في وداع عز الدين المناصرة.. | محمود شقير

2021-04-15

في وداع عز الدين المناصرة..

| محمود شقير

كلّما مات صديق عزيز شعرت بالنقصان؛ نقصان الحيّز وفسحة الزمان، وانقطاع خطوط التواصل الدّالّة على عمق الصداقة وقيمة الوفاء.

حين مات الشاعر محمد عز الدين المناصرة، وقبله بأقل من شهرين مات الشاعر مريد البرغوثي، وقبلهما مات عدد من أبرز الشعراء، شعرت بأنّ الشعر في فلسطين وفي الوطن العربي والعالم قد تفاقمت خساراته وازدادت جرّاء ذلك الأحزان.

التقيت عز الدين أوّل مرّة في عمّان عام 1972، وكان اللقاء ودّيّاً إلى أبعد حد؛ فقد كنّا قبل هزيمة حزيران 1967 نلتقي من على البُعد على صفحات مجلة "الأفق الجديد" المقدسيّة. كان عز الدين آنذاك طالباً يدْرُس الأدب العربي في إحدى جامعات القاهرة، وكنت أعمل مُدرّساً للغة العربيّة في المدرسة الهاشميّة الثانوية في مدينة البيرة.

وبالطبع؛ كانت حرفة الأدب قد أدركتنا ونحن في عنفوان الشباب؛ كان عز الدين مراسلاً "للأفق الجديد"، وكان يكتب شعراً ذا إيقاعات عذبة تلوح من خلاله مدن فلسطين وقراها، وتتهادى بين سطوره النساء الكنعانيات بأثوابهِنّ المطرّزة، وكنت أكتب قصصاً عن الريف الفلسطيني وعن الفلاحين الفقراء وعن النساء الفلسطينيّات العاملات المُجِدّات.

وحين التقينا في عمّان كان طيف "الأفق الجديد" يظلّلنا؛ الطيف الذي انحسر جرّاء قسوة الظروف التي كانت سائدة في البلاد، فلم تُتَحْ للمجلة فرصة للاستمرار. بعد ذلك اللقاء؛ غادرت عمّان التي جئتها زائراً لبضعة أيام، وعدْتُ إلى القدس على أمل اللقاء بعز الدين من جديد ربّما في القدس المحرّرة أو في الخليل.

ولم نلتقِ ثانيةً إلا في بيروت عام 1975. كان عز الدين قد غادر عمّان إلى بيروت، وكنت وصلتُها مبعداً من سجون المحتلّين الإسرائيليين، وأثناء إقامتي المؤقّتة في بيروت انضممت إلى أسرة تحرير مجلة "فلسطين الثورة" التي كان عز الدين يشرف على الصفحات الثقافية فيها، وقد أُوْكِلَتْ إليَّ مهمّة الإشراف على شؤون الأرض المحتلة في المجلّة، وكنّا؛ عزّ الدين والصحافي القدير حسن البطل وأنا نداوم في غرفةٍ واحدةٍ، وكان أبو عمّار؛ المعنيّ بعدم البقاء في مكان واحد لأسباب أمنيّة، يداوم في بعض الأيّام في مكتب رئيس التحرير أحمد عبد الرحمن، وكنّا نتبادل التحيّات معه حين نراه داخلاً إلى مقرّ المجلّة أو خارجاً منه، وكان عزّ الدين آنذاك يكتب عن علاقته بالثورة الفلسطينية، وعن مشاركته في بعض معاركها المسلّحة في كتابه الموسوم ب: "عشّاق الرمل والمتاريس" الصادر عن منظمة التحرير الفلسطينية عام 1976.

وكان في الوقت نفسه يواصل كتابة قصائده ذات اللغة الحسّيَّة المتأثّرة بالثقافة الشعبية الفلسطينية والمطعَّمَة بألفاظ من اللهجة العاميّة الفلسطينيّة (تَتزعرنُ قرب الغابات السوداء/ تَشْفُطه/ يُرشْرش/ مَرْمَغْتُكِ بالرمل الأحمر/ فَرْفَكْتُكِ في عتم الزمن الكحلي)، وفيها مَيْلٌ واضحٌ إلى الاستفادة من تقنيَة السرد داخل القصيدة، السرد الذي يصف؛ من دون مباشرة، تضحيات الفلسطينيين وتَوْقَهم إلى وطنٍ مبرّأٍ من القيود، ويصِفُ نساء فلسطين المتألّمات لارتقاء الشهداء، وهنّ بحسب عز الدين:

"يذكرني حتماً في الليل حبيبي

قالت إحدى عذراوات الساحل،

ثمّ رقصن، رقصن، رقصن،

إلى أن شقّقت الأرضُ غشاءَ الأقدام،

وضجَّ الإعياءُ من الإعياءْ.

ضجَّ الإعياءُ من الإعياءِ،

تَعانقَ دمعُ الكنعانيات، وحنّاءُ الأشجار".

وسيواصل عز الدين كتابة قصائده الجميلة التي سيضمُّها ديوانه الخامس الصادر في عام 1976 الموسوم بـ "بالأخضر كفّناه".

في تلك الفترة المؤقّتة التي قضيتُها في بيروت قبل مغادرتها إلى عمّان، كنّا الشاعر عز الدين المناصرة والأديب فاروق وادي وأنا؛ نلتقي في بعض الأحيان ونتبادل الآراء حول الكتابة، وحول هموم الفلسطينيين في المنافي وفي الوطن المحتل، وكنّا نفترق على أمل اللقاء من جديد.

وذات مساء ضمَّنا لقاءٌ في بيتي الذي كان قريباً من مبنى جامعة بيروت العربيّة، وكان في اللقاء: الشاعر محمود درويش، الشاعر عز الدين المناصرة، الفنّان القادم من الأرض المحتلّة مصطفى الكرد، الأديب عدي مدانات وزوجته إفلين الأطرش القادمان من عمّان، الناقد السينمائي عدنان مدانات المقيم في بيروت، فهد العبيدي؛ أحد قادة قوات الأنصار، وأنا، ولم نترك في تلك الليلة شأناً من شؤون الثقافة والفن إلا طرقناه، ثمّ تفرّقنا على أمل اللقاء.

لكن الحرب الأهليّة التي كانت تتصاعد لم تترك فرصاً للقاء. غادرتُ بيروت إلى عمان بعد ثمانية أشهر من الإقامة فيها، وظل عز الدين مقيماً على ولائه للشعر وللثورة في بيروت، ثم غادرها بعد سنوات إلى صوفيا لاستكمال دراساته العليا في الأدب المقارن في الجامعة هناك، وسيعود بعد ذلك إلى بيروت ويعيش مع الثورة فترة الحصار.

التقيتُهُ عام 1980 في صوفيا، وكنت ذاهباً إليها في رحلة استجمام استمرّت شهراً؛ التقينا أثناءها غير مرّة وتذكّرنا أيّامنا في بيروت، وعرّجنا على تذكُّر كتاباتنا في "الأفق الجديد"، وعلى التجربة الرائدة لتلك المجلّة التي تركت أثراً واضحاً في الثقافة الفلسطينية، وأنجبت شعراء وقاصّين ونقّاداً برغم عمرها القصير (1961-1966).

ثمّ كانت لنا لقاءات ممتدّة في عمّان؛ حين عاد إليها عز الدين بعد الخروج من بيروت، وسيُغادر الأردن ليعمل أستاذاً للأدب في جامعات الجزائر، ثم يعود أوائل تسعينيات القرن العشرين إلى عمّان، لنلتقي من جديد في مقرّ رابطة الكتّاب الأردنيّين في جبل اللويبدة، وفي بيوت أصدقاء عديدين في عمّان، وكان عز الدين يؤكّد باستمرار على ما لديه من خصال نبيلة ومن صدق ونزاهة وانسجام بين مضامين شعره الوطنية التقدمية الإنسانية وبين سلوكه اليومي وممارساته.

آخر مرّة التقيتُهُ كانت في جامعة فيلادلفيا التي زرتُها عام 2008 برفقة الأستاذ في الجامعة الدكتور الأديب محمّد عبيد الله، وكان الشاعر الدكتور عز الدين المناصرة يعمل في الجامعة نفسها أستاذاً للأدب العربي، وكان لي شرف اللقاء مع عدد غير قليل من طلاب كلية الآداب في الجامعة الذين كانوا يدرسون قصّتي "ما بعد صورة شاكيرا" ضمن منهاجهم الدراسي، وقد تحدَّثْتُ إليهم عن تجربتي في كتابة القصص الساخرة، ثمّ دار بيني وبينهم حوار.

عُدْتُ إلى القدس من تلك الزيارة الخاطفة إلى عمّان، وكنت أتابع أخبار عز الدين وأقرأ له حوارات ومقالات وآراء في السياسة وفي الأدب والنقد الأدبي، وقبل أسبوع من رحيله؛ هاتفتُهُ ولم يردَّ على مكالمتي، ردّ عليّ ابنه كنعان، وقال إنّ حالة والده الصحيّة ليست مطمئنة؛ وهو لا يستطيع الردّ على الهاتف، تمنَّيْتُ له الشفاء، وطلبت من كنعان أن يبلغ والده أحرّ التحيّات من صديق عتيق، ثم انتهت المكالمة وكان ما كان.

لصديقي الشاعر الكبير محمّد عزّ الدين المناصرة الرحمة وبقاء الذكرى والخلود.