معالم تخلف المجتمع العربي وعوامله (الحلقة الأخيرة) سعيد مضية - التمكين بالوعي العلمي أو السقوط من قاطرة التاريخ

2020-06-13

ننشر فيما يلي (الحلقة العاشرة والأخيرة) من سلسلة مقالات الباحث والكاتب سعيد مضية، تحت عنوان:

معالم تخلف المجتمع العربي وعوامله

(الحلقة الأخيرة)

سعيد مضية

التمكين بالوعي العلمي أو السقوط من قاطرة التاريخ

اليسار الفلسطيني يتحمل مسئولية استثنائية في هذه المرحلة العصيبة، أو مفترق الطرق، إذ بات يتراءى للنظر المجرد ما حذر منه الدكتور مصطفى حجازي، أستاذ علم النفس الاجتماعي، عام 2006، حيث  أورد في كتابه "الإنسان المهدور"، أن الهدر متصل الحلقات منذ قرون أوصل "الإنسان العربي يقف أمام احتمالين: استمرار الضياع في المتاهة ليتحول إلى فضلات بشرية والانضمام إلى الفئات المستغنى عنها، أو التخلص من هوية الفشل وارتهاناتها وبناء هوية النجاح تتمثل في وجود مليء ذي معنى يتصف بالتمكن وحسن الحال".

الفراغ الوجودي، الذي رصده خبير علم النفس، يفشي أنيميا ثقافية. جماهير عريضة أربكتها الحيرة ولم تجد اليسار يجيب على تساؤلاتها ويخرجها من حيرتها، فأسلمت قيادتها للتيار السلفي. فمنذ صعود الحركات الأصولية خففت الأنظمة ملاحقاتها للشيوعيين، وقنع هؤلاء بنصف العلنية انتهزوها بياتا شتويا، أو استراحة محارب، غابوا خلالها عن الأعين وعن البال، وعن مستجدات الفكر العلمي.

لحظة خواء معرفي وقيمي خدعها إغواء السلفية واستدرجها الى بيداء متاهة الضياع؛ حجزها خلف مصد مانع في محجر بعيدا عن أفكار التقدم، وأحالها احتياطي عزوة للنظام الأبوي. وقبل حجازي، في ثمانينات القرن الماضي، وجه بيير بوردو، عالم اجتماع، بل أعظم علماء عصره، وجه صرخة إنذار لليسار كي يستفيق على ثغرة خطيرة في نشاطه. لم يجد صوته الصدى المطلوب والجماهير ضحية لا تلام.

لاحظ بيير بوردو في أواخر القرن الماضي إغفال التربية ثغرة خطيرة في نشاط اليسار. إعادة ذكر صرخة بوردو لسد ثغرة الثقافة باتت ضرورة لان "مثقفي اليسار استهانوا بالأبعاد الرمزية والتربوية للنضال، ولم يحسنوا دوما طرق الأسلحة الملائمة للكفاح في هذه الجبهة"، من الضروري للغاية الإقرار بأن "أهم نماذج الهيمنة ليست اقتصادية بل وثقافية – تربوية، وتكمن في جانب المعتقدات والقناعات"، ومن الخطورة ترك الجبهة لأعداء التقدم. هذا يعني ان على اليسار والآخرين ممن يفضلون التمكن وحسن الحال، أن يضعوا مسائل الثقافة والتربية في مركز أنشطتهم السياسية، وذلك من أجل مقاربة حاجات الناس ونضالاتهم. وعليهم المبادرة في الحال لأداء هذا الواجب بلغة مقبولة وعامية.

ثغرة أو ثغرات عدة أسفرت عن أزمة مركبة للمقاومة الفلسطينية محورها ثقافي، مضت أنشطة المقاومة ردات فعل انفعالية ومبادرات نزقة ارتدت على أصحابها بالهزيمة. تعاقب الانكسارات وخيبات الأمل أغرق الجماهير في الاحباطات وورط القضية الفلسطينية في متاهة حفزت الغرائز الذئبية لدى التحالف المعادي، جمهورها حائر مضطرب، أشكلت عليه الأمور، نظر الى الحياة من نافذة لا تنفتح على الحراك الشعبي من أجل التحرر والديمقراطية والتنمية، تغلغلت الثقافة الأبوية في ثنايا الوعي الاجتماعي، ترك الهدر الاجتماعي أعطابا تحتاج الى جهد ثوري ينقي النفوس والأذهان من ترسباتها.

ان كل ما يفكر فيه الناس ويشعرون به يكشف عن سيكولوجية الجماهير، ولا بد من دراستها، ودعا لينين الى وجوب "أن نتعلم كيف نقترب من الجماهير في أناة وصبر وحذر حتى نتمكن من فهم السمات المميزة لكل فئة وكل مهنة وطائفة... ألخ من هذه الجماهير". ان وعي الجماهير لا يتكون من الأيديولوجيا وحدها، بل يدخل في تكوينه العنصر السيكولوجي (النفسي) أيضا؛ وإهمال هذا الجانب يؤدي الى فهم ساذج ومبسط سواء للبنية الأساسية أو الفوقية (الوعي الاجتماعي ومؤسساته).

التكوين النفسي لأي مجتمع يتعرض لتأثير عناصر ثابتة نسبيا مثل التقاليد والسمات الطبقية الخاصة لفئة معينة او مهنة، او الشعب او الأمة او أي جماعة أخرى، كما تمتزج السمات الثابتة للتكوين النفسي بالعادات أو نمط الحياة الموروث عن الأجيال القديمة ومن البيئة. وغالبا ما يتم اكتساب هذه السمات دون اعتراض او تفكير، ويحدث أحيانا ان يكبح او يخنق اي اتجاه لمعارضة هذه السمات المتوارثة  سواء تحت ضغط الأفكار السائدة او نتيجة للإكراه المباشر. ويمكننا ان نرد الثبات النسبي لهذه المجموعات الى كونها تندمج في ما يسمى الثقافة الروحية على وجه التحديد.

تمثل النفسية الاجتماعية الوعي الحقيقي العملي للجماهير، الطريقة المحددة الملموسة لتفكير الذات الاجتماعية، والتي تنشأ على أساس من حياتهم الخاصة. الوضع الاقتصادي لجماهير البرجوازية الصغيرة هو الذي يجعلها ساذجة لدرجة مذهلة ... إنها لا تزال نصف نائمة. وفي الوقت الحاضر لم تعد النفسية الاجتماعية انعكاسا للبيئة المباشرة فقط، عن طريق الحواس والإدراك ، نظرا لأن هذه النفسية تتشكل تحت تأثير عدد من العوامل الأخرى بما فيها الإعلام. وكلما ارتفع المستوى التعليمي والنظري للجماهير، كلما اختزن وعيها الاجتماعي عناصر علمية ونظرية.

تترسب تقرحات الهدر وعقده في النفوس والأذهان والأبدان طبقات خمس أجملها حجازي، يلتقي من خلالها مع المقولة الغرامشية بصدد"الرؤية الشاملة والحكمة الشعبية المنتشرتين بين اكبر عدد من الناس": طبقة اليافطات للتستر على الذات، وطبقة الدوران والألعاب للتواصل مع الذوات الأخرى، وطبقة المأزق دفاعات عصابية تتضمن الصراعات والقلق وهدر الطاقات النفسية؛ ثم تأتي رابعا طبقة الموت الوجودي او الانهيار الداخلي حين تفشل الدفاعات في عملها لدرء القلق."عندها يجد الإنسان المهدور، كما العصابي، أنه أمام تلك النقاط المميتة او المولدة للذعر من عالمه الداخلي. والطبقة الخامسة وأعمقها طبقة الطاقات الحية الوثابة الطامحة للنماء والتوسع، تدفن تحت الطبقات الأربع السابقة. إنها تمثل الجانب الأصيل من أنفسنا، يؤذن بلوغها الدخول في اتصال حقيقي مع الذات في كل مشاعرها ووجداناتها العامرة بالفرح والرغبة والامتلاء، أو الغضب والثورة والتمرد. الوصول اليها يعني التحرر من كل الأقنعة وسقوطها، والاستجابة والتصرف بحرية ومسئولية ولقاء ذاتي مع الرغبات والميول، وتحرر الطاقات الحيوية. يسترد الإنسان طاقة التعبير عنها، ويدخل في وفاق ووئام كياني" [4/301].

هذه الحقيقة السيكولوجية تبرر الثقة بالجماهير واحترام قراراتها ومواقفها، ولو تضاربت مع الضرورة ومع طروحات الحزب الثوري. أحزاب البرجوازية الصغيرة تلوم الجماهير وتقسو عليها، وأحيانا تمارس الإكراه والقيادة الأوامرية بدل التثقيف وإجراء الحوارات. القيادات السياسية تتحمل مسئولية أخطاء الجماهير. من خلال التنقيب عن الطبقة الأعمق في النفسية المهدورة وتفعيلها يتعمق الحزب الثوري في سيكولوجية الجماهير ويكيفها وفق النهوض الوطني والاجتماعي ويكسب ثقتها. يرتفع مردود النشاط في أوساط الشعب وتتعمق جذور الحزب الثوري في التربة الاجتماعية بمقدار ما تغتني خبرة كوادر الحزب الثوري بعلم النفس، وتمرست في التفكير الإيجابي. علم النفس الاجتماعي وفرعه الأهم علم النفس الإيجابي مستشار زاخم بالخبرة لمن يتعامل مع الجماهير، كتابا وفنانين وعاملين في الخدمة الاجتماعية  ومناضلين سياسيين. وعلى العكس من علم النفس المرضي يركز علم النفس الإيجابي على أوجه القوة لدى الإنسان بدلا من أوجه القصور، وعلى الفرص بدل الأخطار، وعلى تعزيز الإمكانات بدلا من التوقف عند الصعوبات. إنه يهدف الى تنشيط الفاعلية الوظيفية والكفاءة والصحة الكلية للإنسان.          

الجهد التطهري المساعد على التخلص من كدمات الهدر وتقرحاته وعقده يتم  بمطالعة الأعمال الأدبية والتردد على معارض الفن والمسارح وعروض الفنون الأخرى. الثقافة علاج، مثلما هي ضوء ينير الدرب؛ الثقافة ليست اختصاصا للنخبة، إنما الفنون والآداب والثقافة السياسية ينبغي ان توضع بمتناول الجماهير. المواضيع السياسية تلهم وتنير الدرب، والفنون والآداب تعزز القيم الإنسانية في النفوس والأذهان، خاصة قيم الانتماء الاجتماعي والتضامن والتعاطف مع المسحوقين، تلك القيم التي تكافحها ثقافة الليبرالية الجديدة بثقافة الكراهية والعنصرية والعنف والقسوة. "المعركة لكشف الهدر الذاتي الذي تم اجتيافه (أي ابتلاعه) وتمثله والحفاظ عليه وإعادة إنتاجه ذاتيا، لا تقل أهمية عن المعركة مع الهدر الخارجي" [4/322]. اكتساب الصحة النفسية وعي بالوجود والسيطرة على عملياته. "الوعي هو أساس امتلاك الذات، أو بالأحرى استرداد الذات المضيعة وصولا الى توجيهها  والتعامل النشط مع الدنيا والناس"[4/323].

بالوعي تتحقق الصحة النفسية، كذلك فإن النضال الوطني العملي، وليس بالأقوال، من شانه أن يشفي من العقد الموروثة عن عهود الهدر، فالالتزام بقضية وطنية يملآ الوجود ويعيد التوازن غير المصطنع ويعطي القيمة للأفراد. يغدو الوجود بكل محنه وشدائده وهدره المادي ذا معنى يحمل القيمة. تصبح الجهود والمعاناة، وحتى العذابات، هي التضحيات التي تشكل الكلفة المستحقة يدفعها المرء عن طيب خاطر. بهذا يأخذ الكيان بعدا وقيمة ودلالة تتجاوز حدوده الذاتية، بما فيها من عجز وقصور وثغرات. بهذا يزول الفراغ وتتلاشى الهوة ويمتلئ الكيان.

وكذلك الترياق من أمراض الرتابة والتصلب الذهني الموروثة عن ظروف الهدر والتشبث بالعادات التقليدية والجمود والتكرار، يكمن في "المرونة الذهنية وتوسل السبل المطروقة والسهلة، من اجل تملك القدرة على تدبير الأمور في الظروف الصعبة او المهددة بالمخاطر، أو حتى حالات المحن بمقاومة فعالة وناجعة. انها عبارة عن تملك القدرة على تعبئة الطاقات الذهنية المهارية بغية القيام بالتصرف الجيد في الظروف التي تعترض المعوقات بنجاح. نحن يصدد بناء شخصية الصمود بوجه المحن والخروج منها بنتائج إيجابية" [4/332]. فما أحوج الفصائل السياسية الى تربية كوادرها وإكسابهم المرونة الذهنية. التخلص من هوية الفشل وبناء هوية التمكن وحسن الحال، بما يضمن بقاء شعب فلسطين وبقية الشعوب العربية على مسرح التاريخ ـ تفرض نفسها قضية قومية واحدة طالما الأعطاب مصدرها واحد.

خبرة الماضي تشير الى أن المشعوذين باسم الدين سخروا ترسبات الهدر الاجتماعي لتجريم الناس بالابتعاد عن الدين، بينما العلم يبرز الأفراد ضحايا البيئة الاجتماعية، أو نتائجها. الاسترشاد بالعلم يرفد النضال الوطني الديمقراطي بالقوة الاجتماعية المعطلة، أو المحجوزة خلف جدران التيار الديني. لا بدّ من حظر الشعوذة والفتاوى باسم الدين يصدرها جهلة بأصول علم النفس الإيجابي، وذلك كي لا يظلم الدين فدوره لن يغيب عن مسيرة التقدم والتحرر، ينبغي ترشيدها بمعطيات العلوم، وخاصة معطيات علم النفس الاجتماعي. 

الأيديولوجيا الجديدة لا تنبثق من التغيرات الاقتصادية وحدها، وإنما من السيكولوجيا السائدة في المجتمع، وبصفتها التجسيد المادي التصوري لهذه التغيرات... ومن جانب آخر تمارس الأيديولوجيا تأثيرا قويا على السيكولوجيا العامة، ويتفاعل الإنسان معها. الإيديولوجيا بدون سيكولوجيا مجرد وصف علمي للثقافة يكتفي برصد ظواهرها مع اجتناب كل شرح او تقويم او تأويل. اما اذا اجتمعت الأيديولوجيا والسيكولوجيا فإنهما يشكلان تاريخ الثقافة.

جذر أزمة المقاومة الفلسطينية ممتد في ظروف تشكل فصائل المقاومة الفلسطينية؛ معظمها دخل الميدان السياسي من بوابة الكفاح المسلح، واعتمد الأساليب والوسائل العسكرية - القيادة الأوامرية، والتدريب على استعمال السلاح -. بات امتلاك السلاح والخبرات العسكرية موضع التباهي والاعتزاز؛ بل بات "كل شيء يتقرر من فوهة البندقية". لم تع المقاومة المسلحة ضرورة التربية السياسية للجماهير، طالما أن الكفاح المسلح، في نظرها "أرقى أنماط السياسة". والنظرة سوء فهم وتأويل خاطئ. فصاحب هذا القول - لينين- دعا أولا الى الالتصاق بالجماهير، توعيتها وتحريكها للنشاط المعارض للحكومة المؤقتة المشكلة بعد الإطاحة بالملكية في ثورة شباط 1917. فقد واصلت الحكومة المؤقتة النهج السابق لحكومات الملكية؛ ودعا لينين الى عدم الثقة بالحكومة المؤقتة، وتصاعد الحراك الشعبي. حانت فرص الاستيلاء على السلطة بقوى العاصمة بطرسيورغ وحدها، غير أن لينين حذر من الإقدام على ثورة محدودة بالعاصمة، بينما الأرياف غير مستعدة. انتظر حتى دشن تحالف العمال والفلاحين، وبالنضال الشعبي، معلنا تعاظم النهوض الجماهيري الى درجة أنضجت مبدأ استلام السلطة.

حينذاك ونظرا لإحجام الحكومة المؤقتة عن الانصياع للحراك الشعبي، حانت ضرورة العنف المسلح للإطاحة بالسلطة الرجعية القائمة. إذن "أرقى أشكال السياسة" أنضجها حراك شعبي مضطرد ومتصاعد، لم يحن موسمه إلا بتوافر استعداد اوسع الجماهير العمالية والفلاحية، في المدن والأرياف، للنهوض الى تسلم الحكم. وبالنظر لمقاومة الطبقات الرجعية كان لا بد من الثورة المسلحة. المزاج الشعبي متقلب والمزاج الثوري سريع التلاشي، ولهذا أصر لينين على اللجوء في وقت محدد الى السلاح لاستثمار المزاج الشعبي الثوري المؤقت وكسر مقاومة السلطة، بات النضال المسلح يغدي الحماس الثوري للجماهير ويتغذى بدوره من ثورية الجماهير. فالعمل في أوساط الجماهير وتوعيتها بظروف المرحلة وضروراتها ورفع مستوى كفاحيتها، هو الذي ينضج ظروف "أرقى أشكال النضال"، وذلك لفترة مؤقتة يتم فها الإطاحة بالنظام وتدمير جهاز الدولة، وليس حقبة تمتد عقودا.

الثورة لا تتجسد في حمل السلاح ولا بالإطاحة بالنظام القديم، الثورة تتم في وعي الجماهير أولا تحولها الى قوة إيجابية واعية للتغيير، تطيح بالنظام الذي يضطهدها وتحرس النظام الذي ساهمت في إقامته ليرعى مصالحها وحاجاتها.

السيكولوجيا والأيديولوجيا نقيضان الى حد ما، ولكن  لا يمكن لإحداهما أن توجد بدون الأخرى. وإذا أردنا الدقة فهذان النقيضان هما السلوك الأعمى غير الواعي من ناحية والوعي العلمي  من الناحية الأخرى ... إلا أنه تناقض نسبي، ومع العديد من مراحل الانتقال، وذلك نظرا لكون السيكولوجيا تكيف غير واع يتأثر بالوعي. كان لينين يؤكد دوما ان التطور التلقائي لحركة الطبقة العاملة لا يمكن ان يؤدي إلا الى خضوعها للأيديولوجيا البرجوازية.

ورغم ان النظرية الاشتراكية أكثر وضوحا وأقرب الى العمال إلا أن إيديولوجيا البرجوازية هي الأقدم والأكثر دقة وبريقا فيما تبدو فيه من أثواب وهي تمتلك وسائل الانتشار السريع ما لا سبيل الى المقارنة به. ولهذا اكد لينين مرارا ان كل تساهل او تباطؤ في تثبيت أيديولوجيا الاشتراكية يعني تعزيزا لأيديولوجيا البرجوازية. لا يكفي ان يكون الحزب واعيا بظروف المرحلة ومتطلبات التطور، وبدون ترقية الوعي الشعبي ينعزل الحزب عن أداته الاجتماعية للتغيير. إن أشد الطلائع براعة وأكثرها ثورية، وأكثر أحزاب الطبقة العاملة صلابة وتمرسا بالنضال لا تعدو أن تكون قطرة في محيط الشعب. وفي ظروف نهوض شعبي ثوري "لم يكن بمقدور أي لجنة مركزية في العالم، في ظل ظروف يحظر فيها نشاط الحزب بحكم القانون ان تلبي جزءا من ألف من المطالب التي يتعين عليها تلبيتها" حسب تعبير لينين.

يكمن إنجاز ماركس في انه وضع نصب عينيه على الدوام تحديد المحتوى التاريخي الواقعي الملموس للمثل الإنسانية. والماركسيون يطرحون على الدوام أن وجود مثل معينة يعتمد على التطور التاريخي السابق وللواقع الاجتماعي الملموس، ويؤكدون ان هذه المثل ليست نماذج أخلاقية ينبغي التشبه بها، بل التعبير عن الضرورة التاريخية لتصور الواقع الاجتماعي التاريخي. العوامل المحددة لمسار التاريخ لا توجد خارج تيار التغيير والتحول الاجتماعي، بل في داخله. فلا يمكن للحزب أن ينقاد لمزاج الجماهير لأنه متقلب ولا يمكن التنبؤ به، ولا يجوز إغفاله؛ إنما يتعين على الحزب أن يسترشد بالتحليل والتقييم الموضوعي للثورة مراعيا مستويات الوعي لدى الجماهير. تنضج حلول القضايا عندما تتوفر شروط حلها داخل المجتمع.

الماركسية نظرية علمية متجددة بتجدد الحياة، مولد حركتها الوعي العلمي للواقع. والواقع العربي محفوف بمخاطر ان يتحول فعلا فضلات بشرية، كما حذر العديد من المثقفين المطلعين على بواطن الأمور. كتابات المثقفين العرب لا تجد الصدى لدى السياسيين، خاصة أحزاب التغيير الديمقراطي، من يرفعون شعارات التحرر الوطني الديمقراطي والتنموي؛ فهم يحطون من قيمة الثقافة. ترك الهدر الاجتماعي أعطابا تحتاج الى جهد ثوري ينقي النفوس والأذهان من ترسباتها. "التشديد على عنصر الممارسة من وحدة النظرية – الممارسة بعد التمييز بين العنصرين، أو حتى عزل واحدهما عن الآخر (وهذه مجرد عملية ميكانيكية تقليدية) فيعني أننا ما زلنا في حقبة تاريخية بدائية نسبيا تتصف بالطابع الاقتصادي- الحرفي، حيث الإطار 'البنيوي’ العام آخذ بالتحول كميا، في حين أن البنية الفوقية النوعية المقابلة له [يعني الفكر النظري] في طور النشوء لكنها لم تتكون عضويا بعد. ولا بد هنا من تأكيد أهمية الدور الذي تلعبه الأحزاب السياسية في مجال بلورة رؤى شاملة للعالم والحياة وتأمين انتشارها الواسع في العالم المعاصر، لأن ما تقوم به هذه الأحزاب هو بناء النظامين الأخلاقي والسياسي المستجرين من هذه الرؤى واللذين يشكلان مختبرها التاريخي" [2/29].

التثقيف الجماعي يرفع الوعي بدرجة أعلى من التثقف الذاتي المنفرد. فهو يتلاقح بالحوارات والمناقشات؛ كما انه يقترن بالنشاط العملي للجماهير. تجمع الدراسات المتعلقة بالعمليات الإدراكية على ان الذاكرة والنشاط الذهني خلال اتصال الفرد بالبشر الآخرين تختلف عما تكون عليه خلال النشاط الفردي. المطالعات الفردية ضرورية؛ لكنها تستكمل بالحوارات والنقاشات الجماعية. كما ان العمليات العصبية الدينامية تخضع للوظيفة التي يشغلها الإنسان آمرا أم مأمورا. ويقول ماركس "كان إنتاج الآراء والتصورات يتشابك مباشرة بنسيج من العلاقات مع النشاط المادي والارتباطات المادية للإنسان، إنه لغة الحياة ذاتها". من أجل تكوين المناضل الواعي والثوري يجب أن يرتسم في ذهنه صورة واضحة للطبيعة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المميزة لمالك الأرض ورجل الدين وموظف الدولة الكبير والفلاح والطالب، ويجب أن يعرف ما هي نقاط القوة ونقاط الضعف في كل منهم، وان يدرك معنى كل عبارة منمقة  ومغالطة تحاول بها كل طبقة أن تموه مساعيها الأنانية وحقيقة ما يعتمل داخلها.

هذه القاعدة لم تصل وعي فصائل المقاومة المسلحة الفلسطينية؛ ولدى تحولها للنشاط السياسي، كان التقليد السائد إغفال النشاط الثقافي لدرجة العدمية. لم توضع في الحسبان مهمات رفع مستوى الوعي السياسي للجماهير لتأهيل الجماهير كقوة ثورية واعية ورافدا مستداما للتغيير الثوري، سواء كان سلميا او بالعمل المسلح. ولذا كان التردي كارثيا على الوعي الاجتماعي إثر هزيمة حزيران 1967. تعاظم نفوذ التيار السلفي، وغاب الناصريون واليساريون او غيبوا وارتضوا لأنفسهم الغياب. انفتحت الجماهير على منافذ توحي بالخضوع لسلطوية الأنظمة الأبوية المستحدثة. وفي الانتفاضة الفلسطينية أواخر عقد الثمانينات استجابت الجماهير لدعوات القوى السياسية العلمانية، ولكنها أحبطت جراء المماحكات بين القوى، وكل يُكرِهُها على الإضراب ضمن توجهات استعراضية تعوض القدرة المفقودة على الإقناع والتعبئة والتربية السياسية بإكراه الجماهير على التجاوب مع استعراض القوة العنفية. لا يجوز استبدال التربية السياسية للجماهير بإكراهها على إجراء لم تقتنع بجدواه. اكتفت الفصائل بحجز الجمهور احتياطي هيمنة وعزوة انتخابات أو استعراضات. "الماركسية هي الفلسفة الوحيدة التي انطلقت من الفلسفة الكلاسيكية الألمانية لتخطو خطوة جديدة الى الأمام في مجال الفكر؛ فاعتبرت الفكر"رؤية شاملة" و"حكمة شعبية" منتشرتين بين اكبر عدد من الناس (ومثل هذا الانتشار لا يكون إلا على أساس العقلانية والتاريخية) بحيث يمكن تحويله - أي الفكر- الى قاعدة للسلوك العملي. لذا ينبغي فهم عبارة 'فكر خلاق’ بمعناها 'النسبي’، على أنها فكر يغيّر مشاعر العدد الأكبر من البشر ويغير الواقع بالتالي- هذا الواقع الذي لا يمكن إدراكه بمعزل عن البشر" [2/42]. 

تم هجر النشاط الثقافي في أوساط الجمهور وبين الكوادر الحزبية؛ فلم تنشّط حراكا جماهيريا يقدم البديل الناجع للمقاومة المسلحة! وعلى العموم اعتادت الأحزاب في دورات دورية تقديم تقرير يتضمن تحليلا سياسيا وآخر اقتصاديا ثم تأتي بنود مقترحات تتضمن بندا يتناول قضية ثقافية مقطوعة عن السياق. لم تترك صرخة بوردو أثرا لدى أحزاب التغيير الاجتماعي. 

المدارس والجامعات والمعاهد العليا تخرّج كل عام أجيالا من ذوي التفكير السلفي غير نقديين ولا يواكبون الحياة، همهم وظيفة أميرية أهلتهم لها تربيتهم الاتكالية. ربما يصعب حقا توجيه الاقتصاد في ظروف الاحتلال، ويصعب كذلك انتهاج سياسة مستقلة؛ فتلك أمور تتطلب التزاما صارما بالمنهجية العلمية لا تتوافر لدى القيادة الوطنية. ولكن قضية التربية والثقافة يمكن التحكم بهما وتوجيههما بما يلائم تعزيز الصمود: تربية أجيال تفكر بعقلانية وواقعية، تعي الواجب الوطني وتحافظ على الكرامة الوطنية.

طبيعي أن تحكم السلطة قبضتها على العملية التعليمية، لكن يمكن العمل بين المعلمين والطلبة لتغليب تعليم عصري يرسي علاقة الاحترام المتبادل وإشاعة التفكير النقدي وروح المبادرة والبحث عن المعرفة. على أحزاب التغيير تناول التربية كقضية سياسية بامتياز، قضية تربية الوعي العلمي في شئون السياسة والاقتصاد، علاوة على الثقافة والمهارات العملية. الدولة ظاهرة سياسية وثقافية؛ للدولة إيديولوجيتها التي لا تقتصر على النظام التعليمي لإعادة إنتاجها وتدعيمه. "السلطة لا تتواجد في أشكالها المرئية والتقليدية وحسب، بل إنها قائمة ضمنا ومنتشرة في شبكة علاقات تمحي فيها الفاعلية الذاتية، وتتجسد في أنماط فكرية وممارسات اجتماعية محدودة. لهذا نقول مع فوكو 'ان الإطاحة بنظام مستبد او رجعي لا يضمن بحد ذاته الحرية والعدالة’. ومن هنا فإن احد أهم شروط التحرر هو تدمير تصور الحرية القديم الذي أخذت به الأبوية المستحدثة وما زالت تأخذ به عن وعي أو عن غير وعي’" [1/170].

الخطر المحدق واقعي وليس من بنات الخيال؛ أفكار تترجم الى أحداث تجري بين ظهرانينا، تصدر عن الاستراتيجيين الدوليين للرأسمال المالي. خرجت الليبرالية الجديدة بحل همجي لأزمة تدني الربح الاحتكاري، ينطلق من واقع أن الاقتصاد العالمي يمكن إدارته بربع عدد السكان الحاليين في العالم؛ وبذا فثلاثة أرباع سكان العالم، ومن بينهم سكان البلدان النامية، فائضون عن الحاجة، وبتعبير آخر فضلات يتوجب الخلاص منها. هذه المخططات وتوزيع الأدوار تشي بأنها بنات أفكار مخططين استراتيجيين متمرسين، يقومون بدور مركزي في إدارة شئون العالم، تعيد للأذهان الحكومة العالمية الخفية او نادي بيلدربيرغ، مخططاته تدرج على سطح المعمورة أذرعه طويلة ومتعددة، يحركها من خلف حجاب. تضم الحكومة الخفية نخبة النخب في عالم الاقتصاد والعسكرتاريا والإعلام والسياسة والأجهزة السرية من مجموعات دولية ثلاث: الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي واليابان. تعقد اجتماعات سرية وتبقى قراراتها سرية.

أصدر الكاتب الاسكتلندي شريب سبيردوفيتش عام 1926 كتاب "حكومة العالم الخفية"، وعثر عليه مقتولا في احد فنادق الولايات المتحدة. وفي عام 1958 اصدر الكاتب وليام غاي كار كتاب "أحجار على رقعة الشطرنج"، حوى توثيقا لأسرار ما يجري في العالم من أحداث. واغتيل بعد فترة قصيرة. "نخبة عالمية" تخولها هيمنتها المالية والإعلامية سلطة احتكار صياغة حركة العالم، وتحديد خياراته الكبرى سياسيا واقتصاديا، والتحكم في مقدرات الأمم ومصائر الشعوب. ومما لاشك فيه ان للصهيونية الليكودية تأثيرا على توجهات الحكومة  الخفية وقراراتها.

خلال النصف الثاني من القرن الماضي والمنطقة العربية عرضة لدسائس وتدخلات محورها مكائد امبريالية-صهيونية لحركة التحرر العربية. إن ربط الخيوط وتجميعها وإلقاء نظرة تقصّي شمولية قد تعطي مشهدا يحمل ملامح الفضلات البشرية. المجتمعات العربية موضع ازدراء ساطع للعيان من قبل القوى التي تشكل المجتمع الدولي. نبدأ بالسذاجة السياسية وقصر النظر الكامنتين في مفصل إعطاب النضال التحرري العربي والفلسطيني، حيث الفصل بين الصهيونية وإسرائيل من جهة وبين الامبريالية ودسائسها وأعمالها العدوانية تجاه المنطقة من جهة أخرى. النضال الفلسطيني عبر تقلب أوضاعه لم يكف عن الاستنجاد بالإمبريالية ضد الصهيونية وإسرائيل، لم يجن سوى الخديعة. وحتى أثناء حمل السلاح لم يحمل النضال الفلسطيني مفهوم الثورة، لأنه لم يتوجه بالعداء المباشر والصريح لقوى الامبريالية، بل اتكأ على أنظمة أبوية محدثة، خذلته كلما اقتضت تبعيتها للإمبريالية وأداتها الصهيونية. وحين انتقلت قيادة المنظمة داخل فلسطين المحتلة قبلت الدخول في قفص محكم، مكبلة أيديها، عاجزة عن وقف الاستيطان والتهويد، غاية عدوان حزيران.

بعد النكبة مباشرة وضع كل حزب ماركسي في العالم العربي وكل حركة تحررية بندا في برنامجه السياسي اعتبر اغتصاب فلسطين قضيته المباشرة، ودمج استعادة الحقوق الفلسطينية بالنضال لتصفية نفوذ الامبريالية بالمنطقة. تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية ونصبت قيادتها نفسها رأس حربة النضال العربي ورفعت شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، أي معركتها وقضيتها بالذات، وما على الأشقاء العرب سوى الالتحاق بركبها. اتضحت كارثية التكتيك في عدوان 1982على لبنان، حيث عزلت المقاومة الفلسطينية واللبنانية عن البعد الاستراتيجي وانفردتا بالتصدي للغزو العسكري وسط صمت عربي.

منذ ذلك الحين والموضوع الفلسطيني يدرج بند تضامن في بيانات اللقاءات العربية، بما فيها لقاءات الأحزاب الماركسية واليسارية. المسيرة المتعثرة راكمت ما يكفي من خبرات، لو أخضعت لمراجعة نقدية، وتم الالتزام بنتائج المراجعة لأدرجت موضوع تحرير فلسطين من جديد مكونا عضويا  داخل حركة التحرر العربية، يقابل إحالة تهويد فلسطين مكونا عضويا في استراتيجية الامبريالية. جبهتان متناحرتان يبرز الموضوع الفلسطيني أحد جبهات الصراع. ان هدم مساكن الفلسطينيين رمز ودلالة، علاوة على الخسارة المادية. لا تريد إسرائيل لفلسطيني السكن، بمعنى الطمأنينة وراحة البال فوق أرض وطنه! غنها نذر مصير مستقبلي!

جوهر التحرر الوطني والديمقراطية والتنمية صراع ضد هيمنة الامبريالية والرأسمالية من اجل الاشتراكية، فالطريق مسدود أمام تطور برجوازية وطنية في كنف نظام أبوي مستحدث. كيف يتصرف حزب ماركسي حين تتردد القيادة الوطنية أو تستنكف عن القيام بدورها، نظرا لطبيعتها البرجوازية الصغيرة، وفي لحظة حرجة وخطر داهم؟ "يستمد العمل الثوري فعاليته من القاعدة العلمية، فهو عمل ثوري لأن الوعي العلمي للواقع هو الذي يقوده. من هنا كان ارتباط التفكير النظري عند لينين بالواقع الاجتماعي التاريخي ضرورة نظرية وعملية معا. فالممارسة النظرية عنده كانت ترد على حاجة عملية ثورية، كما كان الأمر عند ماركس. لذلك نجد لينين في ممارسته النظرية شديد الانتباه للشروط التاريخية الجديدة التي هي حقل فكره ونضاله" [3/217].

إن الانتباه للمستجدات وأخذها بالاعتبار ضرورة فكرية وعملية. كلما كان هيكل الحزب جامداً والحياة الحزبية مختلة، يضعف تفاعل الحزب مع المهام المتجددة في الصراع الطبقي ويتباطأ. "الفهم النقدي للذات يتم عبر اصطراع 'هيمنات’ سياسية واتجاهات متعاكسة في المجال الأخلاقي أولا، ثم في المجال السياسي المخصوص بغية الارتقاء الى مستوى أرفع من مستويات وعي الواقع.

إن وعي الانتماء الى فئة مهيمنة (أي الوعي السياسي) هو اول خطوة باتجاه وعي متقدم للذات تتحد فيه أخيرا النظرية بالممارسة. وهكذا فان وحدة النظرية والممارسة ليست معطاة آلية، وإنما هي جزء من عملية تاريخية تتصف مرحلتها البدائية بتحسس 'التمايز’ و'الانفصال’ وبشعور غريزي بالاستقلال، ثم ترقى الى مستوى حيازة رؤية شاملة موحدة ومتماسكة للعالم والحياة. وهذا ما يحدو بنا الى التأكيد ان التطور السياسي لمفهوم الهيمنة يشكل قفزة فلسفية جبارة بقدر ما يشكل قفزة سياسية وعملية جبارة. ذلك أن هذا التطور يفترض بالضرورة وحدة فكرية ومذهبا أخلاقيا متولدين عن رؤية شاملة تمكنت من تجاوز الحكمة الشعبية وأضحت رؤية نقدية (حتى ولو ظلت هذه العملية محصورة ضمن نطاق ضيق) [2/27].

خلال العقود التالية على النكبة ملأت أجواء العالم العربي أسراب البعوض الامبريالي - الصهيوني من مستنقع الأبوية المستحدثة. من جهة  مقولة الصراع الحضاري، استعدت الإسلام والمسلمين، أحد بنود المخطط العولمي؛ وكذلك تحميل الإسلام من قبل الليبراليين العرب والأجانب أوزار التخلف العربي، ليس فقط بهدف تبرئة الهيمنة الامبريالية من جرائم إفقار الشعوب من خلال نهب ثرواتها، وإنما لشيطنة العرب والمسلمين ضمن مخطط إسقاطهم من قاطرة التاريخ، وقذفهم بجريمة تلويث قيم الحضارة، مستغلين تصرفات عناصر التعصب والجمود. المفارقة الصارخة تبعية الأبوية المستحدثة لليبرالية الجديدة وهي تقيم حكمها على الدفاع عن الإسلام المدعومة من قبل الغرب نفسه. لعب دورا في المطاعن ضد الإسلام المستشرق برنارد لويس، اعتبر الإسلام لا يأتلف مع القيم الأوروبية. دعا الى تجزئة العالم العربي الى دويلات طائفية وعرقية. حمّى الكيد للإسلام والمسلمين حشدت قوى شعبية أوصلت الى سدة الحكم متعصبين عنصريين يمينيين، امثال ترمب وبولسونارو وأودي ونتنياهو والحكام اليمينيين الذين باتوا يشكلون ظاهرة دولية.

كيف يجري الخلاص من الشعوب بموافقة حكامها؟ طعنت الليبرالية الجديدة في الكيانات القومية كي تسهل عبور الاحتكارات الى الاقتصادات المحلية تفترسها وتخرج تاركة هشيم الدمار الاقتصادي، أشاعت الشكوك في جدوى الكيان القومي والطعون في التراث الٌقومي بأكمله؛ ابتكرت في ميادان الثقافة أسطورة التنميط الثقافي، تستقطب النخب المالية من أنحاء العالم، خاصة الخليجيين ممن استفاقوا على ثروات لم يتعبوا في تحصيلها ويسهل عليهم تبديدها او إهدارها في سوق الليبرالية الجديدة ومقامرات نادي التنميط الثقافي، حيث رائحة المال تشد الرأسمال المالي وتفتح شهيته، وحيث  تستهوي نخب الخليج قصار النظر الدعوة للانضواء تحت يافطة النمط الثقافي بجوهره الامبريالي الأميركي، والتبرؤ من كل ما لا يأتلف مع قيم الغرب. الانتماء الواقعي، حسب الخدع الليبرالية الجديدة، هو التموضع في الشراكة المالية العولمية بحماية  الرأسمال المالي الأميركي. هكذا بدّل حكام الخليج هويتهم وطبّعوا مع حكومة نتنياهو وأشهروا عداءهم للشعب الفلسطيني وقضيته. ومثل التلميذ يظهر نجابته في حضرة المعلم، يبرز حكام الخليج وزمر الكتاب والصحفيين التابعين نجابة في تلاوة المقولات، مؤكدين ولاءهم للهوية العولمية الجديدة.

تزامن بروز هذه الأفكار الجهنمية مع تشكل السلطة الوطنية الفلسطينية، كانت أشبه بقفص مغلق يروض داخله الإنسان الفلسطيني المحتل؛ تسارع التوسع الاستيطاني بالضفة، والهدم والتخريب والإخلاء، تم إقرار قانون قومية دولة إسرائيل الذي استثنى شعب فلسطين على طرفي الخط الأخضر من الحقوق الوطنية، ونفذ قرار إعادة تسمية المواقع والشوارع في فلسطين بأسماء توراتية، وجرى إقرار صفقة القرن ويجري الإعداد لضم الضفة لإسرائيل، وتحويل ما تبقى معالم توراتية مثل غنمات هزيلات مع راع مهلهل الثياب، تبرز على جوانب الطرق الاستيطانية! تم قطع الدعم المالي الأميركي للأونروا؛ كما جرى تدبير الفتن الطائفية وحروب داعش والنصرة لتفتيت المجتمعات العربية او تقويضها بالحروب الداخلية. نجد سوريا والعراق وليبيا واليمن عرضة للتدمير وتعاني أوضاعا اقتصادية مزرية.

 يجري أيضا ضمن هذا السياق تيئيس الجماهير من إمكانيات تنمية الاقتصاد الوطني، بتحويل الوطن الى مكان لا يليق العيش فيه بكرامة، ومن ثم يشيع الحل في الهجرة الى حيث الوفرة والرفاه. في نفس الوقت تتكثف دعاية اليمين العنصري لتأليب الشعوب الأوروبية ضد المهاجرين، تسعّر الكراهية العرقية بدل النضال الطبقي.

والشعب الفلسطيني، لو نجحت خطط التهجير لن يترك بأمان، سيطارد وستحرض الدسائس على وجوده أينما يحل به الترحال. وإذا نجحت إسرائيل في تجريم التضامن مع الفلسطينيين باعتباره لاسامية فسوف تتسع تهمة اللاسامية لتشمل النطق بكلمة فلسطين وتصاريفها. القيادة الفلسطينية تستجير وتستجدي التضامن، وما أكثر القضايا الإنسانية المستحقة للتضامن! والتضامن يحركه ويلهبه صدام - لا يتوجب ان يكون مسلحا ـ وتنشأ بالنتيجة قضية تحرك الوجدان. والليبرالية الجديدة، شأن إسرائيل كافحت مفهوم التضامن مع ضحاياها، حتى كتابة هذه لسطور لم نشهد نفيرا في المناطق الفلسطينية المحتلة  للرد على نوايا ضم مناطق فلسطينية لإسرائيل.

لا نجد نفسا ثوريا يلهب حماس الجماهير. طوال عهد السلطة الفلسطينية بالضفة لم تنفذ سياسات تعزيز الصمود في قطاعات الزراعة والصناعة والتعليم ورعاية الشباب وتوفير مجالات العمل لخريجي المعاهد والجامعات. علما ان الرئيس الفلسطيني المح مرارا الى نوايا التهجير. النضال المناهض للاحتلال عمل ثوري يتطلب تحالفا ثوريا يلتف حول الحزب الثوري، المسترشد بنظرية ثورية. وفي حال انتكاس الثورة او انحرافها او تعثرها، فإن "أشد خطر يتهدد الحزب الثوري هو أن تفوته السيرورة الثورية، إذا انحرفت هذه أو انتكست أو تعثرت كان الحزب ذاك حينئذ، بغيابه عنها السبب الأول لانحرافها أو انتكاستها او تعثرها" [3/185].

العالم العربي يبحر في مركب واحد؛ إذا استُهدِف الشعب الفلسطيني أولا فإن انهيار مقاومته ستكون بمثابة انهيار سد يغرق ما حوله بالفيضان؛ حينئذ تتمكن إسرائيل داخل قلعتها، ويشتد سعارها إذ تتسع قاعدة أصدقائها، مثلما حدث بعد عدوان حزيران؛ وتنتعش، من ثم، شهيتها للتمدد وفرض نفسها دولة إقليمية تملي رؤيتها على مجريات الأمور في دول المنطقة كافة، معتبرة مصالحها محور سياسات المنطقة وحجر الأساس في بنية الشرق الأوسط. المخاطر تجاوزت بيانات التضامن مع فلسطين؛ الرؤية العلمية توجب إرجاع القضية الفلسطينية مركزية حقا، ونضالا ضد الامبريالية والعنصرية والفاشية التي يشكل نشاط إسرائيل جزءا من استراتيجيتها حيال المنطقة. المناسبات الفلسطينية أمور مشتركة بين الشعوب العربية تحرك الجماهير العربية في ساحات المدن العربية وشوارعها. ومقاومة الشعب الفلسطيني تشكل الدينامية المحرك للفعاليات الخارجية.

مع أن هشام شرابي فرغ من كتابه موضع العرض عام 1988، إلا انه تنبأ محذرا من أحداث جرت بعد ربع قرن في القرن الحالي. "الخطر الذي يواجه المجتمع العربي اليوم لا يرد من مصادر خارجية فحسب، بل كذلك من الداخل، من التفكك العربي والانهيار الداخلي  والحروب الأهلية التي يمكن وقوعها في بلدان عربية عدة. وما من قوة تمنع التفكك والانهيار الداخلي والحروب الأهلية تنبع من الداخل" [1/172]. النزعة النقدية أداة أساسية في البحث العلمي، وهي المرحلة الأولى للنفاذ الى الجديد واكتشافه.

يتساءل شرابي: ما هو الموقف المطلوب لإحداث تحول يلزم السلطة للجوء الى القانون  والتخلي عن القمع؟ ما هو المطلوب لحمل الدولة على استخدام لغة القانون بدل القوة؟ كيف السبيل الى إجبار الحكومات على الأخذ بقوانينها على محمل الجد،  وهي الأساليب التي تمكننا كخطوة أولى  من إحداث هذا التحول [1/173]؟

في ظروف كالتي نجتازها، حيث الهوة واسعة تفصل أحزاب التغيير الثوري عن القاعدة الجماهيرية، تلزم الضرورة الاسترشاد بمعطيات علم النفس الإيجابي، وهو موضوع جديد يقارب مهمات بناء الاقتدار الذاتي وإخراج الجماهير من محجرها، تمكينها على مختلف الصعد الذهنية والسلوكية والمهنية والاجتماعية العامة. يتضمن التفكير الإيجابي او الواقعي، ونواته العلاج المعرفي بالاستناد الى علم النفس المعرفي، انتشال الجماهير من حضيض الهدر الاجتماعي. تنطلق صيرورة اكتساب الصحة النفسية في أبعادها العاطفية والوجدانية والوجودية وصولا الى بناء الحياة الطيبة مثل الرضى والتفاؤل والأمل والانطلاق والدافعية الذاتية والسعادة والأمن النفسي ومهارة التعامل الاجتماعي من منطويات الذكاء الاجتماعي.

في مقدمة الطبعة العربية من الكتاب (ص13) يشير شرابي الى كتاب ألان تورين، "عودة الغائب: النظرية الاجتماعية ما بعد المجتمع الصناعي" الذي اطلع عليه بعد الفروغ من الكتاب، مبرزا تركيز تورين على ما أسماه "الحركات الاجتماعية التي أصبحت في صوب نهاية القرن (العشرين) القوة الاجتماعية القادرة على تحدي الوضع القائم ومجابهة سلطته المركزية دون اللجوء الى أساليب الثورة التقليدية". وشدد تورين على مفهوم التعدديه في بنية الحركات الاجتماعية بكونها تمثل المجتمع في جميع مستوياته الاجتماعية والطبقية وتنظيماته السياسية واتجاهاته الأيديولوجية. من هنا كانت مطالب الحركات الاجتماعية عريضة وشاملة: الحريات الديمقراطية، حقوق الإنسان، العدالة الاجتماعية... الخ. في هذا السياق طرح شرابي "النضال الشعبي والعصيان المدني قد يكون النهج الثوري الحقيقي" في هذه المرحلة.

الضغوط من أسفل، من الحراك الشعبي الديمقراطي. يتولد الجديد النقدي والصدامي الثوري."تتطلب هذه الممارسة (الثورية) أشكالا عدة من التنظيم القائم على نشاطات  الأفراد المستقلين  والنقابات العمالية والجمعيات النسائية والاتحادات الطلابية، إضافة الى الأحزاب والتجمعات السياسية، أساتذة جامعات وفنانون وأطباء ومحامون ورجال دين وعمال... بعض الأنظمة منفتحة على التغيير، فيما البعض الآخر منغلق عليه. وبمقدور أهداف النضال أن تكون مقبولة  تتبناها الأكثرية الشعبية لكونها أهدافا عامة مشروعة وقابلة للتنفيذ في الساحة السياسية.

أما أهداف النضال الأخرى فتركز على تشكيل مؤسسات قطرية وقومية للتغيير الاجتماعي  والثقافي، كالجمعيات الأكاديمية وجمعيات النقابات المهنية والثقافية والفلاحية واتحادات الشباب والطلبة والنساء وحركة تحرير المرأة رأس حربة التغيير الاجتماعي والثقافي: الدرع الواقي وحجر الزاوية لنظام الحداثة" [1/174].

الطريق لم تزل مفتوحة باتجاه بديل "التخلص من هوية الفشل وارتهاناتها وبناء هوية النجاح تتمثل في وجود مليء ذي معنى يتصف بالتمكن وحسن الحال"، كما حذر حجازي. هي شروط التغيير الديمقراطي وليست خطة عمل أو برنامج نضال. توفرت هذه الشروط في موجات الانتفاضات الجماهيرية خلال العقد الأخير. فشلت لأنها لم تحظ بقيادة ٌثورية .

عملية هدم مساكن الفلسطينيين تمضي بدون توقف. الاحتلال يرفض إعطاء تصاريح البناء؛ فيشيد المواطنون مساكنهم وتكون عرضة للهدم! دوما مسكونون بالقلق، انعدام السكن والطمأنينة للفلسطينيين على ارض وطنهم. الاحتلال بذلك ينذر ان سكنهم مهدد بالبلدوزرات، ووجودهم مهدد كذلك.

الوعي العلمي أو الاندثار!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- هشام شرابي: البنية الأبوية إشكالية التخلف الاجتماعي

2- انطوان غرامشي: قضايا المادية التاريخية، ترجمة فواز طرابلسي- دار الطليعة، بيروت1971

3- مهدي عامل: مناقشات وأحاديث في قضايا حركة التحرر الوطني وتميز المفاهيم الماركسية عربيا - شركة  المطبوعات اللبنانية، بيروت 1990

4- مصطفى حجازي: "الإنسان المهدور"

انـتـهـى