في ذكرى النصر على النازية | د. خليل اندراوس

2021-05-07

في ذكرى النصر على النازية

| د. خليل اندراوس

واجبنا ممارسة النضال الثوري الجدلي العلماني لبناء حضارة إنسانية

قبل عدة أيام احتفلت الطبقة العاملة في أرجاء المعمورة بعيد الأول من أيار، عيد العمال العالمي، الذي لا يُعتبر عيدًا سنويًّا فحسب، بل يومًا نضاليًا يُعطل فيه العمال في كافة المجالات والميادين وفي الغالبية الساحقة من دول العالم.

وبعد يومين تحتفل كل قوى التحرر في العالم بيوم النصر على النازية، والذي يُعتبر يوم تحرر العالم من المد النازي والذي استطاع الجيش الأحمر السوفييتي فيه قهر النازية وتغيير وجه المعمورة نحو فجر جديد وأمل جديد لكل حركات التحرر في العالم.

ففي فجر 22 حزيران سنة 1941 قامت ألمانيا النازية بهجوم غادر ومباغت على الاتحاد السوفييتي. وأُحدق بالبلاد خطر رهيب، إذ كانت المسألة بالنسبة للدولة السوفييتية مسألة حياة أو موت. مسألة بقاء أو الوقوع في براثن العبودية.

بدأت الحرب في ظروف ملائمة لألمانيا النازية وزعيمها هتلر، إذ انه استعد بدقة للهجوم وتمتع بجملة من الافضليات الحربية الهامة. وقد وجه على الاتحاد السوفيتي كل ما للماكنة العسكرية الفاشية من قدرة: 190 فرقة من بينها 35 فرقة دبابات وآليات تدعمها قوات جوية ضخمة. حيث وجه لاحتلال الاتحاد السوفيتي 5.5 مليون جندي وضابط وما يقارب من 5 آلاف طائرة و2800 دبابة وأكثر من 48 ألف مدفع هاون. وكانت لجيش ألمانيا النازية الضخم خبرة من سنتين في خوض العمليات العسكرية القتالية في أوروبا، ولم يحتج الجيش الهتلري غير 19 يومًا لاحتلال هولندا وبلجيكا. وأدى ما يزيد قليلاً عن 40 يومًا من العمليات القتالية إلى استسلام فرنسا والقضاء التام على الحملة العسكرية الانجليزية وكان الهجوم الغادر النازي على الاتحاد السوفييتي بعد ان أصبحت أوروبا كلها تقريبًا قد وقعت تحت احتلال الغزاة النازيين.

إن كل ذلك حوّل ألمانيا النازية إلى أقوى بلد في العالم الرأسمالي من الناحية الاقتصادية والعسكرية وأوحى للهتلريين النازيين بالثقة في أنهم يستطيعون القضاء على الاتحاد السوفييتي بضربة خاطفة، وقد أعلن هتلر في الاجتماع الذي انعقد في برغوف في 30 حزيران سنة 1940: "كلما قضينا بصورة أسرع على روسيا، كان ذلك أفضل. إن العملية ستكون ذات مغزى فقط إذا حطمنا الدولة بضربة واحدة". ان فكرة "بليتسكريج" أي "الحرب الخاطفة" وضعت في أساس خطة الهجوم على الاتحاد السوفييتي.

إن هذه الخطة التي أعدتها هيئة الأركان العامة وأطلق عليها اسم "برباروسا" وقعت من قبل هتلر في 18 كانون الأول سنة 1940. والطغمة العسكرية الفاشية النازية التي لم يخامرها الشك في إحراز النجاحات الحربية بسرعة في روسيا، رسمت السبل اللاحقة للاستحواذ على السيطرة العالمية. وهذا ما تفعله الولايات المتحدة عالميًا وإسرائيل في المنطقة من أجل خلق عالم على الطراز الأمريكي، ويجعل من القاعدة الأمامية للإمبريالية في منطقة الشرق الأوسط أي إسرائيل الدولة المهيمنة والمسيطرة على منطقة الشرق الأوسط، ومن أجل هذا الهدف تمارس الولايات المتحدة الشيطان الأكبر وإسرائيل الشيطان الأصغر كل أساليب العنف والعدوان وتدوس الحقوق المشروعة لشعوب المنطقة وخاصة الشعب العربي الفلسطيني وتقضي على مصالح ومستقبل شعوب المنطقة، لدرجة دفعت ببعض قوى اليمين الأمريكي والإسرائيلي التلويح والتهديد بحروب استباقية عدوانية والتهديد باستعمال السلاح الذري وخاصة ضد إيران وممارسة سياسات الإرهاب الرسمي في العراق وسوريا واليمن ولبنان وغزة.

وهنا لا بد ان نذكر بوجود تسجيل في يوميات القيادة العليا للقوات المسلحة الألمانية مؤرخ في 17 شباط سنة 1941 هذا نصه: "بعد الانتهاء من الحملة الشرقية ينبغي إعداد خطة للاستيلاء على أفغانستان ثم تنظيم هجوم على الهند". وفي وثائق أخرى وردت بالتفصيل خطط محددة للاستيلاء في خريف سنة 1941 على كل من إيران والعراق ومصر وقناة السويس.

وما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة هو نوع من سياسات الصليب المعقوف الجديدة في المنطقة، تسعى إلى تدمير دول المنطقة والقضاء على احتمالات إحداث وبناء مجتمعات ودول ديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط. وفي هذا المجال تلتقي مصالح أمريكا وإسرائيل مع مصالح أنظمة الاستبداد الرجعي الديني العربي ومع مصالح الطبقة البرجوازية الكومبرادرية الوسيطة في العالم العربي، ولذلك تقوم تحالفات استراتيجية بين أنظمة الاستبداد العربي كالسعودية مع أمريكا وإسرائيل وليس بالغريب ان تقوم السعودية بتقديم مليارات الدولارات لإسرائيل وتقوم إسرائيل باعتداءات عسكرية متكررة من خلال سلاحها الجوي ضد سوريا وحزب الله.

الهجوم النازي الغادر على الاتحاد السوفييتي لم يُخف أو يحط من معنويات الشعوب السوفييتية والصراع غير المتكافئ في بداية العدوان النازي على الاتحاد السوفييتي، لم يثنِ الروح المعنوية للشعوب والقوات السوفييتية. وبالنظر لانعدام وجود الجبهة الثانية في أوروبا على مدى ما يقارب الثلاث سنوات أصبح بإمكان القيادة الألمانية النازية ان تنقل حتى صيف 1942 قوات كبيرة من أوروبا الغربية إلى الجبهة السوفييتية.

وعمليات الحلفاء في إفريقيا كانت ذات أهمية محلية ولم تدخل أية تغييرات جدية في ميزان القوى للأطراف المتحاربة. وهكذا استطاعت القوات النازية الوصول إلى منطقة ستالينغراد التي كان في نية الهتلريين احتلالها بشكل خاطف بعد ان فشلوا في احتلال موسكو أو احتلال ليننغراد بعد أكثر من 900 يوم من الحصار. وبالرغم من التفوق الكبير للجيش النازي استطاع الجيش السوفييتي البطل الانتصار في معركة ستالينغراد.

وكان لكاتب هذه السطور زيارتان لمدينة ستالينغراد ووضع أكاليل الزهور تحت أقدام ضريح الجندي المجهول الذي يقع على تلة ليست بالبعيدة عن نهر الفولغا الذي لم يستطع الجيش النازي الوصول إليه. وعثر عند أحد الضباط الألمان القتلى في معركة ستالينغراد على رسالة جاء فيها: "لكي نصل إلى نهر الفولغا علينا ان نقطع كيلومترًا واحدًا آخر فقط ولكننا لا نتمكن من قطعه. وها قد خضنا صراعًا من اجل هذا الكيلومتر أطول من الحرب التي خضناها للاستيلاء على فرنسا بأسرها".

وفي 27 أيلول سنة 1942 كتبت الصحيفة الأمريكية "نيويورك هيرالد تريبون": " في فوضى لا حد لها من القنابل المتفجرة والبنايات المتهدمة وقف حماة المدينة يذودون عنها بكل عزم أكيد ليس فقط على الموت إذا تطلب الأمر ذلك، وإنما على الهجوم أيضًا حيثما كان ذلك ممكنًا وهكذا استطاعت القيادة العليا السوفييتية وضع خطة لهجوم مضاد ساحق عند مشارف ستالينغراد، ففي تاريخ 12-13 أيلول سنة 1942 عُقد في الكرملين لدى ستالين رئيس اللجنة الحكومية للدفاع اجتماع حضره جوكوف نائب القائد الأعلى الذي استدعي من الجبهة في ستالينغراد، وفاسيليفسكي قائد الأركان العامة واتخذ قرار بإعداد عملية استراتيجية ضخمة غايتها تطويق وسحق الجيش النازي العدو وهذا ما حصل. وهكذا تم تطويق 22 فرقة نازية تعدادها حوالي 300 ألف جندي نازي وعندما رفض الهتلريون الاستسلام بدأت القوات السوفييتية في 10 كانون الثاني سنة 1943 بالقضاء على تجمعات العدو المطوقة وانتهت من ذلك في 2 شباط سنة 1943. وبعد انتهاء المعركة جمعت ودفنت جثث 147 ألف قتيل فاشي كما أسر 91 ألف جندي فاشي وهكذا انتهت معركة ستالينغراد بالنصر التام للقوات السوفييتية والتي استمرت في انتصاراتها حتى وصلت إلى برلين ورفعت علم الاتحاد السوفييتي على مبنى الرايخستاغ في برلين.

وهنا لا بد ان نؤكد بأن الجيش السوفييتي حتى نهاية عام 1943 استطاع تحرير حوالي ثلثي أراضيه بدون الجبهة الثانية من فرنسا. كما لا بد ان نؤكد بأن تبنى هتلر والنازية تمامًا في شكل جديد، ذلك الشكل الذي أعطاه لها والمماثل للشكل المسيحاني (مسيحانية اسم يطلق على ركن من أركان الديانة اليهودية الذي يتنبأ بظهور المسيح المخلص، كما يطلق على أي نزعة دينية تنتظر من يأتي ليملأ الأرض عدلا مثل رجعة المسيح والمهدي، المنتظر كما انها تطلق أيضًا بمعنى مجازي على الفلسفات والمذاهب التي تعد بتحرر البشر عبر انجاز امة معينة أو طبقة اجتماعية لرسالتها التاريخية)، ولقوميات القرن التاسع عشر وتنظيرات الأجناس والنزعة الآرية، والفكرة السائدة عن الجنس المختار في طبعته العبرية ثم المسيحية، شعب تلقى وعدًا بسيادته على العالم، على الأميين، الجوييم (الجوييم هو الاسم الذي يطلقه اليهود على جميع الشعوب الأخرى)، أو على الكفار أو البرابرة أي على من هم أدنى منه في الدم والدين والحضارة".

باسم نفس المسحانية المنقذة أعلن هتلر فلسفته وايديولوجيته النازية والتي تهدف السيطرة على العالم، وكإعادة تجديد للعالم بواسطة نقاء الشعب المختار الجديد – الآريون. وهذا ما تفعله الولايات المتحدة عالميًا من خلال ايديولوجيات وسياسات الهيمنة والسيطرة على العالم ومفاهيم صراع الحضارات، والصهيونية التي تنادي وترفع شعارات ارض الميعاد والشعب المختار وممارسة أبشع أشكال التطهير العرقي والاحتلال والاستيطان والحروب العدوانية ونفي وتهميش حقوق الشعب العربي الفلسطيني.

وهكذا في عالمنا المعاصر مشروع العنصرية وايديولوجيات العرق الأرقى والشعب المختار، قد أنجز ويمارس الآن من قبل الهجين الأمريكي – الإسرائيلي، الشيطان الأكبر والأصغر ضد الإنسانية.

ذكرى الانتصار على النازية تحمل الكثير من الذكريات والمعاني والدروس الإنسانية لدى شعوب العالم، وخاصة الشعب الروسي، لكونه أكثر شعوب العالم التي دفعت ثمن العدوان النازي الفاشي، فتاريخ الإنسانية لم يعرف حربًا دامية كتلك التي تكبدها الاتحاد السوفييتي، حيث ذهب ضحيتها أكثر من 27 مليون إنسان. لقد أباد الغزاة النازيون وعذبوا على الأرض الروسية التي احتلوها أكثر من 6 ملايين من السكان الآمنين من الرجال والنساء والأطفال.

ولاقى مئات الآلاف من الناس حتفهم في معسكرات الاعتقال. زد على ذلك ان المحتلين نقلوا قسرًا إلى ألمانيا ما يزيد عن 4 ملايين مواطن سوفييتي، هلك أكثرهم فيما يدعى معسكرات العمل. والتاريخ لم يعرف خرابًا ووحشية ولا إنسانية كالتي تميز بها النازيون على الأرض الروسية. إذ قدم الجنرال الفاشي شتولبناغل تقريرًا لهتلر عن تدمير الاقتصاد الوطني السوفييتي، أكد بأنه لا بد من 25 سنة على الأقل لإعادة بنائه.

وهنا علينا ان نؤكد بأن النازية والفاشية من إفرازات وتقيحات النظام الامبريالي وخاصة في فترة الأزمات، وما نشاهده اليوم في عالمنا المعاصر من ممارسات سياسات سيطرة قانون الأقوى ومن حروب همجية وحشية لأكبر دليل على ذلك. وما تمارسه إسرائيل في غزة وتمارسه أمريكا في أفغانستان والعراق وسوريا لهو تعبير فاضح عن طابع هذه الحروب العنصرية الاستعمارية البربرية، والتي تذكرنا بما يسمى "المحرقة" خلال الحرب العالمية الثانية.

وهنا أطرح السؤال كيف يمكن لأي إنسان يفكر بشكل موضوعي وغير مصاب بمرض العنصرية والشوفينية ان يحيي ذكرى "المحرقة" ويتنكر لذكرى النكبة.

فنحن نعيش فترة سيطرة إمبراطورية الشر أي الولايات المتحدة، والتي يقودها طغمة رأس المال وكهنة الحرب، من خلال أصولية غريبة يهوا – مسيحية متسلحة بفكرة "الشعب المختار" والتي لا تختلف كثيرًا عن فكرة "الشعب الأرقى"، من خلال ممارسة فكرة الإبادة والتطهير ونفي الآخر، بل تفسير هذه الممارسات وكأنها أوامر إلهية طبقا لتعاليم "يهوا"، إله الحرب في العهد القديم، هذا الإله الذي أمر "شعبه المختار" بإبادة وذبح السكان الأصليين في ارض كنعان، واغتصاب أرضهم.

وهكذا أصبح العنف في العشرين سنة الأخيرة الأكثر دموية، لدرجة دفعت أحدهم وهو نوعم تشومسكي إلى القول: "لو بقيت ونفذت قوانين نيرنبرغ حتى الآن لعلق على حبل المشنقة كل رئيس أمريكي انتخب بعد الحرب العالمية الثانية".

لقد قال سيمون بوليفار أحد أبطال تحرير أمريكا اللاتينية في منتصف القرن التاسع عشر: "يبدو ان الولايات المتحدة تسعى لتعذيب وتقييد القارة باسم الحرية".

وهذا ما تفعله الولايات المتحدة عالميًا وربيبتها إسرائيل في المنطقة. فكلتا الدولتين لم تستفيدا من تجارب التاريخ. فسياسات القوة ونفي الآخر والعنصرية والفاشية لا يمكن من خلالها تحقيق السلام. لذلك على قوى السلام والتقدم في إسرائيل عربًا ويهودًا ممارسة النضال المثابر ضد السياسة العدوانية لحكام إسرائيل، وضد الاحتلال وضد الاستيطان، من اجل السلام العادل والدائم في المنطقة لكي تصبح إسرائيل جزءًا من فسيفساء الشرق الأوسط ومن خلال اعترافها بمسؤوليتها الأخلاقية والتاريخية والسياسية عن النكبة التي حلت بالشعب العربي الفلسطيني، وعلينا ان نستفيد من تجارب التاريخ ودروس الحرب العالمية الثانية ونمارس النضال الثوري الجدلي العلماني من اجل بناء حضارة إنسانية، من اجل بناء مجتمعات العدالة الاجتماعية والمساواة من اجل بناء مملكة الحرية على الأرض.

لقد قال ماركس: "كلما كان الفعل التاريخي المعين أكثر عمقًا في تأثيره على الحياة، تعاظمت الجمهرة التي تمارس هذا الفعل".

إن الحرب الوطنية العظمى وانتصار الجيش الأحمر على النازية بينت الوحدة الاجتماعية السياسية للشعب السوفييتي ووطنيته العالية وخصاله المعنوية، تفانيه، صموده واستعداده لأن يهب حياته في سبيل الوطن والحرية.

وأكدت على أهمية الدور القيادي والمنظم للحزب الشيوعي في المجتمع السوفييتي. فالحزب الشيوعي السوفييتي رص صفوف الملايين من الناس في نضالهم ضد الغزاة النازيين الفاشست ونظم العمل المتواصل في المجتمع السوفييتي في ذلك الوقت.

لذلك علينا أن نحمي المفاهيم الماركسية من التشويه، فبدون التسلح بالنظرية الثورية الطليعية أي بالنظرية الماركسية لا يستطيع الحزب أن يترأس ويقود طبقة العمال، ويصبح قائد هذه الطبقة. فقط بالتسلح بالنظرية الماركسية يصبح حزب العمال، الحزب الشيوعي حزبا ثوريا قلبا وقالبا ومن خلال صحافته ونشاطاته الجماهيرية، عليه أن يسكب هذه النظرية، أي النظرية الماركسية في الوعي الجماعي للطبقة العاملة والجماهير الشعبية الواسعة.

ففي الأول من أيار وفي ذكرى النصر على النازية علينا ان نعمق فعلنا الثقافي والعلمي والسياسي لكي نعمق تأثيرنا الإيجابي على الحياة. ولنذكر تشيرنيشفسكي الذي هتف من الأعماق: "ليكن ما يكون بيد ان العيد سيحل في حينا، رغم كل شيء".

لذلك لا بد ان يأتي عيدنا عيد سلام الشعوب بحق الشعوب. وفي النهاية عاش الأول من أيار، عاش يوم النصر على النازية.