من غزة.. قذيفتان في الغرفة المجاورة

2023-11-16

| وليد العوض*

كانت عقارب الساعة تقترب بهدوء من الثالثة عصر يوم الرابع عشر من نوفمبر وأم حسين والسيدة وهيبة تتعاونان على رق العجين توطئة لخبزه.

كانت كلارا تعدُ الاقراص ليتم توزيعه لكل فرد ثلاث أرغفة على مدار يومين، وكنت أنا مستلقياَ أقرأ الصفحات الأخيرة من المجلد الثاني لأعمال الروائي غسان كنفاني "الرجال والبنادق"، والصبايا نورا وعبير وجميلة يجهزن الأواني لإعداد وجبة الغذاء الوحيدة ليوم كامل، والشباب يتحدثون بصخب حول المستقبل والأمل بعد زوال غمة الحرب، فجأة دوى صوت انفجار لقذيفتين متتالين أصابتا الغرفة المجاورة، فاقتلعت الأبواب والشبابيك وتهاوت الجدران، وبعد هنيهة تبعتها ثلاث من القذائف الحارقة الأكثر فتكاً على المبنى الملاصق، مصحوبة بزخات رصاص يئز فوق رصيف الشارع المحاذي. تطايرت الشظايا وانهال الزجاج في أرجاء المكان، كأنها زخات من المطر، وتعالت سحب الدخان مصحوبة برائحة البارود، فيما كان على صراخ النسوة وبكاء الأطفال وهرعن يحتضن أطفالهن، هائمات على وجوههن يتبعهن الرجال بحثاً عن ما ظنوه ركناً أمناً في زوايا المكان.

في هذه اللحظة العصيبة، رباطة الجأش يجب أن لا تغيب للسيطرة على الموقف وتهدئة الناس وحفظ أرواحهم من خطر التحرك تحت القصف الذي يجعل المرء أكثر عرضة للشظايا المتطايرة لهباً.

وجبة القصف هذه، اشتدت عنفاً وامتدت وقتاً لما  يزيد عن نصف ساعة كأنها الدهر، حُبست فيها الانفاس وتكورت أكوام اللحوم تحمي بعضها بعضاً. ومع صفير كل قذيفة تزداد ألوان الوجوه اصفراراَ والاسنان تصطك من الارتجاف ويعلو  صراخ الاطفال ومواءِ القطط ونباح الكلاب، وتزداد الحاجة للحزم والخبرة في تهدئة الخواطر لتعزيز عزيمة الناس، وضبط حالتهم لدرء مزيد من المخاطر وابعاد شبح الخوف المحتوم ما أمكن.

نصف ساعة من الجحيم وكتل من اللهب المتساقط من السماء والجَنبات، انتهت بإصابتين طفيفتين وهلع سكن القلوب وأدمعت خلالها عيون الاطفال. انتهت وجبه الرعب هذه وعاد كلُ إلى ركنه الذي طالما شكل ملجأه منذ ان اندلعت هذه الحرب قبل اسابيع.

أزاح الشباب والرجال الركام واصلحوا شبكة مياه البئر التي تمزقت بفعل القصف اللعين، فيما تقدمت المعلمة ام أحمد اليعقوبي بثبات بمكنستها لتنظيف أرجاء المكان وتعيد له ابتسامته الحزينة، وهكذا عادت وتيرة الحياة  إلى سابق عهدها من الجلوس على حافة الحياة، أشعلت النساء النار  وخُبزن الخبز بتصميم وشجاعة، وكلِ فرد نالَ حصته التي احتفظ فيها قوتٍ ليومين قادمين. كما وطُبخنَ وجبة اليوم من المعكرونة دون حوائجها، لكنها أدت الغرض، فأمل الجميع وعاد كلُ الى قيلولته بانتظار جولة أخرى في ليلٍ أعتدنا هنا في غزة أن يكون أكثر قسوة وأشد حلكة بانتظار بزوغ فجرٍ قادم لا محال. 

* عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني.