قسيس الثقافة الفلسطينية - بقلم الياس خوري

2010-01-02

قسيس الثقافة الفلسطينية

بقلم الياس خوري

بموت انيس صايغ، يغيب الصايغ الأخير من شجرة القسيس عبدالله الصايغ، التي اقتلعت من طبريا، لتمد جذورها في ارض فلسطين والعرب. الرجل الخفيض الصوت، بيده المبتورة الأصابع، وانحناءته الخفيفة، واصراره العجيب على الدقة العلمية، كان يوحي للمحيطين به، انه اضفى على عمله شيئا من المقدّس. هكذا عرفناه في مركز الأبحاث، دقيقا في مواعيده، قليل الكلام، حازما ومترهبا لعمله.

عندما عرفت ان والده كان قسيسا بروتستانتيا، فهمت انني امام مزيج من العقليتين المحافظة والثورية. وهو مزيج غريب نجح اوائل الانجيليين العرب في صوغه، واضعين كنيستهم الصغيرة في خدمة شعبهم وقضيته.

في مركزالأبحاث، نجح انيس صايغ في صوغ المعادلة الثقافية الصعبة لفكرة فلسطين. جمع البحث الأكاديمي الى التوثيق العلمي، وحرية التفكير الى الالتزام. فاستطاع المركز ان يشكّل خلية الدفاع عن المقاومة، ومكان نقدها في آن معا، وان يفتح احتمالات الابداع الفلسطيني كلها، فكان لنا بيتا ومدرسة واطارا نضاليا.

خلف تلك التجربة كان يقف رجل حازم يدقق في كل شيء، ويعرف كل شاردة وواردة. مثقف فهم ان فلسطين لا تستعاد الا اذا كانت المعرفة في خدمة النضال، كي تكون التجربة النضالية وسيلة لتطوير المعرفة.

عرف الاسرائيليون معنى مركزالابحاث وخطورته، كانوا يعرفون ان المركز لم يكن غطاء معرفيا للعمل العسكري، بل كان مركز بحث وتوثيق. لذا خافوا منه وتعاملوا معه باللغة الوحيدة التي يتقنونها، ارسلوا طردا مفخخا لانيس صايغ، ثم قصفوه بالصواريخ. وعندما اجتاحوا لبنان عام 1982 نهبوا مكتبته ووثائقه، ثم فجروه ودمروا المبنى على رؤوس العاملين فيه.

وراء تلك التجربة الكبرى، كان مديرنا الدكتور انيس. لقب الدكتور التصق به كأنه رتبة كهنوتية، اذ كان يشيع من حوله جوا ملتبسا تمتزج فيه قداسة القضية بقداسة المعرفة، وذلك الترجرج الذي وسم العلاقة بين قيادة ياسر عرفات وبين الثقافة والمثقفين. صرامة ابن القسيس وعقائديته التي بدأت مع المناخ القومي السوري ثم انتقلت الى المناخ العروبي، اصطدمت ببراغماتية فتح، والمناخ شبه القبلي والعشائري الذي حملته معها. لذا وجد ابناء القسيس عبدالله: فايز ويوسف وانيس انفسهم خارج معادلات التركيبة الفلسطينية الجديدة، وابتعدوا واحدا بعد الآخر عنها، وان باشكال مختلفة.

لكن انيس صايغ لم يبتعد عن فلسطين. فالرجل كالعديد من ابناء جيله، كان يريد للوطن الضائع ان يتجسد في شخصه وكلماته ونمط حياته.

مع انيس صايغ تعلمت ان فلسطين ليست قضية فحسب، بل نمط حياة. وانك تستطيع ان تكون فدائيا في كل تصرفاتك. وان اصابع يده اليسرى المبتورة، وعينيه شبه المطفأتين، والصواريخ التي قصفت مركز الأبحاث، هي اوسمة على صدر الثقافة، لأنها تضعها في دائرة الفعل، وتجعل من مؤرخي فلسطين صانعين لتاريخها.

تعلمت الكثير من هذا الرجل، واللافت ان اصراري في شبابي المبكر على ان الكلمة لا تكون حية الا اذا تعمدت بالقتال الحقيقي، جعلني اثق اكثر بأن المعرفة هي طريق العبور بفلسطين الى التحقق، وان عمل مركز الأبحاث ومعه مؤسسة الدراسات كان وسيبقى ضروريا كي لا تصاب البندقية الفلسطينية بالعماء وتضل طريقها.

عندما التحقت بمركز الأبحاث، في اوائل السبعينات، كان انيس صايغ اكثر من استاذ لي ولابناء جيلي. كان نموذجا للتقشف والالتزام ونكران الذات. وعندما استقال من المركز، وكان عليّ ان اتولى تحرير مجلة 'شؤون فلسطين'، مع شاعرنا الكبير محمود درويش، احسسنا بأننا نرث تجربة كبرى علينا عدم التفريط بها، وان الكنز الذي تركه انيس صايغ لنا، يحتاج الى التفاني والابداع كي يبقى حيا. وللأسف، لم تطل بنا التجربة، لأننا ذقنا المرارات نفسها التي ذاقها انيس صايغ، فغادر درويش للعمل في الالسكو في تونس، وانتقلت الى جريدة 'السفير'.

كان حضور هذا الرجل آسرا، لا اعرف كيف كان يجد الوقت كي يصدر المجلات ويؤسس الموسوعة الفلسطينية ويكون في كل الأمكنة التي لها علاقة بفلسطين وقضيتها.

لم يكن انيس صايغ براغماتيا، كان ضد اي تنازل، ورأى في اية تسوية خيانة للأرض الفلسطينية.

نستطيع اليوم ان نقول ان الخلاف مع انيس صايغ لم يكن ضروريا، او ان خلاف انيس صايغ مع قيادة منظمة التحرير كان يمكن التخفيف من غلوائه، فهذا الصراع مع الصهيونية مفتوح على تاريخ المشرق العربي برمته، وهو صراع كتب على اجيال متعددة ان تخوضه، وسيبقى مفتوحا وسيتخذ اشكالا متعددة، لذا فهو يحتمل رؤى مختلفة، وتصورات متباينة، تصب كلها في ضرورة استعادة الوطن الضائع.

لكننا لا نستطيع ان نغالب دموعنا، ونحن نرى جيل الرواد يموتون واحدا بعد الآخر. والموت ليس حقا فقط، بل هو عبء ايضا. كيف نرث انيس صايغ وشفيق الحوت وادوارد سعيد وابراهيم ابولغد؟

هذا هوالسؤال الفلسطيني الكبير اليوم.

فلسطين ليست قضية سياسية فقط، بل هي اولا فكرة، وقضية ثقافية.

نقول للدكتور انيس وداعا، وننحني لا كي نوسده الأرض فقط، بل كي نمسح حزن الأرض بأجفاننا، ونقول لفلسطين اننا باقون على العهد حتى الموت.

2/1/2010