وآلامهم، ومخاوفهم وحاجاتهم. حيال هذه الحالة يصبح الكيان الوطني مجرد كيان شكلي هزيل مهدد بالانفجار في أي لحظة يتغير فيها نظام القوى. وإذا هدر الوطن فإن مؤسساته ستهدر بدورها، وكذلك طاقات أبنائه وفرصهم، ما عدا القلة المحظية منهم. مؤسسات الأبوية الاقتصادية والسياسية والعلمية والثقافية تفرز البعوض الثقافي والذباب الإليكتروني، تنشر الأوبئة الاجتماعية، لسعاتها شواحن خدر في طاقات التغيير. اما الفكر المستورد فيُمسَخ حلية ومصدر نفوذ ، فهو مقطوع الصلة بمشاكل المجتمع، لا يعنى بها ولا يجيب على أسئلتها .

الأنظمة الأبوية تحيل مشاكلها على أفراد المجتمع فتجير عجزها على السلوكيات "المرَضية" لأفراد تضحي بهم بين فينة وأخرى؛ فالقانون جهاز طبقي والعقوبات غايتها تحصين النظام السياسي. وتهب الحركات العصبية الطائفية لتجرم المجتمع بالابتعاد عن الدين، وترهن الخلاص بإقامة الخلافة! مستغلين هشيم خراب الأنظمة الأبوية، يسدرون في أبوية جديدة مقنعة بالدين. الخلافة كانت قائمة حين احتلت جحافل المغول عاصمتها بغداد ودمرت معالمها الحضارية الفكرية والمادية. وقامت الخلافة الفاطمية وثم راحت تذوي وتنطفئ . كانت الخلافة قائمة بقوام "الرجل المريض" حين انهزمت جيوشها وتركت مقاطعاتها  العربية نهبا لسايكس بيكو، وبزغت خلافة داعش وخليفتها المكنى أبي بكر، ارتد مدحورا مذموما، وعوقب بالإعدام على خيبته. قضي على الرجل علّ زواله يطوى بموته ملابسات حركته وأسرار جرائمه السوداء.. مؤسسو حماس بيتوا خطف القضية الفلسطينية من أيدي المنظمة؛ لكن ملابسات الحركة التاريخية في ظل السيطرة الامبريالية - الصهيونية وجهت الأمور نحو شق المقاومة الفلسطينية، ليغدو الانشقاق عاهة ملازمة تشوه وجه المقاومة الفلسطينية. فتحت لهم الفضائيات نوافذها كي يطلوا متوعدين شارون ب "تلقينه درسا لا ينسى" ومهددين إسرائيل "بزلزلة الأرض تحت الأقدام"، الى أن استباحت قوات الاحتلال الإسرائيلي مناطق السلطة الفلسطينية وأعادت السيطرة المباشرة على كامل الوطن الفلسطيني، وراحت توسع الاستيطان على راحتها.

قارب علم النفس الاجتماعي قضية التحرر الإنساني، من منطلق تصفية ترسبات الهدر وتعافي النفسية الاجتماعية  لاكتساب الصحة النفسية. تجارب الماضي الأليمة تبين أن الإطاحة بنظام استبدادي يحل النصف الهين للمشكلة؛ وأصعب منه خوض صراع ضد تراكمات الهدر الدهري، والمتمثلة في" التواطؤ الذاتي مع الهدر الخارجي الذي لا يستتب إلا من خلال اجتياف احكامه (بمعنى ابتلاع احكام الهدر وتمثلها برسم التوازن النفسي)، والامتثال لها، وبالتالي إعادة إنتاجها  ذاتيا، وهو الأخطر" [2/319]. تلك العقد النفسية المشوهة لإنسانية البشر، الشاهد على هدر الإرادة وتهشيم الثقة بالنفس تلقي الأفراد والجماعات فضلات بشرية فائضة عن الحاجة، إذ تركن وعيها عند حدود الصفر أو دونه.

تناول انطوان غرامشي إشكالية الوعي الشعبي في حدوه الدنيا، "ترجمة الحكمة الشعبية الى فلسفة واستيعاب الفلسفة(الماركسية) داخل الحكمة الشعبية-هاتان هما القاعدتان الرئيستان لفكر غرامشي" [5/7]. "عندما تفقد قئات شعبية المبادرة في النضال وينتهي نضالها الى سلسلة من الهزائم (وهذه وضعية الشعب الفلسطيني)، تصبح النزعة الحتمية الآلية قوة جبارة للمقاومة المعنوية ولضبط النفس وتحقيق الصمود الصابر العنيد. 'لقد هزمت موقتا، ولكن اتجاه التاريخ، في النهاية، يعمل لصالحي’.

هكذا تتحول الإرادة الحقيقية الى فعل إيمان، الى نوع من العقلانية التاريخية، والى شكل بدائي تجريبي من أشكال الغائية العاطفية التي تلعب الدور الذي تلعبه الجبرية  او القدرية في الديانات الروحية... ولكن ما ان تتحول الفئة المقهورة الخاضعة الى فئة مهيمنة مسئولة عن قيادة نشاط الجماهير الاقتصادي حتى تصبح النزعة الآلية خطرا عظيما" [5/.30]. وهذا يندرج على القيادات الحزبية ، فالجبرية تنقض الديالكتيك، وتحول دون المرونة والكيفية.  يجري غرامشي تفاعلا بين الفلسفة والحكمة الشعبية مضمنة في الأمثال والمأثورات الخ . ولكن الأمثال متضاربة والوعي الشعبي بأجمعه غير متناسق، الأمر الذي يستوجب نقدا، أي غربلة للمأثورات الشعبية، ومراعاة بلورة الثقافة الموحدة للجماهير عبر النشاط النضالي. اندماج الفلسفة الماركسية بالحكمة الشعبية يحيلها فكرا من الحياة الاجتماعية الراهنة ويمنحها المقبولية لدى الجماهير في نضالها المثابر من اجل تجديد الحياة الاجتماعية.

بتحقق التوافق بين الجمهور المتحرك لبناء الحياة الجديدة وبين الحزب الماركسي، ينجز هيمنته. والهيمنة غير السيطرة؛ فالسيطرة تتحقق سياسيا بعد استلام الحكم، بينما الهيمنة تتحقق ثقافيا، من خلال وحدة النظرية والممارسة. "وحدة النظرية والممارسة ليست معطاة آلية، وإنما هي جزء من عملية تاريخية تتصف مرحلتها البدائية بتحسس 'التمايز’ و'الانفصال’ وبشعور غريزي بالاستقلال، ثم ترقى الى مستوى حيازة رؤية شاملة موحدة  ومتماسكة للعالم والحياة. وهذا ما يحدو بنا الى التأكيد ان التطور السياسي لمفهوم الهيمنة يشكل قفزة فلسفية جبارة بقدر ما يشكل قفزة سياسية وعملية جبارة. ذلك أن هذا التطور يفترض بالضرورة وحدة فكرية  ومذهبا أخلاقيا متولدين  عن رؤية شاملة تمكنت من تجاوز الحكمة الشعبية وأضحت رؤية نقدية (حتى ولو ظلت هذه العملية محصورة ضمن نطاق ضيق)" [5/27]. ان الوعي النقدي للذات يعني سياسيا وتاريخيا تكوين نخبة من المثقفين. إن جماعة بشرية ما لا تميز نفسها عن سواها، ولا تحقق استقلالها الناجز إلا اذا هي نظمت نفسها(بالمعنى العام للكلمة)، ولا تنظيم بدون مثقفين، أي بدون منظمين وقادة. بعبارة أخرى لا تنظيم بدون تحديد دقيق لملامح العنصر النظري من وحدة النظرية- الممارسة، تتولاه فئة من البشر 'متخصصة’ في صياغة الأفكار على نحو مفهومي وفلسفي" [5/28].       

اما علم النفس الاجتماعي فيستهل المهمة بتفكيك العقد النفسية. يتطلب تفكيك عقدها النفسية أولا كي تلتحق بركب المجتمع الصاعد نحو التحرر من قيود التخلف الاجتماعي والسياسي، والانضمام الى البشرية المتحضرة. لا بد من  تغيير يطيح بالأنظمة الأبوية وبكل ما خلفته من إعطاب روحية وعقلية هي منبع الشذوذ والتخلف عن ركب الحضارة، يستبدل باستشراف الديمقراطية الثورية هدفا استراتيجيا. ذلك هو الهدف الاستراتيجي لا يختلف عليه عاقلان. ولا يختلف أنصار العقلانية في السياسة بصدد دور الحراك الجماهيري في إحداث التغيير، يحطم قيودها ويبدد حيرتها ويطهرها من عقد القهر.

جُرِب نظام الوصاية على الجماهير ولا حاجة لإعادة المجرب، وبات مطروحا على جدول الأعمال توليد حراك شعبي يتنامى باضطراد، تشحنه بالطاقة الثورية حركةٌ ثوريةٌ تسترشد بنظرية ثورية. "فقط المناعة التي توفرها المستويات العليا من الصحة النفسية هي القادرة على المرونة العالية واللياقة التكيفية، والفاعلية في مواجهة التحديات والشدائد. الكفاءة النفسية تتمثل في صحة الوظائف الحيوية وعملها بكامل طاقتها على مختلف الصعد؛ كما تتمثل الصحة النفسية النمائية في مشروع وجود متنام ومتجاوز لذاته على الدوام على مستوى الوظائف والأداء والانتماء" [2/315]. وهذه الكفاءة النفسية لا تتم تلقائيا او بجهود ذاتي ، بل إنها شحنات وعي علمي توفره قيادة سياسية ثورية تسترشد بنظرية ثورية على توافق دائم مع منجزات العلم.  

الضرورة تستدعي حزب التغيير مولد لطاقة شحن شعبية – دينامو- يستبدل الثقافة القولية بعناصر ثقافة عملية تنزل من القيادة السياسية الى الجماهير المتحركة بآمالها وطموحاتها، تتوالد بالتدريج مع تصاعد الحراك الشعبي واتساع مداه. "الوعي الاشتراكي او الفكر الاشتراكي ينشأ على قاعدة المعرفة العلمية العميقة، ثم يدخل هذا الوعي الى صفوف الطبقة العاملة من خارجها. ويستكمل لينين استنتاجه بتأكيد خطأ من يتصورون ان الحركة العمالية يمكن أن تصل تلقائيا الى الوعي الاشتراكي، وبناء عليه ضرورة وأهمية دور الحزب السياسي للطبقة العاملة، ومهمة ودور ذلك الحزب في إدخال الوعي الاشتراكي لصفوف الطبقة.

وفي غمرة صراع لينين دفاعا عن مبدأ ضرورة الحزب للطبقة العاملة ومهمة الحزب في نشر الوعي الاشتراكي...صاغ لينين فكرته الشهيرة :اما إيديولوجيا برجوازية او إيديولوجيا اشتراكية" [4/94،95]. في تلك الأثناء يفقد نسغ حياته ذلك التنظير المتخبط  والاعتباطي المنتشرين بين فئات  المتعلمين، حتى أولئك الحاصلون على الدرجات الجامعية، يضبط القول او يقيّمه في الممارسة العملية، وتنشأ علاقة تفاعلية بين الفكر والممارسة العملية. وظيفة الماركسية ان تترجم عيانيه الحياة في قالب نظري. تولد الماركسية عبر عملية تلقيح تاريخية عميقة الجذور، بحيث تأتي تكملة لتراث قائم وتجسد هذا التراث على نحو ملموس" [5/17]..

الحياة الاجتماعية لا يمكن مقاربتها بغير الفكر الجدلي، والحركة الثورية تسترشد بالنظرية الثورية. الفكر الجدلي يتطابق مع واقع الترابط والتطور المستدام لعناصر الحياة الاجتماعية. تبرز ضرورة اتباع المنهج الجدلي لدى النظر في وقائع الحياة الاجتماعية ؛ فهي ليست كتلة جامدة بل نتاج تفاعل قوى وعناصر متعددة.

"يعلمنا المنهج الجدلي ان هناك طرفا أساسيا وأطرافا ثانوية في التفاعل، والعلاقة لا تبقى ثابتة بل تتحول؛ الطرف الذي كان أساسيا قد يصبح ثانويا في مرحلة تالية. الزمن يتكون من وحدات متعارضة كل منها يشكل شرط وجود الأخرى، ويحدد مظهرها واتجاهها. بالإضافة الى علاقة التناقض والتحديد المتبادل  بين الجزء والكل، بين الذاتي والموضوعي ، بين العقلاني والانفعالي، بين النفسي والمادي، بين العام والخاص، هناك تناقض وتحديد  متبادل بين العناصر المكونة لكل من هذه الأمور. الذهنية المتخلفة لا تستطيع إدراك قوى الشد والجذب، قوى التقدم والحركة في علاقاتها الجدلية مع قوى الصد والجمود داخل كل ظاهرة وفي علاقة الظواهر فيما بينها [ 1/68].

هكذا إذن، "مفهوم الثورة لا يكتسب معناه المحدد وتميزه إلا ضمن فضاء الماركسية"[3/59]، حيث التنظيم والثقافة والوعي، بمعناها الغرامشي، تلعب دورا مركزيا في السياسة، وما لم يتكفل اليسار بهذه القضايا لن يداخلنا الأمل في تحقيق مقاومة جماعية في إطار حركة ذات قاعدة جماهيرية واسعة.  الوعي ينقل الفرد والجماعة من عناصر وجود، الى وعي الوجود، و السيطرة على بقية عناصر الوجود، نظرا لما زود به من دماغ يفكر. "بما ان كل حدث تاريخي هو من صنع 'الإنسان الجماعي’ فإنه يفترض حكما ان يكون البشر الذين حققوا وحدة 'ثقافية – اجتماعية’ تدفع بعدد لامتناه من الإرادات المتنافرة الاتجاه، نحو الانصهار في تيار واحد يسعى نحو هدف مشترك ويسترشد برؤية شاملة مشتركة للعالم والحياة (وسيان أكانت هذه الرؤية عامة او خاصة، فاعلة آنيا – عبر المشاعر والأهواء-ام دائمة الحضور، أي ذات أسس فكرية عميقة الجذور يستوعبها البشر ويعيشونها الى حد تحولها الى شغف). ولأن الأمور تجري على هذا المنوال، تبرز المسألة اللغوية بشكل عام، أي تتوافر إمكانية بلوغ 'المناخ’ الثقافي الجماعي الموحد [5/46].

الشرابي في وقت لاحق ، ومن وجهة نظر مادية جدلية،  وبعد المزيد من إمعان النظر ارتأى " من العبث توقع تجاوز الأبوية المستحدثة عبر مجرد "التربية" او"التحديث" او"التنمية" حسب النمط الغربي الرأسمالي؛ لدى شروع هشام شرابي في تأمل مظاهر العجز في المجتمع العربي من رؤية ماركسية جديدة، خرج في كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" بنظرة رصدت عقد النقص لدى العرب تجاه الغرب، خاصة بعد هزيمة حزيران، "صرنا ننظر الى الغربي على أنه جبلة أخرى غير التي جبلنا منها نحن أو جبل منها سائر البشر. حتى أصبحنا ننظر الى أنفسنا وإلى مجتمعنا وإلى تاريخنا من خلال نظرة الغرب إلينا، فكان همنا الأول - عن وعي أو غير وعي - ان نحظى برضاء  تؤكد رغبتنا الخفية في أن نكون مثله لنحظى بقبوله وإعجابة. وهذا الشعور بالنقص هو الذي يدفعنا أيضا في الاتجاه المعاكس، أي الى الطعن في كل ما هو غربي والى التعلق الأعمى بالتراث وبالتقاليد" [المصدر، ص93].

يستثني شرابي إمكانية وجود حلول سريعة. كما أن نموذج ثورات الصين وفيتنام والجزائر لم يعد ينطبق على الوضع الراهن؛ يمكن التحول عن طريق الثورة الى  نظام أبوي جديد. بات النقد حاجة قومية ماسة، لا يرمي فقط الى تأسيس "خطاب نقدي" يتمكن من إضفاء الوعي الذاتي الصحيح، بل لتقديم نظرية فكرية فعالة قادرة على تفكيك أواصر الوعي السائد  والسير نحو وعي جديد وممارسة جديدة. وعليه فالنقد  يشكل اليوم مهمة مركزية في عملية الإطاحة بالخطاب الأبوي المستحدث ونظامه الاجتماعي والسياسي [1/171]. ينقل عن الفيلسوف فوكو قوله ان الإطاحة بنظام مستبد لا يعني ضمان التحرر. رأى أن "أكثر المسائل إلحاحا هي مسألة الحريات الديمقراطية، وحقوق الإنسان وتحرير المرأة" [1/73].

"الماركسية شكل رفيع من الوعي يتوصل اليه بعض الأفراد والجماعات والفئات بحكم انخراطهم في صراعات وتجارب معينة، يتميز هذا الوعي بالوحدة الجدلية الضرورية بين النظرية والممارسة، وبين الفكر والفعل، وبين الفهم والسلوك. ان الالتزام بالماركسية هو التزام بمشروع تغييري ينطوي على فهم معين للمجتمع البشري ، وهو يرتكز أساسا الى الإيمان بالإنسان وبقدراته الاجتماعية وإمكانية ان يسيطرعلى بيئته الاجتماعية والطبيعية، وان يضبط مسيرته الحضارية عقلانيا[3/44]. الثقافة، من وجهة نظر الثورة، تعني تحول البشر من الوجود الطبيعي الى "الوعي" بهذا الوجود.[1/81].

ضمن الظروف الراهنة حيث تنهمر من مطابخ الامبريالية ثقافة مسمومة تنضح بالزيوف ن وحيث الجماهير مرتبكة تلوذ باليمين يغرقها في المزيد من الفقر والاستلاب يعظم دور الثقافة في التحرر الإنساني، ما يوجب على حزب التغيير مضاعفة الاهتمام بالثقافة في النضال الطبقي. بيير بوردو، عالم اجتماع فرنسي واعظم علماء عصره وجد في إغفال التربية ثغرة خطيرة في نشاط اليسار. بات من الضروري للغاية أن نقر بان "أهم نماذج الهيمنة ليست اقتصادية بل وثقافية – تربوية، وتكمن في جانب المعتقدات والقناعات".

ويمضي بوردو الى القول ان "مثقفي اليسار استهانوا بالأبعاد الرمزية والتربوية للنضال، ولم يحسنوا دوما طرق الأسلحة الملائمة للكفاح في هذه الجبهة. وبصورة جزئية فهذا يعني ان على اليسار والآخرين أن يضعوا مسائل الثقافة والتربية في مركز أنشطتهم السياسية ، وذلك من اجل مقاربة حاجات الناس ونضالاتهم. وعليهم القيام بهذا الواجب بلغة مقبولة وعانية. ان قضايا الثقافة والوعي، بمعناها الغرامشي، تلعب دورا مركزيا في السياسة، وما لم يتكفل اليسار بهذه القضية لن يداخلنا الأمل في تحقيق مقاومة جماعية في إطار حركة ذات قاعدة جماهيرية واسعة".

"ان بناء ثقافة جديدة لا يفترض تحقيق اكتشافات "فريدة" وحسب، وإنما يستوجب أيضا وبالأخص التعميم النقدي للحقائق المكتشفة – "تشريكها " إذا جاز التعبير- الى حد جعلها مرتكزا للنشاط العملي، وعنصر تنسيق وضبط فكري وأخلاقي. ذلك أن تخويل جماعة من البشر التفكير بتناسق وانتظام حول شئون العالم الحقيقي الراهن لهو حدث 'فلسفي’ أهم بكثير وأكثر 'تفردا’ من اكتشاف احد 'العباقرة’ الأفذاذ لحقيقة جديدة لا يتم تداولها خارج نطاق عدد ضئيل من المثقفين[5/16].

القيادة السياسية ممثلة في الحزب الماركسي الملتصق بالجماهير، والقادر على انتشالها مثل طائر الرخ على جناحيه هي الضامن لوحدة النظرية والممارسة، وهو الناقل لنظرية التطور الاجتماعي الى الجماهير المتطلعة لتطوير حياتها. "ولا بد هنا من تأكيد الدور الذي تلعبه الأحزاب السياسية في مجال بلورة رؤى شاملة للعالم والحياة وتامين انتشارها الواسع في العالم المعاصر، لآن ما تقوم به هذه الأحزاب هو بناء النظامين الأخلاقي والسياسي المستجرين من هذه الرؤى، واللذين يشكلان 'مختبرها’ التاريخي. وتكون وحدة النظرية والممارسة أشد تماسكا بالقدر الذي تكون فيه الرؤية الشاملة للعالم والحياة مجددة وحيوية وجذرية ومناقضة لأنماط التفكير السابقة. وهذا ما يخولنا القول بأن الأحزاب تبلور مذاهب فكرية كاملة وشمولية، وبأنها البوتقات التي تنصهر فيها النظرية والممارسة ، بوصف هذا الانصهار عملية تاريخية حقيقية [5/29].

...........................................................................

مراجع:

1- هشام شرابي: البنية الأبوية إشكالية التخلف في المجتمع العربي

2- مصطفى حجازي: الإنسان المهدور-المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء 2006

3- هشام غصيب: دفاعا عن الماركسية – الأعمال الفكرية ، مجلد

4- محمد إبراهيم نقد: في حوار حول النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية- دار الفارابي، بيروت،1992

5- أنطوان غرامشي: قضايا المادية التاريخية – ترجمة فواز طرابلسي- دار الطليعة ، بيروت شباط 1971

(يتبع.. الحلقة العاشرة والاخيرة)