صلاح حزيّن:الجياد تموت أيضا! - بقلم: وليد ابو بكر

2009-08-09

صلاح حزيّن: الجياد تموت أيضا !

الكاتب: وليــد أبــوبكــر

ربما حضرنا فيلم "إنهم يقتلون الجياد: أليس كذلك؟" في وقت متقارب: كان صلاح حزيّن مغرماً بالسينما الجيدة، متابعا شغوفاً لها. وعندما تناقشنا حول الفيلم، وما كتبته عنه في حينه، لم ينكر أهميته، لكنه قال إن رواية هوراس ماكوي التي قام عليها، تمنح متعة أكبر: كان صلاح حزيّن مغرما بمتابعة الرواية الجادة حيث توجد، وكثيرا ما كان ينصح أصدقاءه بما يصدر منها، في أيّ مكان.

هذا الاهتمام برز من خلال ترجمته التي تثير الإعجاب لرواية الفيلم، وقبلها لرواية جوزف كونراد "قلب الظلام"، التي غبطه كثيرون على الطاقة التي بذلها في ترجمتها، وهي طاقة يعرف أصدقاؤه أنه يملكها دون ادعاء، لا لأنه درس اللغة الإنجليزية في جامعة دمشق وحسب، ولكن لأنه لم يتوقف عن التعامل معها، خصوصا عن القراءة والترجمة، وكثيرا ما كان يعمد إلى شرح بعض غموضها، حين تدعو الضرورة إلى ذلك.

وعندما عُقد في رابطة الخريجين في الكويت مؤتمر كبير عن فلسطين أواخر ثمانينيات القرن الماضي (نشرت أبحاثه بعد ذلك في كتاب ضخم)، تحدّث صلاح حزيّن عن الرواية الإسرائيلية: كان أيضا متابعا جاداً للكتابة الإسرائيلية بكل تفرّعاتها. وقد قرأت مداخلته بشكل مسبق، كمعقِّب مكلَّف، فأذهلتني معرفته بالأدب الإسرائيلي من ناحية، وبالتكوين الإسرائيلي ذاته، سياسيا وعسكريا وثقافيا، من ناحية أخرى. كان هو الذي عرّفني على هذا الأدب بعمق، ثمّ دفعني إلى متابعته. وحين شاركت في مؤتمر الأدباء العرب (1992) بمداخلة عن "صورة العربي في الأدب الإسرائيلي" (تحوّلت بعد ذلك إلى كتاب)، وفّر لي معظم المصادر، وكثيرًا من المشورة التي لولاها ما كنت بدأت.

كنا معاً في جريدة "الوطن" الكويتية لسنوات، وكان محرّراً مسائيا للأخبار السياسية: هو يتقن العربية من ناحية، ويتقن فنّ صياغة الأخبار الصحافية من ناحية ثانية. وعندما التحق بمجلة "العربي"، أوسع المجلات العربية انتشارا، وأكثرها محافظة على مستواها، أثبت أنه واحد من أبرز من يكتبون التحقيق الصحافي الذي امتازت به المجلة، ومن أجله طاف معظم بلدان العالم، ولم يضع فيها وقتا؛ كان يبحث عن الثقافة الجادّة والمثقفين الجادين، وعن كثير من الكتاب الذين نسيهم زمنهم العربي. وعمد صلاح حزيِّن إلى تقديم بعضهم في زاوية "العربيّ" الشهيرة "وجهاً لوجه"، ومن بينهم صديقنا المشترك، الروائي الكبير جدا، غائب طعمة فرمان، الذي رحل في أرض غريبة، قبل أن تدرك أمته قيمته.

حين غادر الكويت، مع من شتتهم الاجتياح العراقي، قاوم الصدمة بقوة، وعمل بجدّ في كلّ اتجاه: أثبت أنه محرّر اقتصادي بارع في صحيفة "الحياة" اللندنية، وهو يكتب لها من عمّان، وعمل محرراً سياسياً في عدد من الصحف، وناقداً أدبياً في كثير من الدراسات، ومشاركاً فعالاً في النشاط الثقافي، وفي رابطة الكتاب الأردنيين، كما عمل في الترجمة لفترة، قبل أن تحطّ به الرّحال مع صديقه محمود الريماوي في صحيفة "السِّجل" التي سجلت لنفسها حضوراً سريعاً في الصحافة الأسبوعية الأردنية.

وحين أصيب ولده غسان، الصحافيّ الشاب النابه، في حادث، برفقة المخرج السينمائي ميشيل خليفي، أفقده الوعي منذ سنتين، وحتى اللحظة، قاوم الصدمة، كما قاوم غيرها، وظلّ واقفاً كحصان أصيل، كما ظلّ واقفاً حين أصابه المرض اللعين، وحاول أن يهزمه، وهو يعرف أنه لا يهزم.

لم تكن الشجاعة في مقاومة الصدمات ميزة صلاح حزيّن الوحيدة: كانت له سمات قلّ أن تلتقي في فرد، من ثقافة موسوعية في كلّ شأن أدبيّ أو سياسي أو اقتصادي أو عام، إلى صداقات دائمة لا تعرف الخلل، إلى مواقف فكرية لا تتحوّل، لأنها دون تلوّن ولا ادعاء. كان شخصية فريدة تماماً: هذا ما قيل عنه وهو يتحرك بين الناس، وهو ما يقال كحقيقة لا يختلف فيها من عرفوه، بعد أن توقفت حركته.

صلاح حزيّن، بكلّ ما يمثله بالنسبة للثقافة الفلسطينية، وما يدور في فلكها، مرّ رحيله في بلاده عابراً تماماً، لأن بلاده تعيش زمناً لا تعنيه الثقافة الجادّة، ربما لأن الذين يملكون "أعنة" الثقافة في بلاده، لا يعرفون "الجياد" الأصيلة، أو لا تعنيهم هذه الجياد، حية أو حين تموت، لأنها أصيلة بالفعل، لكنها تعيش في زمن غير أصيل.

المصدر: عن الأيام

8/8/2009