هذا الجدل العقيم دخان يحجب ما خلفه ( 1 & 2 ) - بقلم: سعيـــد مضيـــة

2009-08-13

سعيـــد مضيـــة

هذا الجدل العقيم دخان يحجب ما خلفه

( 1 )

قل لصاحبك إني آتيه بجيش لا يميز أفراده الناقة من البعير، ما صاحبوا النبي وما استمعوا إليه وما حاربوا غزواته". أصل القول حكاية احد أتباع علي جاء دمشق مع ناقته في زمن تلا انتهاء معركة صفين، وتعرف عليه أحد أبناء دمشق، فطمع في سلب الدابة. أشهد  الدمشقي نفرا من معارفه بان الدابة هي بعير له فقده في صفين، وتوجه مع الدابة ومالكها والشهود إلى معاوية ، الذي قضى سريعا بأن "يسترد" المدعي جمله. صاح صاحب الناقة  قائلا إنها ناقة وليست بعيرا؛ نهره الخليفة كيف يرفع صوته أمام الخليفة معترضا؛ ثم دبر الاختلاء به  لينقده ثلاثة أضعاف ثمن ناقته ويبلغه الرسالة إلى الإمام علي.

تدرع معاوية بتأويل مفترى على الإسلام اتخذه درعا من جبرية يدعي من خلالها أن الله أراد هذا ، ولو لم يرد الله لما تحكم معاوية بالعباد. ومنذ ذلك الحين بات الإسلام رهينة بأيدي السلاطين الظلمة، وتأويلا جبريا ُ اتُخِذ فلسفة للحكم عبر تاريخ طويل من الاستبداد الظالم الجهول واستلاب الجماهير .  قبل معاوية ومن بعده استمر التجهيل تزييفا للوعي ورديفا  للجور والاضطهاد والاستلاب. استمر قهر الإنسان وهدر كرامته وعقله وطاقاته المادية والروحية أدوات ناجعة بأيدي قوى المحافظة في مكافحة قوى التغيير. عبر ألف وثلاثمائة عام متواترة تعزز الجور بالجهل في استتباب الأمر للسلاطين المستبدين في أمور المسلمين. لعب المشعوذون والدراويش وأصحاب الطرق الصوفية دورا في نشر التوكلية والجبرية والاستجارة بالمزارات والقبور والحجب لدفع الأذى وتوسل المنافع.
  
سجل المنور الفلسطيني الدكتور توفيق كنعان شهادات على انتشار السحر والشعوذة والتعلق بالبركات في ربوع فلسطين في ظل سلاطين بني عثمان حتى مشارف القرن العشرين. أما ابرز الشهادات ضد الوعي المتخلف والمستلب فقد قدمها الدكتور طه حسين في  كتاب مذكراته الشهير " الأيام". قدم العميد في لغة ساخرة صوراً نمطية للجهالات المطبقة على المصريين، خاصة في الريف ، هي عينة لتوصيف أوضاع الجماهير المسلمة في أعقاب حقبة الظلام التي امتدت لأكثر من ألف عام، ثم اصطدمت بغزو الأوروبيين وهيمنتهم الكولنياية التي أعاقت التطور الاجتماعي وعززت التخلف في الديارالعربية ـ الإسلامية كافة.    

يقول طه حسين في الجزء الأول من " الأيام" عن شيوخ الطرق المنبثين في الأرياف يأخذون العلم " اللدني" (هلوسات تأملية لا تستند إلى حقيقة أو واقع) من أهل الطرق ،" فكأنه الوحي الهابط على قلوبهم من غير كتاب ينشرون الفرقة بين الناس. شيخ يعمل خياطا وهو توأم للشح ، وذاك شيخ كان حمّارا ثم غدا تاجرا واكل وشبع من أموال اليتامى، ويبدو أن هذه الأموال كانت عنده مستثناة معفاة من الآية الشهيرة التي كان الشيخ يكثر منها ترديدا وتفسيرا : (إن الذين يأكلون أموال اليتامى إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا)". أما الفقهاء وجلهم من المكفوفين فهم "حملة كتاب الله ورعاته" حسبما تسعفهم القريحة ، وكان سيدنا في الكتّاب أفطنهم! لهذا فعندما سأله طه ذات يوم ما معنى القول الكريم " وخلقناكم اطوارا" أجابه برزانة وهدوء " خلقناكم كالثيران لا تعقلون شيئا".

ينتقل الصبي طه عام 1902 إلى الأزهر،وكان في الرابعة عشرة من عمره. وفي أول درس يستمع إليه من الشيخ البخيت ، وهو من ألمع شيوخ الأزهر، " أقسم طه أنه احتقر العلم منذ ذلك اليوم... وستكون سنواته الأزهريات صراعا لا هوادة فيه ، وخيطا ممتدا لهذه الخيبة التي تراءت له منذ الإطلالة الأولى". وفي صباح اليوم التالي يستمع إلى درس في الحديث " وفي هذا الدرس تمتد العنعنة وتتتابع فيداخله السأم ، إلى أن يبلغ المدرس الحديث نفسه فيتلقفه صبينا طه ويفهمه ويحفظه، لكنه يعرض عن تفاسير الشيخ فهي لا تأتيه بجديد وليست خارجة عما كان يسمعه هناك في ريفه الصعيدي". كان الإمام المصلح محمد عبده قد اقترح على الشيخ الأنبابي، شيخ الأزهر تدريس مقدمة ابن خلدون ؛ لكن الشيخ المولع بترك القديم على قدمه أجاب "إن العادة لم تجر بذلك"، جاهلا أن ابن خلدون درّسّ في الأزهر وأشاع أفكاره في رحابه في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي.

نتيجة شح المدارس وانحسار التعليم ، في ظروف سيطرة النماذج الاقتصادية المتخلفة، سادت الأمية وبات للإشاعة والخرافة والأساطير دورها في استلاب الإنسان المسلم وتخدير الوعي الاجتماعي. هذه المادة التي سجلها الدكتور توفيق كنعان وأسهب في توصيفها طه حسين، وليس الدين المفترى عليه، هي التي وضعت في مواجهة التغيير التقدمي للأقطار العربية والإسلامية. ومن جهة ثانية جرى استغلالها  في الدراسات الاستشراقية في الغرب، للتحريض على ازدراء الشعوب العربية وتبرير التحكم بمقدراتها وثرواتها في عمليات النهب الكولنيالي الضاري. في مرحلة الكولنيالية بات تزييف الوعي في عشرينات القرن العشرين صناعة الثقافة  الامبريالية ورسالتها.

فمع انطلاقة ثورة أكتوبر اهتز العالم القديم هلعا من شعارات الثورة. كان اخطر شعاراتها  دعوة شعوب الشرق للنهوض والإطاحة بعبودية النظام الكولنيالي، من خلال التحالف الاستراتيجي بين حركات تحرر شعوب الشرق وتطور الدولة السوفيتية ، وليد أكتوبر. شرعت الدعاية الامبريالية حملة مكثفة ضد الشيوعية وبلاد السوفييت. بادر مراسل صحيفة "التايمز"  البريطانية بتوجيه سؤال إلى الخليفة العثماني القابع في القسطنطينية حينذاك تحت حماية القوات البريطانية المرابطة في منطقة الدردنيل، عن موقفه من الشيوعية ، فأجاب أنها عدوة للإسلام . وفي القاهرة وجه نفس السؤال إلى شيخ الأزهر وقدم نفس الجواب . ومنذ ذلك الحين ارتبط الموقف المعادي للسوفييت بذريعة المحافظة على الدين التقاليد والأسرة. اتخذ الدين المؤول درعا ورهينة، ونشطت حملة من الأكاذيب والتلفيقات المؤولة للدين والمفترية على قوى التحرر والتقدم. لم تتشكل بعد تنظيمات ماركسية ولا كانت الصلات منتظمة مع بلاد السوفييت حتى يتم دحض الافتراءات. انتشر حتى أبعد القرى أن البلشفية إلحاد وإباحية وتهديم للأسرة. وتربت أجيال متتالية من المسلمين على أن البلشفيك لا يعرفون الزواج وتكوين الأسرة وربما يجامع الشاب شقيقته أو أمه. كان الشيوعيون يواجهون بهذه التهم حتى إطلالة النصف الثاني من القرن الماضي.

لم يردّ الشيوعيون على الافتراءات والدعوات الصادرة عن أئمة الجوامع بنسف الجوامع وتلغيم الحسينيات مثلما يفعل في الوقت الراهن الطائفيون أدعياء الدين. وما حمّل الشيوعيون الدين الإسلامي جريرة الاتهامات الباطلة والحملات المتجنية. فهم مع الدين مفترى عليهم . والمفتري لغاية في نفسه هو حلف شيطاني من أطماع النهب الامبريالي والتخلف المزمن ماديا وروحيا المطبق على المجتمعات العربية- الإسلامية. ألم يسهل تمرير الافتراءات واقع أن المرأة في الشرق متاع للرجل وبعض ممتلكاته، وكذلك الأبناء والبنات؟ وحيث أن الشيوعية تؤمم الملكية فمن ثم ينطلي على الوعي الساذج ما يشاع من أن بلاد السوفييت أشاعت النساء وهدمت الأسرة . ألا تسهل الأمية نشر الإشاعة بسرعة انتشار النار في الهشيم ، خاصة عندما تأتي الحكاية مثيرة للمشاعر؟ وحتى خمسينات القرن الماضي ظل منتشرا ذلك الانطباع المثير للمشاعرعن الشيوعية.

وعامل ثان ساهم في تعميق الفجوة بين الجماهير المسلمة والشيوعية، تمثل في تواصل تقليد العصر الوسيط بأن من يحكم يطاع وبأن المعارضة إن هم إلا خوارج وزنادقة يحق للسلطة اضطهادهم وإبادتهم. لم يكن معترفا بحق الاختلاف في الرأي ولا بمواقف التسامح والتحاور وديمقراطية الحكم. وترتب على الشيوعيين معاناة السجون وغرف التعذيب والاغتيال دون حماية من المجتمع وقيمه السائدة.

وفاقم المكابدة المريرة أن خطاب الشيوعيين استعصى على أفهام الجماهير التي تعيش اضطهادات العصر الوسيط، ولم تدخل عصر الصناعة الآلية كي تستدل على  "النضال البروليتاري" وتشارك الشيوعيين تطلعهم إلى "ديكتاتورية البروليتاريا" . بقي غريبا عن الوعي الاجتماعي، المقيد بقيم العصر الوسيط ومعاييره الاجتماعية، الخطاب الموجه بروحية مبادئ الأممية الثالثة وتجميد الديالكتيك الاجتماعي عند تجربة قديمة لبلدان الغرب. وكان لينين قد حذر شيوعيي الشرق أن عليهم أولا انتزاع شعوبهم من العلاقات الاجتماعية للعصر الوسيط وجهالاته وقيمه ويشرعوا في بناء أسس الحياة العصرية وترسيخ مفاهيمها وقيمها المستنيرة. وهي مهمات ينبغي إعمال العقل والبحث فيها لأنها لا توجد في كتب الشيوعية، ولا في الكتب القديمة. حقا، لم يعالج التراث الفكري العربي ـ الإسلامي مشاكل التخلص من الفقر والتخلف. كان من الواجب توجيه نيران النقد ضد مظاهر الأمية والاستلاب، ونشر المعارف العلمية لتخليص الجماهير، وإخراجها إلى أنوار المعرفة من خلال خوض غمار الحياة العامة والنشاط الاجتماعي كي تتعرف بنفسها على وعيها المشوه وتدرك استلابها  وتميز بالمعرفة الناجمة عن الممارسة والتجربة بين الزيف والحقيقة، ولكي تستوعب أن  المجتمع ومشكلاته لا تجد الحلول الجاهزة؛ إنما تخضع لنواميس وقوانين  تستنبط على هديها الحلول للمشاكل وقضايا التطور.

وفي مواجهة الشيوعية نشطت الحركات السلفية المنظمة، وعلى رأسها الإخوان المسلمون والفقه الوهابي. أسهم التعليم وطرق التربية السائدة في تقديم النقل على العقل وتنشئة العقل السلفي غير المبدع وغير المفكر، المعتمد على جهود الآخرين. لم ينتشر الفكر السلفي بفضل بلاغة دعاته ؛بل بفضل ترسبات التخلف في الوعي وهيمنة تقليد النقل على حساب العقل. باسم الدفاع عن الدين شنت السلفية حملاتها ضد الشيوعية، التي تجاوزت الحركات الماركسية إلى كل حركات التغيير الاجتماعي. وعلى غرار دعاية الحرب الباردة وصمت الحركات السلفية قادة حركات التحرر الوطني بالإلحاد. أضافت فريضة جديدة إلى فرائض الإسلام هي العمل من اجل الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة الإسلامية. ومن ثم وصمت بالإلحاد كل دعوة إلى الديمقراطية وتوظيف منجزات العقل واستثمار العلم في الحياة. وبلغ التعاون بين الامبريالية والسلفية ذروته أثناء التدخل في أفغانستان لمنع التطور الوطني الديمقراطي للشعب الأفغاني.

وكما تحقق بعد سحق النازية في الحرب العالمية الثانية، حيث فكت الامبريالية تحالفها مع الاتحاد السوفييتي، واشتبكت معه في صراع الحرب الباردة؛ فما إن تحقق الانتصار للتحالف في افغانستان حتى قلبت الامبريالية ظهر المجن لحلفائها السلفيين وأعلنت الحرب الساخنة عليهم.

ولضرورات الحرب ظهرت نظرية صراع الحضارات ووضع الإسلام على رأس قائمة أعداء الحضارة . في هذه الحرب لا يغيب عن وعي الامبريالية أن السلفية غالبا ما تحافظ على النماذج الاقتصادية المهيأة للارتباط بالتبعية الامبريالية والعولمة. وتحظى الدعاية السلفية بجاذبية للجماهير في ظروف الانكسارات وفشل المشاريع التنموية . بل وتلبس السلفية مظاهر التخلف والفقر والاستكانة للوضع المزري لبوس الدين وتروج لها بين الجماهير المحرومة. إنها تقدم نموذجا مؤولا للإسلام يسقط من أحكام الدين مبادئ العدل الاجتماعي ومهام التقدم ورعاية مصالح الشرائح الفقيرة من المجتمع. النموذج السلفي المؤول للدين يركز على فهم للدين يقصر اهتمامه على الزي  وأنماط سلوك تتعهد طرائق تفكير متزمت ومغلق. وتلك المظاهر تتخذ ذريعة للحط من المجتمعات العربية والتحريض على الهيمنة الامبريالية والتحكم في مقدراتها.

ثم نجد من يتصدى للدين مستفزا مشاعر المؤمنين دافعا للجمهور في أحضان من أول الدين واستثمره حماية للنهب الامبريالي والتخلف الاجتماعي للشعوب العربية.

يجري التستر بذلك على نماذج من الاقتصاد والحياة الاجتماعية تتفرع عنها أنماط من الوعي الاجتماعي تنأى بالجماهير عن قيم التنمية الاجتماعية والديمقراطية والتغيير الاجتماعي. كما تدعم تيار الليبرالية الجديدة  الذي أفرزته العولمة لتشن هجماتها على شعوب الشرق وقيمها الدينية والاجتماعية محملة إياها مسئولية الفقر والتخلف كي تغيب مسئولية النهب الامبريالي. باختصار هناك حرب علي العقول تهدف إلي تهميش الإنسان وإبعاده عن مسيرة التقدم والحضارة وتكريس الاهتمام بالطقوس والأشكال  المظهرية وليس المضمون والجوهر، والدخول في جدالات عقيمة، النصر والهزيمة فيها سيان . فهل نخوّض في هذه المتاهة ؟!‏

( 2 )



امتنع الماركسيون من الدخول في جدل حول الدين، ولم يستطع خصومهم من التقاط ولو جملة في أدبياتهم تجدف على الدين. بل إن البعثيين ، حسبما ورد في مذكرات البعثي السابق حسن العلوي، كانوا يحرقون أو يمزقون القرآن ويتهمون الشيوعيين بذلك لإثارة الناس ضد الشيوعيين واتهامهم بالإلحاد والزندقة والهرطقة وكل ما يدخل في باب تنفير الجماهير من خطابهم السياسي. ركز الشيوعيين في خطابهم وأدبياتهم على أن الصراع الحقيقي والرئيس يدور مع السيطرة الامبريالية ـ الرجعية على المقدرات الوطنية والقومية؛ وميزوا التناقض الرئيسي الجذري من التناقضات الثانوية، مؤكدين الحرص على عدم تطوير التناقضات الثانوية إلى رئيسة، لتغييب التناقض الرئيس مع الامبريالية وعملائها. وهذا التكتيك الصائب لم يفقد أهميته حتى يومنا هذا.

تحالف الماركسيون مع رجال الدين المستنيرين في العالم العربي، وربما قصروا في مجال نقد الفكر الديني وفقه العصر الوسيط. والبون شاسع بين الدين والفكر الديني، نظرا لما أقحم على الأخير من مفرزات الاستبداد السياسي. بالنتيجة لم يتطور الصراع داخل الفكر الديني، وربما جاءت محقة الانتقادات الموجهة للفكر الماركسي في هذا الصدد. والحقيقة أن الكسل الذهني أقعد الأحزاب الماركسية في العقود الأولى عن الدراسات البحثية في الواقع المتعين عموما، المادي والروحي. نشرت مجزوءة مبادرات ثقافية استهدفت تذكير الجمهور بماض مبدع وزاهر للثقافة العربية، استهلها المفكر الماركسي رئيف خوري بتطوير الفكر التنويري لعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني. أدخل التراث الديمقراطي والعقلاني والإنساني أحد روافد الثقافة الوطنية العربية .

وقام بجهد ملموس في هذا الميدان العلامة الفلسطيني، قدري حافظ طوقان ، في كتابه " العلوم عند العرب". كان قدري أحد أقطاب الجبهة الوطنية التي نجح الشيوعيون الأردنيون في تشكيلها أوائل عقد الخمسينات. كما أسهم في حقل الدراسات التراثية باحثون تقدميون من مصر والعراق وسوريا ولبنان وتونس والجزائر، إلى أن تكلل هذا الجهد بدراسة متكاملة قدمها الدكتور حسين مروة بعنوان " النزعات المادية في الفلسفة العربية ـ الإسلامية". تميز ت الدراسة ب تأكيد الطابع الاجتماعي التاريخي للوعي والثقافة، حيث ربط بصورة جدلية بين صعود وهبوط الثقافة العربية الإسلامية في العصر الوسيط وبروز نزعتها العقلانية ثم اندحارها وخمودها بالتفاعل مع تناوب الصعود والهبوط في الحياة الاجتماعية ودوران دواليب الحركة الاجتماعية.

روعي أن لا تظهر في الأدب التقدمي دراسات تشكك في المقدس، ليس لضرورة تركيز الجهد الدعائي ضد العدو الرئيس وحسب؛ إنما لأسباب كثيرة أخرى أهمها ما ينطوي عليه الدين الإسلامي من قيم روحية تدخل في صلب الثقافة الإنسانية. فإذ يحث الدين على العمل المنتج "إذا قامت القيامة وبيد أحدكم فسلة فليغرسها"، وإذ ينهى عن اقتصار التدين على العبادات، فإن الاستغراق في العمل المنتج يتيح للعمل بلوغ اقتدار معرفي من شأنه أن يسهم في بناء الروح، وتهذيب الوجدان؛ كما أن العمل المنتج يشكل الدينامو المحرك للتقدم الاجتماعي. وفي العصر الراهن ، حيث العلم والتقاني تسخر من اجل الأرباح ، وحيث العقل التكنولوجي يغفل الإنسان ويصحر الوجدان ، إذ يلغي الكيان الروحي، فإن الرد على النهم الاحتكاري للربح يكمن في القيم الروحية للدين والأدب والفنون عامة.

لاحظ أدجار موران في كتابه "تربية المستقل" إغفال الشرط الإنساني في التعليم والإنتاج العلمي ، وهو ما يتجلى في فصل العقل التقني عن الإنسانيات. يقول موران " أن القرن العشرين قد أنتج من الأوهام أكثر من أوهام أي عصر سبق" .

في ضوء هذا الخلل العضوي تستحق الإشادة دعوة المرجع الإسلامي محمد حسين فضل الله من أن "الدين لا يشكل دعوة خصومة ولا ينطوي على تعصب أو تطرف؛ فالخصومة في حقيقة الأمر ليست بين العلم وبين الوثنية واليهودية أو المسيحية أو الإسلام، ولا هي بين دين ودين، وإنما هي أعم من ذلك وأيسر ، بين السكون والجمود والتطور". إذن فالمواجهة الحقة يجب أن تكون بين السكون والحركة ، بين المحافظة والتغيير التقدمي؛ أما وضع العلمانية في مواجهة الدين فخطأ وخطر. يسند هذا الموقف ما تبين لعلم النفس الاجتماعي من أن التزمت والتعصب مظهران لحالة اجتماعية تضطرم بالاختلالات. العصاب مرض اجتماعي يتولد من الكبت والتأزم في ظروف الفاقة والقهر. والممارسات الجارية باسم الدين وتناقض دعوته للتسامح والمجادلة بالتي هي أحسن وبالحكمة والموعظة وتجنب الفظاظة وغلاظة القلب إنما هي وليدة واقع اجتماعي مأزوم لا يحتضن المكارم.

وكما شهد العصر لوسيط تحولات في فهم الدين مع تحولات الحياة الاجتماعية فإن ردة الفقه الحديث عن الدعوة الإصلاحية للإمام محمد عبده وعن جرأته في مواجهة القصر والإنجليز والإقطاع هي أيضا وليدة انتكاسات اجتماعية قصرت عن مواصلة رسالة النهضة الحديثة. تخلت البرجوازيات العربية عن المشروع الوطني وارتبطت بعلاقة تبعية مع الامبريالية ووقفت بوجه حركة التحرر العربية، وأحيت قيم الاستبداد السياسي للعصر الوسيط . وإذا كان الإمام ابن تيمية قد ساند الحكم المستبد لأنه يدافع عن الثغور ويرد غزوات الأجانب فقد ورث الفقه الحديث عنه دعم الاستبداد المحلي وهو يرحب بالغزو الأجنبي ويعزز مع المراكز الرأسمالية علاقة التبعية والتخلف. كان محمد عبده داعية النظر العقلي لدى مقاربة النص القرأني وتغليب العقل لدى إصدار الأحكام . حمل فكرا نهضويا، رغم أنه لم يكن جذريا في ثوريته، وناهض التكفير. سبق محمد عبده عصره والسابقين في الأخذ بمنهج العقل ‏وفي القول بمسئولية الإنسان عن أفعاله بما له من عقل وإرادة؛ بينما ظل ‏‏في ‏جوانب أخرى أسير نظرة إصلاحية تقليدية.

أما تلميذه محمد رشيد رضا ، الذي انكفأ يناهض "الإلحاد" ‏خصوصا‏ ‏بعد‏ ‏إسقاط‏ ‏الخلافة‏ ‏العثمانية، ودعا إلى "حكم العلماء"، فقد تقرب من ‏ ‏الوهابية‏ ‏السعودية‏ مع استيلاء‏ ‏عبد‏ ‏العزيز‏ ‏آل‏ ‏سعود‏ ‏على ‏مكة‏ ‏والحجاز‏ ‏سنة‏ 1926. وحمل تلميذه حسن البنا نزعة الاستبداد الديني فاستأثر لنفسه حق الانتقاء عن السلف وحق الاجتهاد والقياس وتكفير الخصوم.

يسترعي الاهتمام أن دعاة الإسلام السياسي والسلفيون عموما لا تستفزهم حرمانات السواد الأعظم من أبناء مجتمعهم، و تستحث غيرتهم التهجمات على الدين وليس تبخيس العباد. يغفلون ضرورات التنمية الاجتماعية لصالح أتباع الدين ويفصلون عمدا بين الشرع ومصلحة العباد . هم سلفيون ويغفلون ما قاله الإمام علي " يكاد الفقر أن يكون كفرا". يأتمّون بأبي حامد الغزالي ولا يأتمون بالغفاري وقولته الشهيرة" إني لأعجب لمن يبيت على الطوى كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه". فهم انتقائيون يلتقطون من سير السلف ما يدعم توجهاتهم المحافظة وأنظمة الطغيان والفساد. حقا، فالمصالح تستحضر من التراث ما يدعمها ويمنحها المشروعية.

من الطبيعي أن استدعاء التاريخ يتم بمنهجين متضاربين لدى كل من قوى التقدم وقوى المحافظة. تستهدي السلفية بفقه الاستبداد، بينما يستهدي مفكر مثل الدكتور رجب البنا بالضمير والشرف( إذ لا حاجة لأن يتقنع بالدين) ، فيكتب في صحيفة الأهرام المصرية ، بعدم وجود أي "نص في القرآن والسنة يحدد نظام الحكم‏‏ مما يعني أن النظام السياسي في الإسلام متروك للمسلمين لكي يتوافق مع تطور الحياة ونمو الوعي وبما يحقق المصلحة‏".‏

مرة ثانية نواجه استجارة الظلم الاجتماعي بالتجهيل فنرى الاستبداد الديني يسند الاستبداد السياسي : يسقط مسئوليته في انهيار المجتمع واختلال القيم وتدهور الأوضاع المعيشية للسواد الأعظم من المجتمع، محملا ضحايا الظلم الاجتماعي جريرة ما يلحقه الاستبداد السياسي من الوهن أمام التحديات الأجنبية وما ينزل بالأمة من هزائم وانكسارات قومية.

قوى التغيير التقدمي ملزمة بفضح التزييف والتلفيق وتحاشى الانزلاق والتورط في المهاترات التي تحجب المشاكل المؤرقة. فرسالتها محكومة بضرورات تعرية الزيف ونشر الحقيقة. أن عماد النشاط السياسي لقوى التغيير التقدمي هم الجماهير ممن تشكل المشاعر الدينية لديهم قناعات فطرية، ينبغي احترامها، واحترام قناعاتهم حتى لو تناقضت مع الطروحات السياسية لحزب التغيير الاجتماعي. ذلك أن الوعي الاجتماعي لدى المجموع والفرد يتشكل ثمرة سيرورة تتفاعل خلالها مختلف العناصر من قاعدة اقتصادية ومؤثرات ثقافية وسياسية وحراك اجتماعي قوته الدافعة هي العزيمة الثورية للجماهير. وأساليب مقاربة الدين، إذ تتراوح بين العقل والنقل تدخل مبادئ الدين المنزهة عن الغرض في صلب الثقافة الإنسانية ؛ وليس من باب المجاملة أو التحايل أن اقتصرت شروط العضوية في الحزب الماركسي على ثلاث: الموافقة على برنامجه السياسي والعضوية في إحدى منظماته ودعم مالية الحزب باشتراك منتظم. وتركت قضايا الفلسفة في الماركسية دليل عمل يجري الاسترشاد بها وفقا للظروف الموضوعية. ولا يقبل الماركسيون محاولات إقامة خصومة مع الدين ولا توظيف الدين للتستر على الجرائم الاجتماعية وهدر الجماهير.

أذكر أن المفكر الماركسي محمود أمين العالم عنف عام 1957 الكاتب الدكتور مصطفى محمود، حين تعرض للإسلام في معرض هجومه على مبدأ ايزنهاور . تخرج مصطفى محمود من كلية الطب عام 1952، وسرعان ما ترك مهنة الطب وتحول إلى الكتابة. استهوت مقالاته القراء الشباب، سيما وأنه كتب بتوجه ديمقراطي . ولدى الإعلان عن المشروع الاستعماري الأمريكي للهيمنة على المنطقة العربية بعد هزيمة العدوان البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي على مصر عام 1956، زعم الرئيس الأمريكي وجود فراغ في المنطقة العربية يجب ملؤه بالوجود الأمريكي، وأن هذا الوجود ضروري لحماية الإسلام من خطر " الإلحاد". من هذا المنطلق هاجم مصطفى محمود المشايخ لتخلفهم عن الرد على إيزنهاور وصمتهم إزاء زعمه أن الإسلام يتعرض لخطر الإلحاد، و ادعائه بحاجة الإسلام إلى الحماية الأمريكية . وجد العالم من الضروري تعزير كاتب المقال لردع التعرض للدين.

كانت كلمة قائد شيوعي قانونا يلتزم به جميع التقدميين واليساريين على الصعيد الإقليمي، منتظمين أم أصدقاء. وفيما بعد انقلب مصطفى محمود مائة وثمانين درجة وراح يسخّر قلمه في مهاجمة التقدميين ويرفع أسهمه على موجات مقاومة الإلحاد . وبسرعة بات نجما إعلاميا تتسابق على مقالاته ومقابلاته الصحف والمحطات الإذاعية ثم التلفزيونية . يبدو أنه لم ينضبط تماما مع التيار السلفي فتعرض للمضايقات هذا التيار الذي يلتزم بنظام عرفي مستبد لا يتهاون. رغم نجوميته لم يسلم من تهم التكفير حين اصدر كتابه "الله والإنسان". وكتب مؤخرا أحد أصدقائه ، الدكتور رجب البنا في معرض التضامن معه في ما نزل به من محن " كانت تتدفق عليه الأموال من كتبه وبرنامجه الأسبوعي الشهير "العلم والإيمان" الذي كان يعرض في تليفزيونات الدول العربية،‏ ولكنه كان يوجه معظم إيراداته وإيرادات المستشفي الملحق بالمسجد( وكلها تحمل اسمه) إلي الصدقات وأعمال الخير وجمعية مصطفي محمود الخيرية، ولم يكن ينفق علي نفسه إلا القليل جدا‏". و تعرض لأفشى الحملات بسبب مقاربته العقلانية لفكرة الشفاعة " في سنة‏2000‏ حين نشر رأيه بأن شفاعة الرسول صلي الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة لا يمكن أن تكون علي الصورة السائدة التي يروج لها بعض الشيوخ‏،‏ لأنها بهذه الصورة تمثل دعوة للمسلمين للتواكل وتعطي لجميع المسلمين حصانة من الحساب والعذاب لمجرد أنهم مسلمون‏.‏ استطاع أصحاب الحملة أن يصوروا مصطفي محمود علي أنه منكر للشفاعة وقد ورد ذكرها في القرآن‏,‏ وألفوا ‏14‏ كتابا في الهجوم عليه وتشويه فكره وأعماله".

وللتذكير فقد رفض محمد عبده فكرة الشفاعة والتزم بنصوص القرآن من أن الرسول لا يعرف الغيب وأن موعد القيامة علمه عند الله. تراجع مصطفى محمود عن موقفه واعتذر بأنه "مارس حقه في حرية التفكير وهو كإنسان معرض للخطأ،‏ وتوقف عن الكتابة،‏ فلم تصدر له بعد ذلك كتب جديدة‏،‏ ولم يظهر في أي مكان‏،‏ ولم يلتق بأي شخص‏،‏ ولم يرد علي أي تليفون‏..‏.".

يحتكر الإسلام السياسي التحدث باسم الدين فيستغل ضعف الخبرة السياسية للجماهير ومحدودية ثقافتها وفهمها لصحيح الدين، ويستثمر نقمتها على ما تواجهه من خيبات وهوان، ليدفعها بعيدا عن درب التحرر وتصفية التخلف المزمن والقهر الدهري. ومن جهة ثانية يتجاوب مع التضليل الإعلامي والثقافي للامبريالية فيغيب صراع المصالح خلف ستار صراع الأديان والحضارات. يحرص الإسلام السياسي على دفع الجماهير باستمرار في تأثيم الذات "بسبب الانحراف عن الدين". يبتلع الجمهور المتدين بفطرته وبحرصه على التقيد الدقيق بفتاوى المشايخ ما يلقى إليه من تبخيس ، ويفقد الإحساس بما يعانيه من هدر الفكر والطاقات والوعي .

هنا تتجلى مهمة قوى التغيير التقدمي في تزويد الجمهور بمعرفة الحقيقة، كي يستعيد الأفراد الصحة النفسية، أو الثقة بالذات، ويتخلصون من الاستلاب، ويشرعون في بناء الاقتدار المعرفي. بهذا تستوعب الجماهير أن لها دورا في تقرير المصير الوطني، وأن نشاطها الإنتاجي والوطني إحدى ضرورات بناء الحياة الجديدة وتصفية إرث التخلف المزمن والقهر الدهري. المناخ الاجتماعي الموبوء بالجهل والتوتر العصابي الناجم عن القهر والحرمان يستنبت التعصب ويسد الطرق على حوار الآراء. العصاب مرض يشيع بين مختلف الأعراق والأديان، وليس خاصية عرقية او دينية. هي ظاهرة اجتماعية تاريخية يخفف من وطأتها المناخ الديمقراطي وإشاعة حرية التفكير والقول واحترام الحقوق المدنية للمواطن بغض النظر عن مكانته الاجتماعية وانتمائه الديني أو العرقي. وهذه جزء من البرنامج الديمقراطي للتحرر الإنساني. وما أكثر دعوات مقاربة النزعة الإرهابية من خلال تنفيذ الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

12/8/2009