كشف المستور ام تحيز غير مشكور؟ - بقلم: سعيد مضية

2011-01-30

سعيد مضية

كشف المستور ام تحيز غير مشكور؟

في موسم كشف المستور الذي تهب نسائمه العليلة على المجتمعات العربية بعد قيظ خنق الأنفاس تكاد أنصاف الحقائق أن تكون أقنعة للزيف.نحن بأمس الحاجة إلى الحقيقة كاملة والمعالجة الجذرية لمشاكلنا ح وإلا  فإن التوقف في منتصف الطريق أشبه بأغنية صباح وصلتينا بنص البير وقطعت الحبل فينا.

التحقيقات الصحفية التي أجرتها فضائية الجزيرة طرقت العديد من الموضوعات المتعلقة بتقصير الفلسطينيين وتفريطهم؛ لكنها ارتدت دون الخط الأحمر المرسوم للإعلام العربي، فلم تضع الإصبع على خذلان الأنظمة العربية للشعب الفلسطيني وتوثيق علاقاتها بالولايات المتحدة الداعمة للعدوان الإسرائيلي طوال عقدي التفاوض. ومن عادة الجزيرة أن تعرض ثنائية الرأي والرأي الآخر على غرار ثنائية الخير والشر لدى مانوية الديانة الفارسية القديمة؛ وبذاتيقي الحقيقة مضيعة. والتياران المتناطحان اللذان تعرضهما الحقيقة نموذجان للشر مثل الليبرالية الجديدة والتعصب السلفي ؛ لكن الديمقراطية العقلانية هي البديل التقدمي لأي منها.

وبالمثل قد يأتي الشر بتلاوين عدة من جانب مطابخ العولمة الثقافية .
المستور ما زال في تحقيقات الجزيرة، ولم تلق الضوء عليه، هو أن متاهة التفاوض مع إسرائيل ترامت في بيداء عزلة القضية الفلسطينية عن بعدها الاستراتيجي العربي، المقرون مع تعاظم الدعم الأميركي لإسرائيل.أعلنت الأنظمة العربية استقالتها من القضية الفلسطينية أثناء غزو لبنان عام 1982، حين نظمت إسرائيل المذابح الجماعية والتدمير المنهجي واحتلت عاصمة عربية؛ فساد حينئذ الصمت العربي.

قبل ذلك أعلن سلطان مصر سحب طاقاتها الكفاحية وثقلها الحضاري من الصراع مع إسرائيل ، ثم تسللت الأنظمة العربية وراءه خلسة . وجدير بالذكر أن بعثات أمنية أميركية قدمت إلى الأقطار العربية بعد الإطاحة بشاه إيران عام 1977، كي تحصن أمن الأنظمة العربية وفق برنامج تحدث عنه الصحفي الأميركي بوب وودوورد في كتابه عن حروب السي آي إيه برئاسة ويليام كيسي، الصادر أواسط عقد الثمانينات.

الأنظمة العربية، ومنها نظام قطر نسقت أمنيا مع السي آي أيه ، شقيق الشاباك.  لا نسوق الأمر تبريرا، فتنسيق من هذا الطراز مرفوض لأته ينتهك الأمن الوطني والأمن القومي، ويردي القضية المشتركة في متاهة النسيان.

وفي تسعينات القرن الماضي قويت شوكة المحافظين وفصيلهم الأشد عدوانية ، المسيحية الصهيونية؛ فوضعوا مقدرات أميركا العسكرية والسياسية والديبلوماسية والاقتصادية تحت تصرف إسرائيل ومشروعها للاستئثار بكامل الأرض الفلسطينية، والتحول من ثم إلى دولة إقليمية في المنطقة تعمل في خدمة الاستراتيجية الأميركية. وهذا ما لم تتطرق إليه تحقيقات الجزيرة .

انتقدت كاثلين كريستيسن، المحللة سابقا لدى وكالة المخابرات المركزية الأميركية الجزيرة، إذ " لم تكشف (الجزيرة) عن تواطؤ الولايات المتحدة مع التوسع الإسرائيلي والخضوع القانط للقيادة الفلسطينية لمطلب إسرائيل بالاستسلام .

فقد ثابر المفاوضون الأميركيون بدءاً من فريق بيل كلينتون مرورا برايس وهيلاري كلينتون وجورج ميتشل على التعامل مع الفريق الفلسطيني بسخرية مذلة." [ كاونتر بانش 26/1/2011] . كانت الوساطة الأميركية ( وهو ما لم تقاربه تحقيقات الجزيرة ) أساس البلاء والمشكلة ، وليس الحل.

وقلناه قبل أشهر من كشف المستور من وثائق المفاوضات مع إسرائيل. درجت هذه الوساطة على تجاهل الاستيطان والتهويد والضربات العسكرية الموجعة ، بل وتمنع مناقشتها في المحافل الدولية مع صمت عربي مطبق. قصرت الحديث على "العداء المتبادل" و" إنهاء عقود من الخلافات"؛ وركز "الوسيط" الأميركي على " المصلحة القومية الأميركية " في التوصل إلى تسوية ، دون إشارة إلى حق الشعب الفلسطيني في التحرر وإقامة الدولة ذات السيادة! ومن هنا توصلنا إلى حتمية فشلها.

كانت العملية بمثابة إدارة الصراع عبر وعود زائفة ومواقف كاذبة، لتمضي السيرورة "عبر إجبار عباس على القيام بتنازلات متكررة دون مقابل، هم يقوّضون شرعيته الهشة لدرجة يصبح معها غير قادر على تسويق أيّ اتفاق قد يجبرونه على توقيعه. وعبر السماح لنتنياهو بتحدي كلّ الطلبات الأميركية المتكررة دون دفع أي غرامة، شجعوا الإسرائيليين على الاعتقاد أنّه لا يوجد أيّ ثمن للموقف المتشدد". والكلام، يا للمأساة ، لم يصدر من إعلام عربي ، إنما من، مجلة "فورين بوليسي" الأميركية.

وحقا ما أفاد به الدكتور ثوماس تايلور أستاذ  قسم الاقتصاد بجامعة ديوك الأميركية أن الولايات المتحدة وإسرائيل تربطهما " علاقة تعايش وثيقة بين الدولتين المحبتين للحرب... ". ومن المنطقي أن يخلص الدكتور  نورمان فنكلستين، الباحث أميركيّ، حين كتب يقول  ".... الحرب عندهم ( الإسرائيليون) ليست وسيلةً إلى غاية؛ إنّها الغاية نفسُها". . يقصد بذلك أن إسرائيل لو توصلت إلى اتفاقات سلام وغدت دولة مسالمة مع جيرانها فإنها تفقد ضرورة بقائها ودعمها . هذا التقييم أعمق بكثير من تشخيصات المؤرخين حواريي الجزيرة.  

فإذا حق للمؤرخين والباحثين والمراقبين والخبراء الاستراتيجين أن يعلنوا من على منبر الجزيرة عبثية التفاوض مع إسرائيل في هذا الوقت وتفريطه بمصلحة الشعب الفلسطيني، فإنه يحق القول أن الوعي جاء متأخرا جدا. الحالة تكرر سابقة عندما قرر سلطان مصر سحب طاقاتها الكفاحية وثقلها الحضاري من الصراع الدائر فوق الأرض الفلسطينية؛ فنزل كتبة النظام يغطون على الجريمة القومية باتهام الفلسطينيين ببيع أراضيهم ! ولو انصف هؤلاء لتوصلوا بموضوعية إلى أن الفلاح الفلسطيني تشبث بالأرض ـ الوطن رغم سياسة الانتداب الزراعية ، ورغم مغريات المال الصهيوني ، ورغم سني القحط وبوار المنتج الزراعي بسبب الحرب. إن نسبة الستة بالمائة التي تملكها اليهود بالتحايل والشراء خلال حقبة الانتداب (1919ـ 1948) هي شهادة للشعب الفلسطيني؛ والدراما الفلسطينية تلاحقت فصولها الأليمة والمقوضة على مسرح التاريخ والأيدي معطلة عن العمل.

الأحرى بالتحليلات الرصينة أن تمعن النظر في زمن مضى هدرا، فلا تعود حاجة للتهويل وشعور المباغتة ، لترصد بيقظة النذير الوارد في قول بن غوريون يوم صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين: "سوف نقبل بحدود الدولة كما ستحدد الآن ؛ ولكن حدود الآمال الصهيونية هي شأن الشعب اليهودي ، ولن يستطيع أي عامل خارجي الحد منها" . وكان ميناحيم بيغن أكثر صراحة ، " إن تجزئة الوطن شيء غير شرعي لن نعترف به أبدا ، والتوقيع على التقسيم باطل ولن يفيد الشعب اليهودي. القدس كانت وستظل عاصمتنا إلى الأبد ، وسوف تعود أراضي إسرائيل إلى شعب إسرائيل برمتها وإلى الأبد. ذّكر بهذين القولين الباحث الأميركي نوعام  تشومسكي في كتاب أصده عام 1983. وعلى مشارف القرن الحالي خطب الجنرال إيهود باراك ، وقد  أعلن فوزه في الانتخابات عام 1999: "القدس ستبقى موحّدة وتحت السيادة الإسرائيلية إلى الأبد، لا عودة البتة إلى حدود 1967، لا جيش غريباً غرب نهر الأردن، وغالبية المستوطنين في يهوذا والسامرة سوف يواصلون الحياة في مستوطنات تحت السيادة الإسرائيلية". فماذا تبقى للمفاوضات إذن ؟!المأساة ظاهرة لكل من يفتح عينيه.

فلكل من تؤرقه حقا وتفزعه المأساة الفلسطينية أن يلخص دلالات وثائق المفاوضات العبثية مع إسرائيل في البنود التالية :
1ـ إسرائيل لا تريد السلام ، ليس فقط لأنها تبدي كل يوم تفضيل الأرض على السلام ، بل لأن المشروع الصهيوني يقوم في جوهره على امتلاك فلسطين . وإذا كان في السابق يناور ويتعلل ، فقد أطلقها صريحة بلا لبس على مشارف الألفية الجديدة. أحكموا قبضتهم على التاريخ القديم بموجب الأبحاث التوراتية لكي يمتلكوا الحاضر الفلسطيني بحكم القوة المادية والروحية. إذ تثقفت أجيال عديدة في دول الغرب على الثقافة الاستشراقية ، المستوحاة من نزعة الكولنيالية الامبريالية الراغبة في استثمار إسرائيل في حروبها ضد المنطقة ، وزعمها أن التوراة جوهر الحضارة الأوروبية والإنسانية، وأنها تحتوي على تاريخ إسرائيل .

2ـ بحكم التشابك بين الصهيونية والامبريالية فإن القضية الفلسطينية قومية بامتياز ، وقوميتها لا تمنع اضطلاع الشعب الفلسطيني بالعبء الرئيسي، لكن بتفاعل وتنسيق مع حركات تحرر وتقدم وديمقراطية في العالم العربي ، خاصة الدول المجاورة . فمن السذاجة الاعتقاد أن مفاوضات فلسطينية ـ إسرائيلية ضمن تناسب القوى الراهن تقوم على أساس التكافؤ و احترام المصالح.

فعندما تتحر الشعوب العربية يمكن أن تسهم بدورها في تحرير فلسطين. نتحدث عن التحرير ،أما المقاومة الشعبية للتوسع الاستيطاني والتهويد والممارسات الفظة فقضية نضال يومي مناهض للممارسات الاحتلالية . ومن مفارقة النضال الفلسطيني أن تقدم لنا النصيحة التالية من الصحفية الإسرائيلية في هآرتس ، أميرة هاس: " استراتيجية النضال الشعبي التزام يومي، أولا وقبل كل شيء ، من جانب كل من يطرح نفسه قياديا . فهذا هو الخيار الوحيد المتبقي بعد الكوارث الناجمة عن تفاوض الهواة ، في عقد التسعينات، وباستخدام النيران ضد المدنيين بصورة رئيسة خلال العقد الأخير".

3ـ وبحكم التشابك ذاته فإن التعاون مع الامبريالية الأميركية من شأنه أن يعرقل، إن لم يتناقض مع النضال من أجل تحرير فلسطين او التضامن معها . لا يمكن أن تفرز الآلة الانتخابية  في الولايات المتحدة رئيسا أميركيا نزيها يقف مع العدالة وإنصاف المضطهدين ويناصر قضايا التحرر والتقدم والديمقراطية. تمضي كريستيسن في مقالتها آنفة الذكر إلى القول " لم تكن الولايات المتحدة وسيطا شريفا، حرصت فقط على مصالح إسرائيل ولم تهتم بالمصالح الفلسطينية. استمرت إسرائيل تبتلع فلسطين بمعرفة الولايات المتحدة ، كانت تلتهم الكعكة المفترض أن تجري المفاوضات عليها ؛ لكن أحدا لم يصغ لشكوى الفلسطينيين سواء في السلطة الأميركية أو على صعيد المجتمع الدولي أو الميديا." وصمتت الميديا العربية أيضا حيال التصرف الأميركي المشين.

يقول رجل السلام الإسرائيلي اوري أفنيري " إذا رأينا النزاع يتعقد بحق فالوزر يقع على عاتق الولايات المتحدة ، واوباما شخصيا . ذلك أن تراجعه بصدد قضية الاستيطان وخضوعه التام للوبي الموالي لإسرائيل قد شجع حكومتنا على أن تصدق أن بمقدورها عمل كل ما ترغب فيه...وإسرائيل لا تقبل ولا تستطيع احتمال فكرة نشوء دولة فلسطينية مستقلة، حتى وإن أبدى حلف شمال الأطلسي استعداده لنشر قوات في غور الأردن، لضمان بقاء هذه الدولة منزوعة السلاح".

4ـ حيال التحالف الاستراتيجي الإسرائيلي الأميركي فسيظل التفاوض عبثيا وعقيما. يمكن أن يكون التفاوض شكلا للصراع ؛ لكن شريطة أن تردفه مقاومة شعبية في الداخل وحملات على الصعيد الدولي للضغط على إسرائيل، تنزع عنها الشرعية وتوسع الاعتراف بدولة فلسطين على حدود 1967، والعمل على مقاطعة إسرائيل اقتصاديا وأكاديميا وثقافيا وسياسيا ضمن الحملة الدولية المناهضة للعولمة الرأسمالية . وهذه الحملة تصطدم حتما مع السياسة الأميركية.

5ـ في ضوء البنود السالفة فإن ضجة الجزيرة لم تأت لوجه الحقيقة ؛ إنما هي مظهر آخر لاحق لسابقيه، للتحيز داخل الوسط الفلسطيني لصالح فريق ليس من نتائجه سوى تعميق الصراع وتعزيز موقف التمترس خلف الموقف الانشقاقي المدمر.  وما أكثر ما ابتلي النضال الفلسطيني من ذهنية الوصاية وزرع الولاءات الانشقاقية داخل الصف الفلسطيني! وما أكثر القفز عن الحيط الواطي! فإذا لم تدعمونا فلا أقل من أن تكفوا بلاءكم عنا !

30/1/2011