غزة والحصار والخديعة الكبرى - بقلم طلعت الصفدى

2008-05-17

الشوارع كئيبة فارغة .. خالية من كل أشكال  الحركة الكيميائية والبيولوجية والاجتماعية ، تراجعت فيها مظاهر الحضارة وخصوصا بعد المساء .. إلا من سياراتهم التي نهبوها  تفوح منها  رائحة البنزين والسولار،  وتصك بعجلاتها أرض الشارع بعواء الذئاب ، وكأفلام المطاردة والعنف الأمريكية ، ممتلئة حوصلتها بالوقود والتخمة بادية عليها ، وسيارتك أيها السائق المواطن الغلبان لا تتحرك حتى من أجل قوت يومك وأسرتك وأطفالك ، فالجيوب خالية الوفاض  لدفع فاتورة الكهرباء والمياه ،وإمعانا في قهرك يتحركون مدججون بالسلاح وبالهراوات  لقطع التيار الكهربائي عن ابنك الذي يستعد لتقديم امتحانات آخر العام الدراسي ، أو عن مريض في غرفة الإنعاش ،  ولن تحصل على القليل من لترات  الوقود إلا بعد أن تبرز ترخيص وتأمين سيارتك  فسماسرة العصر الحديث والشرق الأوسط الجديد ، والفوضى الخلابة  لك بالمرصاد . الشوارع خالية حتى من القطط والجرذان التي  لم تجد طريقا لمواجهة الحصار  فالحاويات خاليات من بقايا الأطعمة التي تعتاش عليها
  التجوال ممنوع بأمر السلطان .. وسلطاننا في عصر الردة الديمقراطية تمنع التجمهر والمسيرات حتى في المناسبات الوطنية ، والاحتفال بمرور ستون عاما على النكبة الفلسطينية ، ويستخدم أزلامها الهراوات المكهربة ضد المحتفلين وحتى قيادات العمل الوطني  ، ويطلقون الرصاص  بلا وازع من ضمير وحس وطني أو ديني . هل نعد إلى الذاكرة والتاريخ  حيث كان الاحتلال الاسرائيلى يفرض منع التجول  بعد كل مقاومة ،  ومحاولة  اعتقال أحد المناضلين، ويبث الرعب والفزع بين المواطنين لشل تفكيرهم وحركتهم ...  والمتأسلمون في سبات عميق ، لا وطنية في الإسلام ، لا قومية في الإسلام ، هكذا يصرحون .
رائحة الحرب تلوح في الأفق،  فوضى،  بطالة ،  ارتفاع جنوني في الأسعار ، والسلع والبضائع غير متوفرة في سوق الجملة  والمفرق بسبب الحصار ،  وغزة المنهوبة والمنكوبة من تجار الغاز والسولار والبنزين ،وسماسرة الإنفاق  ،  والأطفال يلعبون على بابا والأربعين حرامي.. وعسكر وحرامية... الأطفال فهموا الدرس فانتابهم القلق على  آبائهم وأمهاتهم.. هل نحن مقررون في السياسة الدولية أم نحن تابعون وملحقون؟؟ هل حولنا أنفسنا تحت ضغط المصلحة الذاتية والنهب السريع  لوسائل استخداميه لهذا الفريق أو ذاك ؟؟ هل نسينا أن القضية الفلسطينية خلقتها القوى الثلاث الامبريالية البريطانية والحركة الصهيونية والرجعية العربية ؟؟ أين القرار الفلسطيني المستقل ، وشعار كل طرف يقلع شوكه بأيده !!! ؟؟؟  القرار الفلسطيني المستقل يمنحنا القوة والقيمة والوجود  تلتف الجماهير حوله  وتدافع عنه بروحها وبأجسادها  ، ولكن عندما تحولنا إلى غير ذلك فقدنا البوصلة وضاعت الإستراتيجية الوطنية ، وتعرض الوطن للمقايضة ، وأصبحنا تابعين وملحقين في سياستهم ، وفقدنا قيمتنا كمواطنين ننتمي للشعب الفلسطيني العربي...
البحر يبكى أمواجا وما عاد الرمل يتكلم عربي .. والقمر ينزوي خجلا من أفعالنا التي لا تطاق في امتهان كرامة المواطن الفلسطيني .. والشمس ما عادت تطل بأشعتها خوفا على مصيرنا الذي يتهدده الضياع والفناء بسبب حصار الاحتلال لأرضنا وشعبنا ، وبسبب حصارنا لأنفسنا بلا رحمة وبلا وعى ..  الكل يتساءل لماذا نفقأ عيون شعبنا بأنفسنا ؟؟ فمن يزاول هذه المهنة سوى الكسبة والمرتزقة   ؟؟ هل علينا أن نتحول لترس في عجلة الكبار الإقليميين والدوليين  حتى وان كنا صغارا في السياسة الدولية ؟؟
القلق، الخوف من المجهول،  من المستقبل ، فالماضي قد عرفناه  بعجره وبجره ، ولكن المستقبل .. أين مستقبلنا ومستقبل وجودنا على أرضنا  ؟؟ هل نتحول إلى نموذج القرد  قسام الجبنة ؟؟ لقد شحنوا المستقبل برائحة السيرج التي تنفث ألما وسرطانا .. الوجوه كالحة ، العيون غائرة . لم يعد للفرح من معنى  .. في هذا الزمن الساقط تحول الصغار إلى كبار قبل الأوان.. لا أحد يكترث فالكبار الكبار مشغولون بمصالحهم وبأعراسهم  وببرنامجهم  وإمارتهم أولا وتنفيذ برنامجهم الاحادى الجانب ، يبحثون عن الشرعية بأي ثمن ولو بالتضحية بالآخر هو أسلوبهم وكل اهتمامهم ، ومن قال أنهم يؤمنون  بالتعددية السياسية . هذا هراء لا مستقبل لديهم سوى أنفسهم وليذهب الآخرون إلى الجحيم أو الفناء.
الشهداء يتساقطون كالنجوم ، لا أحد يكترث سوى العائلة والجيران  وبعض الأصدقاء ولأيام معدودة ، وتبقى الحسرة عند الأم والأب ، والزوجة  والأبناء  تعودوا على الحزن والفراق ، تراجعت المشاركة الجماهيرية والشعبية ، نحن بحاجة إلى أطباء نفسانيين ليوقظوا فينا الوعي والإدراك لخطورة ما يجرى  ، فقد تعطلت نصفا كرتي الدماغ ، تعود الناس على الوداع ليبق الهم ويطول الفراق، ويصبح غريبا أن يمر يوما دون شهيد أو جريح أو دمار ... من عليه الدور يا شباب ؟؟ الموت قادم بلا هدف واضح ، الوطن بحاجة للتضحية من اجله وليس من أجل المساومة عليه  ، وما جدوى التضحية إذا كان الكبار مهمتهم تسجيل عدد الشهداء في سجلاتهم  ، نعيش في زمن المتاجرة بأرواح الناس ، المزاد العلني ابتدأ  ، كم شهيدا لك وكم شهيدا لي ؟؟  كم معتقلا لك وكم معتقلا لي ؟؟  كم معاقا لك وكم معاقا لي ؟؟ كم أرملة لك وكم أرملة لي ؟؟ كم صاروخا أطلقت ، وكم صاروخا أطلقت على ؟؟ كم من الوطن لك وكم من الوطن لي ؟؟  كم يستخدموننا الكبار في الساحة الإقليمية والساحة الدولية ؟؟   لم يتوقف المزاد يا شعبا تقطعت أوصاله ، وانتهكت مقدساته ، ولم يصرخ  أحد كفى تضليلا وخداعا ، ولم يرفع أحد صوته عاليا إلا القليل الذين لم يستمع إليهم  أحدا ليعلن بهذا الكم الهائل من التضحيات والشهداء والمعتقلين والمعاقين والأرامل ... الخ  كم اقتربنا من تحقيق أهدافنا الوطنية ؟؟  وكم حققنا في تقرير المصير ، وإقامة دولتنا المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس ، وعودة اللاجئين لديارهم طبقا للقرار 194 ؟؟   وكم نجحنا في  وقف الاستيطان  واقتلاع المستوطنات  من أرضنا؟؟  وكم أوقفنا بناء جدار الفصل العنصري ؟؟ وكم قدمنا من دعم معنوي ومادي لأهلنا في مدينة القدس لمنع تهجيرهم وتثبيتهم على أرضهم وإفشال مخطط تهويدها ؟؟  وكم استطعنا أن نبنى مجتمع القانون والتعددية السياسية  والمؤسسات للدولة العتيدة ؟؟ كم يأسنا في لملمة الجراح وإعادة اللحمة الوطنية وإنهاء الانقسام وإعادة غزة إلى حضن الوطن وما البديل  ؟؟  وما هو دورنا في  تفعيل مؤسسات  منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد ، وفى مقدمتها المجلس الوطني والمجلس المركزي واللجنة التنفيذية ، وتطبيق اتفاقية القاهرة ووثيقة الاستقلال الوطني، ووثيقة الأسرى ( وثيقة الوفاق الوطني )  ؟؟ ، كم مارسنا حقنا  كمواطنين لتحقيق أهدافنا الاجتماعية والديمقراطية ؟؟؟ وكم ، وكم ، وكم ،؟؟  لقد تراجعت القضية الفلسطينية ، وفقدنا الدعم السياسي والمعنوي من الأصدقاء والمناصرين لقضيتنا على المستوى الاقليمى والدولي ،   وحرفتم النضال الحقيقي عن ما يجرى في الضفة الغربية ، وحولتم غزة  إلى مجموعات من المتسولين ، وإلهاكم التكاثر والمغانم ، فأضعتم بوصلة الوطن ،ولم يعد يهمكم سوى رصيدكم في بنك بيع الوطن والمتاجرة به ، وحولتم الإنسان الفلسطيني  إلى أرقام وإحصائيات  وهو أغلى قيمة للوطن .
يا شاعرنا الكبير محمود درويش بالأمس حاصر حصارك .. واليوم حاصر حصاري  ...أيها الجالسون على صدر الوطن .. كفى تلاعبا بمصير الوطن .. كفى متاجرة بالحصار ...  توقفوا عن خديعة الناس بالحصار ، فلن تنجح دعايتكم وشعاراتكم مهما حاولتم تزيينها بالمقاومة أو الصمود ، تحاصرون عليا  وأبا ذر الغفاري ، وسبارتاكوس وعروة بن الورد وابن خلدون ، وجيفارا ، وأبا  عمار، وأبا على مصطفى ، وبشير البرغوتى واحمد ياسين ،  وفتحي الشقاقى ، وكل القادة الشهداء  .... الخ  تحاصرونهم وهم في قبورهم فهل حصار الشعب والوطن والقضية هو من أولوياتكم  وخططكم  لتنالوا الشرعية  والثناء  وفوائد السمسرة ؟؟

طلعت الصفدى غزة – فلسطين

 talat_alsafadi@hotmail.com