انتفاضة أولى، وثانية وماذا عن الثالثة؟ | د. ماهر الشريف

2020-12-09

انتفاضة أولى، وثانية وماذا عن الثالثة؟

| د. ماهر الشريف

في مثل هذا اليوم قبل 33 عاماً، اندلعت انتفاضة شعبية لم تكن  مقطوعة الجذور عما سبقها من نضالات خاضها الشعب الفلسطيني منذ أن قامت القوات الإسرائيلية باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في حزيران 1967، بل جاءت، في الواقع، تتويجاً لسلسلة من أعمال المقاومة الشعبية التي لم تنقطع، والتي كانت تتخذ، في بعض الأحيان، شكل هبات أو انتفاضات، جزئية أو شاملة، مثّلت عملياً "بروفات" نضالية، تمرس الشعب خلالها على المواجهة وراكم من الخبرات والتجارب، على صعيد الوعي والتعبئة والتنظيم، ما جعله قادراً على تفجير انتفاضة كانون الأول الكبرى وضمان استمراريتها طوال فترة طويلة.

وقد تميّزت  تلك الانتفاضة بطابعها الشعبي والديمقراطي، إذ شاركت فيها جميع فئات الشعب الفلسطيني الاجتماعية، كما تميّزت  بمستوى تنظيمها العالي، وبأساليب نضال غير مسلحة متوافقة مع طبيعة المناطق الفلسطينية المحتلة، نجحت في تحييد  جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأدت إلى  تصاعد المعارضة الإسرائيلية لسياسات الاحتلال، وفرضت على حكام  إسرائيل عزلة دولية كبيرة، ونجحت في أن  ترسم  لنفسها أفقاً سياسياً تمثّل في شعارَي "الحرية والاستقلال"، حرية شعب فلسطين واستقلاله في دولة مستقلة حددت فعالياتها، قبل أن تتبنى منظمة التحرير الفلسطينية "إعلان الاستقلال"، حدود هذا الاستقلال في الضفة الغربية وقطاع غزة القدس الشرقية، مع التمسك بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم.

في 28 أيلول 2000، تبيّن أن السلطة الفلسطينية، بعد سبعة أعوام على "اتفاق أوسلو"، لم تسيطر على أكثر من خمس مساحة الضفة الغربية وعلى ثلثي مساحة قطاع غزة تقريباً، بينما تواصلت عمليات مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات وتوسيعها وتهويد القدس، وازداد عدد الفلسطينيين الذين يعانون من الفقر والبطالة عما كانوا عليه عشية توقيع الاتفاق؛ فكان من الطبيعي أن تندلع انتفاضة ثانية جاءت تعبيراً عن تراكم ضيق الجمهور الفلسطيني إلى أن بلغ ذروة الانفجار، وشعوره بأن التفاوض من دون ممارسة الضغط لن يجدي. ولكن منذ أسابيعها الأولى، افتقدت تلك الانتفاضة الأفق السياسي الموحد، إذ اختلفت القوى الفلسطينية المنخرطة فيها حول الاحتفاظ بطابعها الشعبي أو توجيهها نحو النشاطات المسلحة، وبين حصرها داخل حدود الأراضي المحتلة سنة 1967 أو مدها إلى إسرائيل داخل ما يُعرف بالخط الأخضر، كما اختلفت حول طبيعة أهدافها السياسية، إذ انقسمت القوى الفلسطينية إلى سلطة وطنية، وجدت في الانتفاضة وسيلة لتحسين شروط التفاوض، وقوى وطنية علمانية، رأت فيها وسيلة لتحقيق هدف الاستقلال، وقوى دينية، وجدت فيها طريقاً إلى طرح خطها السياسي القائم على تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني. ولأنها اتجهت سريعاً نحو عسكرة  فعالياتها، فشلت تلك الانتفاضة في تحييد الجيش الإسرائيلي، وفي كسب تأييد قطاعات من الإسرائيليين وفي فرض العزلة الدولية على حكام إسرائيل، كما حدث في الانتفاضة الأولى.

واليوم، يجري الحديث عن انتفاضة ثالثة، فماذا عنها؟

ليسمح لي القارئ أن اجتهد هنا، وأقول:  في الغالب أن  الشروط الموضوعية لاندلاع مثل هذه الانتفاضة متوافرة في ظل التغول الإسرائيلي الذي لا سابق له، والتخلي الرسمي العربي وتراجع الاهتمام الدولي، لكن شروطها الذاتية غير متوافرة في ظل الانقسام الفلسطيني، وغياب أفق سياسي جديد، إذ لم تحسم القيادة الفلسطينية أمرها بالتخلي كلياً عن منطق "اتفاق أوسلو"، بل هي ما زالت تراهن على نهج أثبتت الأيام مراراً وتكراراً فشله، الأمر الذي يضعف إمكانيات تعبئة الجمهور الفلسطيني، الذي من غير الصحيح أن إسرائيل نجحت في كي وعيه، بل أظهر عبر مواجهات متفرقة هنا وهناك أنه مستعد، عندما يرى حركة وطنية موحدة  تطرح أمامه أفقاً سياسياً واضحاً ومختلفاً يقنعه بالجدوى السياسية لتضحياته، أنه مستعد  لزج كل طاقاته في مواجهة شاملة، لن تكون في شكلها بالطبع مثل الانتفاضتين الأولى والثانية، بل من المحتمل أن تتخذ شكل احتجاجات شعبية سلمية، وتظاهرات واسعة أمام حواجز الجيش الإسرائيلي، تدعو إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ثم تبدع، مع الوقت، أشكال تنظيمها، وتنحو نحو خلق حقائق جديدة ومراكمتها، تؤثر داخل إسرائيل، وتفرض على المجتمع الدولي التحرك الجدي.