الفن الساخر!بقلم- طلعت الصفدى

2008-06-12

فن الكاريكاتير من الفنون والرسوم الساخرة النابض بالحياة، له جماهيره العاشقة والناقدة ليس بسبب أن هذا الفن الابداعى يعكس هموم الناس، ويتلمس واقعهم بعمق، وتفاصيل حياتهم اليومية بجرأة وشجاعة، ويعرى زيف الطبقة الحاكمة السلطوية فقط بل لقدرته أيضا على اختراق النفس البشرية، وتعبيره عن أعماق أعماق وعيها، ويصرخ بأعلى صمته عبر الريشة والحركة والشكل، ويفضح ما يتعرضون له من قهر وتعسف تطال حتى لا وعيهم المفقود.

تغلغل هذا الفن بين الجماهير والمثقفين كأنهم يبحثون عن من يتنفس عنهم في حالات الضعف والوهن، وتعمدت به وسائل الإعلام الرئيسة وفى مقدمتها الصحافة بأنواعها وأشكالها، وفتحت نوافذها للنقد الشجاع والبناء ،وتسابقت معها صفحات المواقع الالكترونية ومنتديات الانترنت المتنوعة.

نجح هذا الفن في أن يغرس أصابعه في المجتمع، والتفكير البشرى وكل مظاهر الحياة حتى البيروقراطية والرتيبة منها، وأن يواجه مظاهر الفساد، والرشوة، والمصالح الأنانية الخاصة، وتفريخات الإسلام السياسي وأدواته غير الديمقراطية، وإجراءات القمع والرعب التي تمارسه أنظمة الحكم الاستبدادية والديكتاتورية، والأنظمة الشمولية وأجهزتها القمعية والمخابراتية.

لقد لعب فن الكاريكاتير دورا هاما بعد النكبة الفلسطينية والتشرد عام 1948، وتعزز دوره مع احتدام الصراع ضد الامبريالية البريطانية والحركة الصهيونية والرجعية العربية،معبرا بصراحة عن حالة الإحباط التي انتابت الجماهير العربية جراء الهزائم السياسية والعسكرية المتتالية التي لحقت بالجيوش العربية، وفقدان الثقة بالأنظمة العربية وقياداتها المسئولة عن تردى الأوضاع السياسة والاجتماعية في المجتمعات العربية، وعجزها عن الخروج من أزماتها الطاحنة، وفقدانها لسلطة العقل والتنوير وبرامج التنمية المستدامة.

انخرط الفنانون الفلسطينيون مع الفنانين العرب في معركة التحرر الوطني والاجتماعي والديمقراطي، فكان فن الكاريكاتير سلاحا فكريا وتحريضيا وتعبويا للجماهير، وفي مقدمة الأسلحة الثقافية والتحريضية ضد الواقع الماساوى الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، وشاركوا بلوحاتهم الساخرة في ميادين المعارك المختلفة، خصوصا في معركة التصدي للمشروع الصهيوني في فلسطين والمنطقة العربية، ولم يغفلوا في هذا الصراع دفاعهم عن مصالح الجماهير الشعبية وكل المسحوقين وفى مقدمتهم المرأة والعمال والمزارعين والطلاب وشملت إبداعاتهم كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية والإنسانية، ولم تلهيهم القضية الوطنية والسياسية عن نضالهم الاجتماعي والديمقراطي والثقافي فكانت إبداعاتهم ورسومهم الكاريكاتيرية تتناول وتتصدى لكل المظاهر السلبية السائدة في المجتمع، والحياة اليومية للمواطن العادي، وقضايا البطالة وارتفاع الأسعار والتعديات على المواطنين، ... الخ، ودافعوا بصلابة عن منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الهوية والكيانية للشعب الفلسطيني، وعن التراث الفلسطيني والحضاري، وسيادة القانون، واحترام النظام السياسي الفلسطيني ومؤسساته الشرعية، ورفضوا محاولات تكميم الأفواه، والاعتداء على الحرية الشخصية للمواطنين،وحقوق المرأة والأطفال، وحرية التعبير والرأي والصحافة، كما رفضوا تسييس الجامعات والمساجد ،وركزوا على إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية ,وتوحيد الجبهة الداخلية ورص الصفوف، وتحييد أجهزة الأمن الفلسطيني عن التجاذبات الفصائلية والفئوية.

إن رسامي الكاريكاتير في العالم العربي شغلوا الناس والمثقفين في الآونة الأخيرة عبر سهامهم الإبداعية الحية التي صوبوها إلى السياسات المنحازة للعولمة المتوحشة والامبريالية الأمريكية وإسرائيل،وكل مساوئ النظام الرأسمالي، والقوى الخانعة والرجعية في العالم العربي، وتراجع القوى السياسية القومية والديمقراطية، وعجزها عن إحداث عملية تغيير حقيقية في المجتمع العربي.

انحاز هؤلاء الرسامون بأقلامهم وأوراقهم وريشتهم إلى شعوبهم فكانت أسلحة مقاومة، تحولت رسوماتهم إلى قذائف مدوية تفضح الممارسات اللاانسانية لأنظمة الحكم الاستبدادية وعكست لوحاتهم المرارة والضياع وفقدان الثقة بهذه الأنظمة التي لم تأت عبر انتخابات ديمقراطية، وفشلت حتى الآن في تقديم نموذجا حضاريا وديمقراطيا.

إن من أبرز رسامي الكاريكاتير الفنان الشهيد ناجى العلى الذي اغتيل بالرصاص في آب أغسطس عام 1987 في لندن هذا الفنان الذي انتقد الثورة الفلسطينية بجرأة وبشجاعة بقوله ' في الوقت الذي فيه الإعلام العربي الرسمي وغير الرسمي يطبل ويزمر للثورة الفلسطينية كنت أنا اليتيم الذي ينتقد الثورة ليس تطاولا أو وقاحة، بل خوفا وقلقا عليها '، وكانت الثورة عند ناجى العلى ' أخلاق وذوق ومثل، والعروبة أخوة حقيقية، ولهذا بالضبط لم ينخدع ناجى بالشعارات.

ناجى العلى الذي عبر عن الفقراء عبر طفله( حنظله الشقي) لم يكن محايدا بل نصيرا للفقراء والكادحين والمعذبين في الأرض ومعبرا ليس عن الضمير الفلسطيني فحسب بل عن الضمير العربي والانسانى فكان عالميا بجدارة انه صاحب شعار ' لا لكاتم الصوت '.

إن فنان الكاريكاتير هو إنسان صاحب موقف وقضية، قريب إلى قلب الجماهير يعبر عن آمالها وطموحاتها وما يفرحها، وما يحزنها فهذه الفنانة الفلسطينية أمية جحا زوجة شهيد الأقصى( صحيفة الحياة الجديدة) المبدعة والمتفجرة في وجه الظلم القومي والاعتداءات الصهيونية المتكررة على شعبنا تفضح أفعاله الإرهابية، وفى نفس الوقت تتفاعل ريشتها ضد الظلم الاجتماعي والفلتان الأمني والاخلاقى وخطورة الصراع الداخلي، والفنان بهاء البخاري( صحيفة الأيام) يعبر بريشته عن الهم الوطني والاجتماعي، يتناول بريشته الكاريكاتيرية كافة القضايا دون خوف ولا وجل، ويمتلك الجرأة والشجاعة في طرح ما يهم المواطنين، ولم ترهبه الإجراءات التي اتخذت بحقه وكان نتيجتها منع وصول صحيفة الأيام إلى غزة قرابة الشهرين.

وهاهو الفنان المبدع المهندس ماجد بدرة يلتحق بصفوف رسامي الكاريكاتير يجسد بلوحاته الفنية وبريشته وخطوطه التزامه بقضايا شعبه ووطنه، متمسكا بالأرض والهوية الوطنية، يفضح ممارسات الاحتلال وإجراءاته الإرهابية، والحصار وإغلاق المعبر... الخ يسلط الضوء على الجبهة الداخلية، ومظاهر الضعف في المجتمع الفلسطيني التي تعيق تحقيق أهدافه الوطنية والاجتماعية والديمقراطية، يتناول بريشته الواقع الماساوى الذي يعيشه شعبنا من انتهاكات لحقوق الإنسان الفلسطيني نتيجة الانقلاب على الوطن، والصراع على السلطة، وتشكل ريشته ورسوماته أداة تعبئة وتحريض ضد الظلم والقهر القومي والطبقي.

وإذا كان الفكر هو انعكاس للواقع والحياة، فان الفن الابداعى بكافة أشكاله هو انعكاس للواقع المتغير والعاصف، يفرض نفسه على وعى وتفكير المبدعين، ولا يمكن أن يكون فنا إبداعيا وإنسانيا إذا جافى الواقع أو تجاهل حركته وتناقضاته وإذا لم يعكسه بصدق وأمانة. إن الكاميرا وآلة التصوير الفوتوغرافية تصور الواقع في حالة السكون النسبي دون إحساس وإبداع فاقدة للحركة والصراع مع أن الواقع متغير متحرك متبدل، والفن المبدع يعمل على تغيير الواقع فليس المهم أن نفسر العالم بل الأهم أن نعمل على تغييره لخدمة الإنسان كما قال المبدع والعبقري كارل ماركس.

ولكن هل مع التطور التكنولوجي ووسائل الاتصال الحديثة سيفقد الفنان قدرته على إبداعاته الفكرية والفنية، أم أنه سيخضعهما وريشته لقوانين التصميم الالكترونية التي أصبحت في متناول الجميع؟!