الدولة المستقلة: رؤى وإستراتيجيات

2008-12-01

الدولة المستقلة: رؤى و استراتيجيات
( وجهة نظر حزب الشعب الفلسطيني )

بقلم تيسير محيسن
عضو المكتب السياسي
حزب الشعب الفلسطيني

توطئة

تفترض الدعوة إلى مؤتمر يناقش إستراتيجيات الدولة الفلسطينية المستقلة أن فكرة الدولة باتت قريبة التحقق، وبالتالي، من الطبيعي أن يكون للتنظيمات السياسية الفاعلة رؤاها المحددة وإستراتيجياتها الواضحة. وهو افتراض فيه نظر على كل حال. إن انشغال الكل الوطني بمسألة الوصول إلى الدولة (أي انجاز التحرر والاستقلال) جعل برامج التنظيمات تركز على تفاصيل إستراتيجية الوصول (الأهداف، الوسائل، التكتيكات) بينما لم تتضمن سوى ملامح عامة حول ماهية الدولة المنشودة؛ والتي يمكن اشتقاقها واستنباطها من المرتكزات السياسية والاجتماعية لهذه البرامج. تستند هذه الرؤية المقدمة باسم حزب الشعب الفلسطيني إلى وثائق الحزب الأساسية الصادرة عن مؤتمراته منذ إعادة تأسيسه في شباط 1982، والتي يمكن اعتبارها بحق ليس فقط إستراتيجية للوصول إلى الدولة، بل وإستراتيجية للدولة ذاتها.

انطوت مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني منذ البداية على هاجس البحث عن هوية وكيانية في الرد على المشروع الصهيوني الاحلالي، ومع ذلك لم يجمع الفلسطينيون على فكرة الدولة في وقت واحد، كما لم يتفقوا على إستراتيجية الوصول إليها وتحققها، وتباينت وجهات نظرهم بتباين مرجعياتهم الفكرية والسياسية، حول طبيعتها وما يجب أن تكون عليه. وإذا كانت فكرة التحرر تقتضي التركيز على البعد الكفاحي والسياسي، فإن فكرة الدولة تقتضي تعزيز البناء المؤسسي وتفعيل ديناميات التمثيل الاجتماعي والسياسي، وربط المسألة الوطنية بالقضية الاجتماعية. تفاوتت التنظيمات السياسية في تبنى رؤى وإستراتيجيات تجمع جمعاً جدلياً بين أفكار التوحيد وبناء الهوية والتحرر والدولانية، تفاوتاً أفضى في معظم الحالات إلى انقسامات كبيرة وشروخ عميقة، كما أفضى بالتأكيد إلى المباعدة بينهم وبين تحقيق أهدافهم، وأضاع عليهم فرصاً كثيرة كان من شأنها أن تعجل بقيام دولتهم العتيدة.

وبالرغم من أن فكرة الدولة لازالت – وقد أصبحت مجل إجماع الفلسطينيين بمختلف أطيافهم، وإجماع العالم أيضاً- بمثابة المحرض والملهم والهدف الأول لكفاح الشعب الفلسطيني، غير أن ثمة تهديدات جديدة وجدية تتراوح بين تأجيلها والإجحاف بمقوماتها الفعلية على الأرض، وبين إمكانية تقزيمها وتفريغها من مضمونها. وربما لهذا السبب بات على التنظيمات الفلسطينية أن تطور إستراتيجيات للدولة العتيدة تبتعد عن التجريدات الأيديولوجية الغائمة، وعن التصورات الطوباوية وترتكز على ما أنجز من فكرة الدولانية وتحافظ عليه، وعلى ما يمكن ويجب تحقيقه، وفي هذا السياق عليها أن تتجنب السلوك السياسي المدمر الذي يوفر الذرائع للاحتلال من جهة، ويفقد الفلسطينيين تقدير العالم لجدارتهم وأهليتهم.

رؤية حزب الشعب الفلسطيني:

يصعب القول أنه كانت لحزب الشعب الفلسطيني وأسلافه في عصبة التحرر الوطني والحزب الشيوعي على الدوام إستراتيجية واضحة بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية مبنية على أساس القراءة الموضوعية للواقع وبعيداً عن التجريدات الطوباوية والتأثيرات الخارجية، غير أنه بالإمكان الزعم أن سلوكهم ومواقفهم ورؤاهم اتسمت في الغالب بالواقعية السياسية، وبعدم إغفال القضايا الاجتماعية وبالوعي المبكر بضرورة بناء الذات الوطنية وانبعاث الشخصية الفلسطينية ليس عبر الكفاح المسلح فقط، بل بالتشديد على الطابع الشعبي والجماهيري للكفاح الوطني وبالانحياز إلى الفئات والطبقات الاجتماعية الفقيرة والكادحة. وكانوا من أوائل الداعين إلى إقامة دولة مستقلة، والإسهاب في تحديد طبيعتها وسماتها، بالاستناد إلى إلهام الأيديولوجيا الماركسية ومقاربة تجارب تحررية مشابهة، وإلى وعيهم الجدلي وقدرتهم على محاكمة الواقع والتجربة العملية واستخلاص الدروس والعبر. أدرك الشيوعيون مبكراً كذلك أن "النضال من أجل الحرية والاستقلال لا يمكن أن ينفصل عن النضال من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي" ولذلك تعهدوا في مؤتمرهم الثاني 1991 بتطوير علاقات الحزب مع كل القوى المعنية بقيام دولة فلسطينية ديمقراطية تطمح إلى التقدم الاجتماعي وتصان فيها حقوق الإنسان، وتسود فيها حرية الفرد والمؤسسات النقابية والجماهيرية، وتمارس من خلالها الديمقراطية عبر نظام برلماني انتخابي حر يضمن التعددية الحزبية والسياسية ويقوم على أساس حق الاقتراع العام" ورفعوا شعار "من أجل الدولة الفلسطينية المستقلة" في مؤتمرهم الثالث وشددوا على اعتبار النضال من أجل مشروع مجتمعي ديمقراطي جزءاً من النضال من أجل إنجاز الاستقلال الوطني، أما مؤتمرهم الرابع وما تمخض عنه فيمكن اعتباره بمثابة رؤية استشرافية للدولة العتيدة وفي ذات الوقت إستراتيجية واضحة للوصول إليها وتحقيقها في الواقع، مشددين على أن تعزيز الديمقراطية والمشاركة الشعبية وتلبية المتطلبات الاجتماعية باتت أساساً للنجاح في تحقيق التحرر الوطني.

ملامح إستراتيجية الحزب كما حددها مؤتمره الرابع (2008)

اولاً: منطلقات و مبادئ

1- المرحلة الحالية هي مرحلة التحرر والاستقلال وأبرز أهدافها: إنهاء الاحتلال العسكري والاستيطاني وإقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية المستقلة وكاملة السيادة على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967

2- تعزيز الديمقراطية والمشاركة الشعبية وتلبية المتطلبات الاجتماعية باتت أساساً للنجاح في تحقيق التحرر الوطني

3- الانتفاضة والمقاومة الشعبية هي الشكل الأنسب لكفاح الشعب الفلسطيني وتحقيق أهدافه الوطنية المشروعة

ثانياً: الموقف من الدولة المستقلة

حدد برنامج الحزب الأسس القانونية والسياسية لقيام الدولة ومقوماتها كالتالي؛ حدودها هي كامل أراضي الضفة الغربية المحتلة عام 1967، بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة. وأن القدس الشرقية هي عاصمتها، وأنها دولة عربية وجزء لا يتجزأ من الأمة العربية، وأن ممارسات الاحتلال وسياسة فرض الأمر الواقع لن تثني الفلسطينيين عن استمرار نضالهم من أجل إقامتها مستقلة وكاملة السيادة. وحول طبيعتها أعلن البرنامج تمسكه بما نصت عليه وثيقة الاستقلال:

1-  أنها للفلسطينيين جميعاً وأينما كانوا يطورون هويتهم الوطنية والثقافية فيها

2-  فيها يتمتعون بالمساواة الكاملة في الحقوق، وتصان معتقداتهم الدينية والسياسية وكرامتهم الوطنية

3-  تتبنى نظاماً ديمقراطياً برلمانياً على أساس حرية الرأي وحرية تكوين الأحزاب

4-  تكفل فيها سيادة القانون في ظل دستور مستوحى من تراث فلسطين الروحي والحضاري

5-  تؤمن بمبادئ العدل الاجتماعي والمساواة وعدم التمييز في الحقوق العامة

رابعاً: الموقف من م.ت.ف

تجديد بناء هيئات منظمة التحرير على أسس ديمقراطية وتفعيل دورها والمحافظة على استقلاليتها والحؤول دون ذوبانها في أجهزة السلطة الفلسطينية ومنع تهميشها وتجميدها. ضمان استمرار المنظمة والاضطلاع بدورها حتى في ظل السلطة أو الدولة المستقلة لتوثيق العلاقة بين جناحي الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، وضمان مشاركة اللاجئين في الحياة السياسية والدفاع عن مصالحهم وحقوقهم.

خامساً: طبيعة النظام السياسي الفلسطيني

ضرورة إصلاح النظام السياسي بما يضمن الديمقراطية والتعددية الحقيقية، كما يقتضي اعتماد الديمقراطية والانتخابات الدورية أساساً لكافة المؤسسات التشريعية والرئاسية والمحلية ومختلف مؤسسات المجتمع المدني وفق قانون انتخابات نسبي كامل. نظام سياسي يقوم على نبذ التفرد والاستئثار وعلى فصل السلطات والتداول السلمي للسلطة، وضمان التعددية والحريات.  

سادساً: في المسألة الأمنية

إعادة تشكيل قوى الأمن المختلفة على أسس مهنية محضة بعيداً عن الفئوية والفصائلية. مع فرض سيادة القانون، والحفاظ على أمن المواطن ووقف كافة مظاهر التعديات على المواطنين وممتلكاتهم وحرياتهم ووقف كل أشكال الانفلات الأمني المرتبط بها، بما في ذلك المحاسبة عن أية مخالفات يتم ارتكابها باسم الأجهزة الأمنية وغيرها، والإقدام على كل التغييرات المطلوبة لتنفيذ ذلك.

سابعاً: المرتكزات الأساسية للمشروع المجتمعي

يرى حزب الشعب أن التداخل بين مهمتي النضال الوطني والبناء على الجبهة الداخلية يجعل من إقامة مجتمع ديمقراطي فلسطيني رافعة نجاح النضال ضد الاحتلال.

الإصلاح الشامل

يرى الحزب أن التقدم نحو الاستقلال الوطني يتطلب إحداث السلطة الوطنية تغييرات جوهرية على نهج عملها وسياساتها، تغييرات تتناول بنية ونظام عمل مؤسساتها، وتشمل تعاملها مع الجماهير ورعاية وخدمة مصالح هذه الجماهير (وضع قوانين ذات صبغة دستورية، ضمان سيادة القانون، قيام دولة القانون والمؤسسات، مواجهة الولاء العشائري والجهوي نحو تعزيز الاندماج والوحدة الوطنية الحقيقية،...)

الحفاظ على الأرض

أفرد الحزب لأول مرة ضمن إستراتيجيته (برنامجه السياسي) فقرة تفصيلية عن الأرض وحمايتها في وجهة المصادرة والضم وذلك عبر مجموعة من الإجراءات والتدخلات (إقرار قوانين وتشريعات، تخصيص مزيد من الموارد، تشجيع المبادرات المجتمعية، الاستثمار في الزراعة ودعم المزارعين،...)

التنمية الاقتصادية

قدم الحزب رؤية متكاملة حول التنمية الاقتصادية تقوم على أساس السعي إلى بناء اقتصاد وطني يتخلص من التبعية للاقتصاد الإسرائيلي، ويملك مقومات النمو الذاتي، كما يفترض تكامل دور الدولة مع القطاع الخاص وتشجيع الاستثمار وضمان تكافؤ الفرص ومحاربة الفساد، إعادة تطوير وتأهيل البنية التحتية، ودعم التجارة الخارجية وحماية حقوق العاملين والكادحين. وبخصوص مشكلة البطالة، يرى الحزب أن الحل يكمن في: (أ) رفع الحصار الاقتصادي على عمالنا والسماح لهم بحرية التنقل (ب) الدفاع عن حقوق العمال والشغيلة وجميع العاملين بأجر (ج) استخدام جزء من أموال الدعم لعلاج مشكلة البطالة (ح) تحسين إنتاجية العمل (تحديد سياسة للأجور، أجور متساوية للنساء، وقف تشغيل الأحداث، قوانين للتعويض وللعمل والخدمة المدنية والضمان الاجتماعي). (د) توحيد الحركة النقابية وتمكينها من القيام بدورها.

التنمية الاجتماعية

يدعو الحزب إلى تبني سياسة اجتماعية تحمي الفقراء والعاطلين عن العمل والفئات المحتاجة وتشتمل على تدابير حمائية ووقائية وتمكينية. وقدم مخططاً تفصيلياً حول موضوعات الصحة والإسكان والثقافة والشباب والمرأة والطفولة. وشدد على ضرورة إنشاء صندوق الضمان الاجتماعي وكافة صناديق الضمان الأخرى، أما في مجال التعليم، فقد دعا الحزب إلى: (أ) وضع منهج تعليمي فلسطيني متطور وذي مضمون وطني ديمقراطي (ب) تطوير العملية التربوية والتعليمية في مجالات التدريب والتأهيل  وتجهيز المدارس وتوسيعها (ج) العناية بأحوال المدرسين وتحسين مستوى معيشتهم وزيادة رواتبهم ورفع كفاءاتهم وضمان حرية التنظيم النقابي لهم (د) وضع فلسفة وسياسة للتعليم العالي تركز على الجانب التطبيقي والبحثي وبما يتلاءم مع حاجات المجتمع الفلسطيني والتشديد على الربط بين التعليم الجامعي والمجتمعي واحترام حرمة الجامعات (ر) تأمين مجانية التعليم الجامعي لأبناء الشهداء والأسرى.

خلاصة:

يؤمن حزب الشعب الفلسطيني بأن الإستراتيجية الأفضل لتحقيق هدف الدولة تشترط بالضرورة تضافر الركائز والوسائل التالية: (أ) مواصلة الكفاح الشعبي والجماهيري بمضامين جديدة (ب) تعميق البناء المؤسساتي بمضامين ديمقراطية وعصرية (ب) تعزيز فرص التنمية من منظور إنساني شامل، استناداً إلى سياسة واقعية ووحدة وطنية راسخة.