الحق في عدم التدين .. بين المواطنة والدعشنة الكامنة

2016-08-04

الحق في عدم التدين .. بين المواطنة والدعشنة الكامنة

د. خالد الحروب

ثمة حاجة إلى الإقرار بـ "الحق في عدم التدين" كحق من حقوق الفرد العربي أو المسلم في مجتمعاتنا، وبأن هذا الحق لا يحرمه من حقوقه الدستورية والمواطنية الأخرى

تُساق هذه الفكرة لمواجهة مد التدين التعصبي والجامح الذي يعصف في المجتمعات العربية، وهو ما يمكن وصفه بتنويعات مختلفة من "الداعشية الكامنة" وهي التي يتشارك أكثرها تطرفاً مع "الداعشية المتوحشة" في الكثير من البنيات الفكرية والقناعات، لكن تختلف عنها بأنه لم يتم تفعيلها عنفيا وبالسلاح
داعش لم تأتِ من فراغ، بل هي حصيلة ثقافة هوياتية اجتماعية ودينية وسياسية سيطرت على الفضاء العام خلال نصف القرن الماضي على الأقل، واعتاشت على مناخات تردٍ ذريع ولدها فشل الدولة في منطقتنا، والتدخلات والحروب الخارجية العسكرية التي لم تنقطع

تتوقف هذه الحروف عند العامل الأول وهو الثقافة الدينية والاجتماعية المحافظة والمتسلفة التي اختطفت الجامع والمدرسة والإعلام، وأسست لمعيارية دينية صارمة في تحديد الصواب والخطأ، وترسيم مكان هذا الفرد أو ذاك في المجتمع ومنحه أو حرمانه الموقع أو الاحترام تبعاً لتراتبيات وأفضليات دينية وتدينية

ولا يعني التركيز هنا على هذا العامل التقليل من بقية العوامل الأخرى، وتحديداً فشل دولة الداخل وتغول دولة الخارج، ذلك أن المساحة المتاحة هنا لا تسمح بنقاش كل شيء

انخرطت الثقافة الدينية الجمعية في تصنيع "داعشية كامنة" لا يمكن إنكارها تحكمت في المجتمعات، وأطبقت قبضتها بالتدريج على معظم مساحات الفضاء العام
وتعود الجذور الأولى لهذه "الداعشية الكامنة" إلى زمن انهيار الدعوات الإصلاحية والانفتاحية لتيار الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي لصالح صعود سلفية وانغلاق حسن البنا ثم سيد قطب وبعدهما التيارات السلفية برمتها
تدعمت تلك "الداعشية الكامنة" المتصاعدة بعيداً عن المؤسسة الرسمية عبر المؤسسة الرسمية ذاتها في الدول العربية حيث انجرت إلى مربع الدين كي تدافع عن شرعيتها السياسية

في المحصلة وبإيجاز قد لا ينجو من ابتسار تنافست الأنظمة السياسية والمعارضات الإسلاموية ضد بعضها البعض في تكريس آليات تديين المجال العام في معظم البلدان، وإن بدرجات متفاوتة

وانعكست أشد تجليات ذلك التنافس تأثيراً وتدميراً على طبيعة وتعريف الصراع على الشرعية السياسية، وتديين الإعلام، وتديين مناهج التعليم

كل ذلك أدى إلى تسييد الخطابات الدينية بأطيافها المختلفة، وتحويلها إلى الناظم الأساسي للعقل الجمعي والمنظومة المعيارية التي تفصل على مقاسها الكثير من القوانين، ويتم استخدامها لتقييم الممارسات والأخلاق العامة والأعراف

المعنى التطبيقي لسيادة الخطابات الدينية أن الفرد في الدولة العربية صار له شخصيتان اعتباريتان تتصادمان في كثير من الأحايين: الشخصية الأولى دينية وهي مُعرفة بمدى تدينه والتزامه، والشخصية الثانية قانونية معرفة بكونه مواطناً بحسب الدستور

وقد طغى التعريف الأول على التعريف الثاني إلى درجة مُذهلة، حتى صار "الفرد المتدين" هو المعيار والمسطرة وهو "أفضل" من "غير المتدين" من دون نقاش

ولو كانت هذه التفاضلية محصورة في حيز آراء الأفراد ببعضهم البعض لما كان لها أهمية، لكنها تفاضلية ظلت تتضخم وتكبر حتى حشرت التعريف القانوني للفرد في الزاوية، ولأنها أعلت ورقّت من قيمة "التدين" في المجتمع وأخرجتها من حيز الممارسة الفردية إلى المعيارية المجتمعية التي تتماس مع النظرة القانونية

الاصطدام الكبير بين النظرتين والتعريفين عندما يخرج التعريف الأول (التديني) إلى الحيز العام يأتي من تناقضه مع فكرة الدولة المواطنية الحديثة التي تقوم على اعتبار كل الأفراد مواطنين متساوين بحسب الدستور، لهم حقوق وعليهم واجبات مواطنية وليس دينية

بحسب الدستور يتساوى المسلم مع المسيحي وحتى مع المواطن الملحد الذي لا يصرح بإلحاده

التعريف الأساسي لهذا الفرد هو "المواطنة" وليس درجة التدين، فالتدين والالتزم الديني مسألة فردية خاصة بكل فرد يديرها كما يشاء

الأطروحة الأساسية التي يرتكز عليها أنصار كل دعوة دينية في أي مجتمع في العالم هي أن الالتزام الديني يكرس الأخلاق الحميدة ويضاعف من الخير ويقلل من الشرور

لكن هذه الأطروحة غير متماسكة لا من ناحية نظرية ولا من ناحية إحصائية، ذلك أن معظم الدراسات والمسوحات المعولمة حول القيم والأخلاق والالتزام الديني تشير إلى أنه لا علاقة مباشرة بين مستويات التدين والأخلاق الحميدة

على سبيل المثال، ولتقريب الصورة، تعتبر البلدان العربية والمسلمة أشد المجتمعات تدينا في العالم، إضافة لمجتمعات جنوب الصحراء الإفريقية

لكن العديد من هذه البلدان مثل أفغانستان وإيران ومصر مثلاً تتصدر دول العالم في كثير من الأخلاقيات السيئة مثل التحرش الجنسي بالنساء، أو عدم احترام النظام أو النظافة، بينما العديد من البلدان التي تتصف بنسب تدين منخفضة وإلحاد عالية تقل فيها نسب التحرش بالنساء، ويُحترم النظام والنظافة
على ذلك ليس هناك علاقة آلية بين الأخلاق ومدى الالتزام الديني، على ما تطرحه الحركات الدينية أياً كانت، والإسلاموية في بلداننا

ذلك كله يطرح جملة من الحقائق والتحديات التي يجب أن تقض مضاجع الجميع، الأولى هي وجوب التخلص من التعسف الأخلاقي الكبير في ربط علاقة قوية وشرطية بين التدين والوطنية، كما تم الترويج في المخيلة العامة خلال سنوات المد الإسلاموي الحركي في المنطقة، معززاً بطريقة غير مباشرة بالخطاب الرسمي

فهنا اشتغل الخطاب الديني بتنويعاته المختلفة بشكل مباشر أو غير مباشر على التشكيك العميق في وطنية وأخلاقية ومهنية وإخلاص غير المتدينين وفي تحليهم بأي من القيم الإيجابية، وحصر تلك القيم بالمتدينين فقط

وقد شهدنا في حقبة إسلامويي الثورات العربية ما يقترب كثيرا من نزع الوطنية برمتها عن شرائح عريضة من العلمانيين والليبراليين وغير المتدينين.

والمقصود بنزع الوطنية هنا ليس فقط التخوين والاتهام بالعمالة للغرب والخارج وسوى ذلك مما صار معزوفة دائمة في خطابات كثير من الأصوليين إزاء مخالفيهم. بل الأخطر من ذلك كله في هذا السياق وفي مسألة نزع الوطنية هو عدم الإقرار الضمني بأن هؤلاء هم مواطنون يتمتعون بكامل الحقوق والحريات الفردية التي يتمتع بها المتدينون أنفسهم

إن السؤال والتحدي الدائم والمُتجدد الذي يجب أن يواجهه الجميع، سواء في الحكم أو المعارضة، أو في أوساط المجتمع بشكل عام يتجسد في مفهوم المساواة المطلقة بين المواطنين بغض النظر عن أي معطى آخر، ديني، طائفي، عرقي، مسلكي أو سواه، وهو المفهوم المُنتظم في إطار الدولة المدنية التي لا تهتم بمدى تديين الأفراد، بل بمنحهم حقوقهم ومطالبتهم بالتزاماتهم بحسب الدستور

الدولة المدنية القائمة على المساواة في المواطنة عليها أن تحمي حق مواطنيها في التمتع بحرياتهم الفردية والمسلكية، وليس فقط حرياتهم السياسية

ومن تلك الحريات الفردية التي من واجب الدولة حمايتها حرية الأفراد وحقهم في عدم التدين

التدين والالتزام بأي من الطقوس شأن فردي لا دخل للدولة فيه، وشأن الدولة هو أن توفر المناخ الصحي للمتدين وغير المتدين في الحياة بشكل طبيعي ومن دون قمع

إذا تدينت الدولة معناه أنها انحازت لشريحة من الناس ضد الشريحة الأخرى، وسوف تحاول عبر القوانين والتشريعات الحد من حرية غير المتدينين الفردية
ولا فائدة هنا من المناكفة المشتهرة التي تحوم حول "حدود الحرية" وأنها غير مطلقة فهذا من البداهات الاجتماعية، ذلك أنه في أكثر البلدان انفتاحا في الغرب لا يمكن لأحد أن يمارس حريته الفردية في الخروج عاريا في الشارع

khaled.hroub@yahoo.com