فوز "ترامب" والصمت المتواطئ من جانب الميديا الأميركية

2016-11-13

فوز "ترامب" والصمت المتواطئ من جانب الميديا الأميركية

سعيد مضية

حكاية المفاجأة في فوز "ترامب"، هي  بعض أكاذيب الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة. ترامب لم يفز بمعجزة ولا بأعجوبة؛ انما أمسك بورقة رابحة في الانتخابات، أراد ان يستثمرها، وهو المستثمر الجسور والمتمرس، والورقة مسكوت عنها بمؤامرة صمت من جانب الميديا، لانها قدس اقداس نخب الاقتصاد والحكم،  أو ما يعرف بالاستابلشمنت، التي تقابلها في العربية الملأ. وفي هذه المقالة سوف تشير كلمة "الملأ" إلى النخب العليا.في السياسة والاقتصاد والميديا... الخ.

كلما تناول "ترامب" قدس الأقداس في خطَبه الانتخابية، تنهال عليه اتهامات بعدم المسئولية ولا يصلح للحكم من جانب هيلاري كلينتون والرئيس اوباما، وتتبع الميديا بسيل من الاتهامات المشيطنة للمرشح. وحين انتهت الحملة وظهرت النتيجة سارعت كلينتون إلى تهنئة الفائز واثنت على مقدرته، ثم هنأ اوباما ودعا الرئيس المنتخب إلى البيت الأبيض للتداول في نقل السلطات. وهذه ميزة جيدة في السياسة الأميركية. في هذه الأثناء، وكالعادة في كل جولة انتخابية، اشغلت الميديا الجمهور الأميركي وفي العالم طوال عام بأكمله بمشاهد هزلية شكلانية من انتخابات تمهيدية كدعاية للديمقراطية الأميركية وحرياتها "غير المحدودة"، يكون مرشح الملأ هو الفائز في النهاية من احد الحزبين الرئيسيين. تقدم بيرني ساندرز ببرنامج فضح بعض جوانب المستور في قدس الأقداس؛ تحدث عن الواحد بالمائة الذين تسخر كل الموارد لزيادة ثرائهم وطالب بقدر من العدالة الاجتماعية. ومن خلال التلاعب بصناديق الاقتراع التمهيدية وبالإكراه استطاع المسئولون في الحزب الديمقراطي الأميركي، "الفاسدون حتى النخاع" حسب الصحفي التقدمي في إسرائيل، جوناثان كوك، إخراج ساندرز من السباق على الرئاسة. ولو استمر في السباق مرشحا عن الحزب الديمقراطي لتغلب بسهولة على "ترامب".

اما مرشح حزب الخضر، جيل شتاين، فإن النظام الانتخابي كتم صوته.

وللأسف الشديد كان الإعلام العربي، الصالح والطالح، يعيد بث الدعايات الأميركية اولا بأول، ويروج المشاهد المزورة لحقيقة الانتخابات التي لا يفوز فيها سوى أصحاب المليارات او عملاؤهم المأجورون. وفي يوم ظهور النتيجة كانت أجهزة البث العربية أصداء تردد ما يبثه الاعلام الأميركي، علماَ ان الفائز لن يبدأ من نهج النظام المتبع منذ أربعة عقود. لماذا يفرد للانتخابات الاميركية هذا الاهتمام الاستثنائي مع ان التنافس يدور بين ممثلي الاحتكارات؟!!

في الحملة الانتخابية الأميركية تواطأ على تزييف وعي الناخبين التيارُ الرئيسُ للميديا الأميركية والعالمية (أكثر من مائتي منبر إعلامي داخل الولايات المتحدة صبت هجماتها الضارية ضد "ترامب"، بينما وقف بجانبه ستة منابر فقط).  ولم يكن إدخال مفهوم "الميديا" خبطة اصطلاحية عشوائية. ميديا جمع ميديوم، وهو مفهوم لاهوتي يقصد منه الواسطة او الرسالة. الجمهور، حسب التقييم البرجوازي، عاجز عن إدراك الحقائق، وهو بذلك يحتاج إلى ترشيد المؤسسة، و بتعمد يجري الإيحاء بأن وظيفة المنابر الإخبارية وحقائب الأخبار كافة من تحليلات وأبحاث وبنوك معلومات هي رسالة توجيهية إرشادية من جانب المؤسسة – الملأ- إلى الجمهور. إنها، حسب توصيف المفكر الأميركي نوعام تشومسكي، مجرد صناعة الموافقة.

الميديا، وهي جزء اصيل ومقرر بين الملأ الأميركي، تكثف دعايتها وتركزها كي تحمل جمهور المتلقين، بغير نقد او تشكيك، على الاقتناع بصدق طروحاتها، واتخاذ المواقف بناء عليها: يستمع إلى نشرة الأخبار، او برنامج تسلية، يتصفح الصحيفة، يطالع بحثا في مجلة او كتاب فيجد نفس التركيز على موضوع بعينه وتوجه بعينه، ويعدل عن رأيه او موقفه ان كان له نصيب من ذلك.

مازالت مؤامرة الصمت مطْبِقة من جانب الميديا. فهزيمة هيلاري كلينتون تعتبر استفتاء على نهج الليبرالية الجدية المفروض على العالم. حتى في داخل الولايات المتحدة أكدت الجماهير إدانتها لهذا النهج الذي ضاعف ثراء الأثرياء ووسع دائرة الفقراء وعمق هاوية الفقر، وذلك داخل الولايات المتحدة وعلى صعيد العالم. كلينتون مرشحة الملأ-النظام - فشلت امام منافس عنصري غرق في الفساد والإفساد الملازمين لعالم البيزنس. كشف نجاحه عن معارضة شعبية لليبرالية الجديدة، وجدت الفرصة للانتقام من نهج إقصائي أودى بأوسع الجماهير في هاوية الفقر والإفلاس.

أغفلت الميديا العالمية، في مضمار تسترها على الحقائق ونشر الزيوف والتلفيقات، ان الفوز الانتخابي لـ"ترامب" تحقق على موجات السخط الشعبي العارم على النتائج المؤلمة لنهج الإدارات الأميركية المتعاقبة، نهج  عولمة الليبرالية الجديدة الذي نشر الفقر في أرجاء العالم وفي الولايات المتحدة بالذات، وأرهق الملايين بتكاليف الحروب المتعاقبة. قدمت  الانتخابات الأميركية، شأنها شأن الاستفتاء في بريطانيا بصدد الخلاص من الاتحاد الاوروبي وكذلك الانتفاضات العربية، حكم الجماهير، الصادر من معاناتها المريرة،على النهج الذي مضت الاحتكارات عابرة الجنسية في دربه، ناثرة على حوافه الفقر المدقع والحروب ومختلف الكوارث. ينهض الضحايا من هذه الجولة ايضا بغير قيادة ديمقراطية ترشدها الى الخلاص.

فهل تبادر قوى الديمقراطية للتصرف بما يعيد ثقة الجماهير بقيادتها وتمضي مع الجماهير الساخطة لإسقاط سيطرة الاحتكارات الامبريالية وعملائها ممن يدمرون اقتصادات بلدانهم على مذبح الشهوات الى الأرباح الاحتكارية ؟

وحقيقة ثانية ضربت حولها الميديا جدارا من الصمت وأبرزتها الانتخابات الأميركية، ان "ترامب" تحدى، بملايين العمال الأميركيين الساخطين، النظام الأميركي الذي كانت المرشحة هيلاري كلينتون محور علاقاته المتشابكة. شغلت هيلاري كلينتون موقعا مركزيا بين عدد من النوابض االفاعلة للفعاليات الأميركية، من بنوك كبرى مثل غولدمان ساخس وعناصر متنفذة في الاحتكارات عابرة الجنسية والتجمع الصناعي – العسكري والاستخبارات ووزارة الخارجية والميديا وحكام السعودية. وحسب تصريح جوليان أسانج للصحفي جون بيلغر، فإن نصف وزراء ادارة اوباما معينون من قبل ممثل سيتي بنك. وتريد الإدارة ان تمضي كلينتون على الدرب ذاته.

خضعت الإدارة لتوجيهات المحافظين الجدد. قتلت طائراتها بدون طيار مئات الأبرياء، وطوقت روسيا وإيران بعشرات القواعد العسكرية وتدخلت عساكرها عنوة في اكثر من بلد واستصدرت لنفسها ولحليفتها إسرائيل حق الاستثناء من الالتزام بالقوانين الدولية والاتفاقات والمعاهدات، خاصة اتفاقية انتشار السلاح النووي واتفاقيات جنيف. وقبل ان يغادر اوباما البيت الأبيض ضمن لإسرائيل أسلحة متطورة بقيمة 38 مليار دولار خلال السنوات العشر القادمة.

خذلت الليبرالية الجديدة آمال وطموحات شعوب العالم في الخلاص من اعباء التسلح وتكاليف الحروب مع انتهاء الحرب الباردة. بخلاف الآمال، تتالت تصريحات المسئولين حول المزيد من التسلح، وبسرعة تجاوزت نفقات التسلح في اميركا نفقات تسلح عشر دول تليها من حيث القدرات العسكرية. خفضت الضرائب على مداخيل أقطاب الرأسمالية بحجة تنشيط الاستثمار، بينما سهلت في نفس الوقت للرساميل المالية والصناعية الانتقال إلى حيث رخص الأيدي العاملة. دمرت بذلك الطبقة العاملة ونقاباتها في الولايات المتحدة الأميركية. غدت البطالة وغياب الأمن الوظيفي والإفقار المطلق والنسبي ظاهرة اجتماعية في أميركا.

كرست المرشحة كلينتون نشاطها كوزيرة خارجية لإثبات جدارتها بثقة: أطلقت الوحش الداعشي بتمويل سعودي –قطري، وفجرت التمردات المسلحة ضد النظام السوري، ودمرت الدولة الليبية وضاعفت قيمة مبيعات الأسلحة الأميركية وألهبت الحرب الباردة ضد روسيا وانهمكت في شيطنة بوتين وأقدمت على مغامرة وضع العالم على حافة حرب نووية من خلال الدعوة للتدخل العسكري ضد سوريا. مئات آلاف الأرواح البريئة ازهقت في الحروب او الغرق في قوارب الهجرة، كل ذلك كي ترقى كلينتون لمستوى مواصفات الرئاسة الأميركية. كانت اشبه بساحرات الحكايات الخرافية (فيري تيلز) تنشر الخراب اينما حلت وكلما رحلت. 

لم تبق كلينتون سراَ في حملتها الانتخابية، انها خططت لفرض منطقة خالية من الطيران في سوريا، كملاذا للهاربين من الحرب ومن أجل اكتساب عتلة تمكنها من  إسقاط النظام. والمخطط تنفيذ عملي لمشروع القرن الأميركي الذي وضعه المحافظون الجدد وسجلوا في حيثياته ضرورة سحق كل مقاومة تقف في الطريق. لم يصعب على بوتين إدراك ان إسقاط النظام في سوريا مقدمة لمحاولات إسقاط النظام في روسيا وتمزيقها؛ ولذلك تدخل في سوريا لردع الجنون الليبرالي الجديد. فمن شأن مخطط كلينتون ان يشعل حربا قد تتحول بسرعة إلى صدام نووي . 

تمضي كلينتون على خطى عتاة دعاة الحرب الباردة زبيغنيو بريجينسكي وكيسنغر. فمخططها المتوائم مع تطلعات المحافظين الجدد يبعث للتطبيق العملي مخططا ارتآه بريجينسكي في كتابه "بين عالمين" صدر عام 1971، قاعدة لنظام دولي "يتجاوز الدول القومية، تصفى بموجبه الدول كأساس للنظام الدولي".  وعلى انقاض النظام القديم يتأسس "نظام دولي جديد يلبي بصورة أفضل حاجات النخب العليا في عالم الرأسمال، البنوك الدولية والشركات عابرة الجنسية". تلك هي استهدافات الفوضى الدموية في أكثر من بلد عربي وتهديد الباقين بنفس المصير. تعزز الاعتقاد لدى نخب النظام الأميركي ان حكومة عالمية واحدة هدف يمكن بلوغه إذا ما تم التحكم في مصادر الطاقة والاحتياطي المالي وإذا ما احكموا قبضتهم على تسيير الدفة .

والحقيقة الثالثة التي تتستر عليها الميديا وتتحايل لإخفائها، ان استطلاعات الرأي جزء من تزييف الواقع ونشر الوعي الزائف. فنتائج الاستطلاعات التي تتالت تؤكد تفوق كلينتون لم تخطئ، إنما هي  وظيفة الميديا في التضليل والتجهيل. استطلاعات الرأي تشكل مع دعاية الإعلان جزءا لا يتجزأ من الحقيبة الإعلامية، وبعض أساليب الملأ لاستصدار الموافقة على النهج في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

غير ان زيوف الميديا الأميركية فشلت حيال سطوع الحقيقة على جلود ضحايا عولمة الليبرالية الجديدة. والدعم واسع النطاق لهيلاري كلينتون حتى من قبل أقطاب في الحزب الجمهوري. لم تجد نفعا في كتم انات الملايين تلك التبرعات التي انهالت على حملتها الانتخابية ومنها ما جاد به حكام السعودية وقطر والبحرين والمغرب، وبلغت حسب التقديرات مليار ونصف مليار.

لن تنقص الحيلة المحافظين الجدد وسدنة النظام للالتفاف حول إدارة "ترامب" وإعادة تأهيلها وتكييفها، ومن ثم تسخيرها من جديد لخدمة مآربهم. وبذا فليس مضمونا وفاء "ترامب" بتعهداته في اقامة علاقات متكافئة مع جميع الدول والتفاهم مع روسيا حول سوريا و... . وإذا اعاق "ترامب" سيرورة النظام الدولي الجديد، فلن يردع مخططه بأكمله. جشع الاحتكارات للأرباح لا يوقفها بحور الدماء. عودة الامبريالية على تغيير الغطاء والإبقاء على التوجه؛ لم تزل موضوعية تحتفظ بمصداقيتها الاطروحات اللينينية بصدد نزوع الامبريالية للحروب والاستيلاء على المستعمرات ضرورة متأصلة في النظام الامبريالي، فرضتها المرحلة الاحتكارية في النظام الرأسمالي، وما يترتب عليها من إفقار لملايين البشر. وفي كتاب بريجينسكي " بين عالمين" يؤكد ان مصير البلدان النامية هو الفقر والتبعية اللذين لا فكاك منهما". وكذلك الحروب ستتواصل مستهدفة الشعوب والمنظمات والهيئات تحت يافطة "الحرب على الإرهاب".

غير أن وقائع التاريخ تؤكد أن التحدي الرئيسي الذي يواجه الإمبريالية اليوم، يتمثل في التناقض المتأصل بين أطماعها في الهيمنة التي تتوخاها من جهة، ومحدوديات قدراتها من جهة أخرى. وهذا ما يحصل في غزو أفغانستان والعراق والحرب غير المعلنة ضد سورية وغيرها.