تزايد وزن المتدينين داخل الجيش الإسرائيلي وانعكاسه على الصراع

2023-11-20

| د. ماهر الشريف *

يشهد الجيش الإسرائيلي منذ سنوات تزايداً في عدد جنوده وضباطه من الحريديين القوميين والصهيونيين الدينيين، وهو ما ينعكس على الصراع مع  الشعب الفلسطيني، إذ تتفاقم وحشية هؤلاء الجنود والضباط الذين يضفون طابعاً دينياً على هذا الصراع.

ففي الخامس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري نشرت نشرة "مختارات من الصحافة العبرية"، التي تصدر يومياً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، مقالاً للمحلل ياغيل ليفي، نُشر في صحيفة "هآرتس"  تحت عنوان: "انتفاضة حردلية في الجيش"، تناول فيه ظاهرة اجتياح سلاح البر الإسرائيلي الذي يغزو، بوحشية، قطاع غزة، "موجة قومية دينية"، إذ توزع "نصوص دينية تتضمن دعوات إلى الانتقام والقتل، ووعود بتجديد المستوطنات في "غوش قطيف" التي كانت قائمة في القطاع قبل سنة 2005، وصلوات جماعية برعاية الحاخامات المدنيين وغيره".

ويرى المحلل نفسه، أن هذه الظاهرة التي يرعاها "ضباط كبار"، تعكس "التطرف السياسي العام"، وخصوصاً بعد هجمات حركة "حماس"، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الفائت،  و"مسار التديّن الذي أدّى إلى دخول القيم الدينية إلى الجيش، وبروز الضباط والجنود من التيار الحردلي"، والصراع الذي يدور "من أجل السيطرة الرمزية-الإيديولوجية، التي تجري منذ 20 عاماً، على ثقافة الجيش وقيمه ورموزه"، ليخلص إلى أن الرسالة المقلقة، التي تنطوي عليها هذه "الانتفاضة"، هي: "أنه بغطاء هيئة الأركان، التي تمتنع عن ضبط هذه الظاهرة، يتحوّل الآن عرس الكراهية إلى وضع عام، وليس إلى حالة استثنائية هامشية"[1].

تزايد انخراط اليهود الحريديين القوميين في الجيش

أشارت بعض التقارير والمقالات إلى أن  ما يقرب من 3000 من اليهود الحريديين القوميين  تقدموا إلى الجيش الإسرائيلي للتطوع في صفوف وحداته، بعد أقل من أسبوعين على أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر الفائت، وهو أمر نادر بالنظر إلى أن العدد الأكبر من هؤلاء الحريديين، وخصوصاً أولئك الذين يدرسون في المدارس التلمودية، تعوّدوا عدم أداء خدمتهم العسكرية. ففي سنة 2020، أدّى 1200 فقط منهم الخدمة العسكرية، أي نصف العدد الذي أدّى هذه الخدمة في سنة 2015، وفقًا لدراسة أجراها المعهد الإسرائيلي للديمقراطية (IDI) ونشرتها صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في وقت سابق من هذا العام. وقد أثار هذا الامتياز لسنوات نقاشات ساخنة وانزعاجاً بين السكان الإسرائيليين العلمانيين، علماً بأنه تمّ  اعتماد قوانين في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لتشجيع الحريديين على الانخراط في الجيش. ويتحدى الشبان الحريديون القوميون اليوم تعليمات رجال الدين الأرثوذكس المتشددين في حزبَي "شاس" و "يهودات هاتوراه"، التي تمنعهم من الالتحاق بالجيش، ويتخلون عن مدارسهم التلمودية، ويستبدلون ملابسهم السوداء باللباس العسكري، ويقفون بذلك، عملياً، أمام توجّه زعمائهم الساعين إلى تشريع قانون في الكنيست يعفيهم من الخدمة العسكرية، ويضع دراسة التوراة والالتحاق بالجيش على قدم المساواة[2].

ولا تقتصر هذه الظاهرة على الشبان الحريديين، بل تشمل كذلك الشابات ضمن هذا التيار، إذ أشار مقال نشره موقع "تايمز أوف إسرائيل"، في 18 تشرين الثاني/نوفمير 2016، إلى تزايد التحاق النساء المتدينات بالجيش الإسرائيلي، بحيث ازداد عددهن، خلال خمسة أعوام، من 935 في سنة 2010 إلى 2159 في سنة 2015، وفقاً لقسم الموارد البشرية في الجيش الإسرائيلي. وبحسب المقال نفسه، فإن النسبة الأكبر منهن تنحدر من ضواحي مدينة تل أبيب ومن مستوطنة موديعين، الواقعة على الطريق بين القدس وتل أبيب [3].

ويرجع مقال آخر، نشر في "Observatoire international du religieux"، في آذار/مارس 2022، هذه الظاهرة إلى أن المتدينات القوميات المتطوعات في الجيش، اللواتي كن يتعرضن للاستياء من جانب محيطهن ويدفعن ثمناً اجتماعياً لتفضيلهن الجيش على الدراسة التلمودية، رحن يكتسبن، شيئاً  فشيئاً، الشرعية ضمن مجتمعهن الذي صار يتقبل، أكثر فأكثر، قيام  النساء المتدينات بارتداء الزي العسكري، وذلك على الرغم من استمرار مؤسساتهم الدينية في معارضة تجنيد النساء في الجيش[4].

تشجيع الحريديين على أداء الخدمة العسكرية

انطلاقاً من اعتقادهم بأن "الهوية اليهودية تسمو على القومية الإسرائيلية"، رفض معظم اليهود الحريديين أداء الخدمة العسكرية عند قيام دولة إسرائيل. وكان ديفيد بن غوريون قد التزم، منذ سنة 1947، في رسالة إلى الحاخام الرئيسي لهذا التيار باحترام استقلال شبكة مدارسهم. ثم قرر في سنة 1950، بعد أن أصبح رئيساً للوزراء، إعفاءهم من الخدمة العسكرية. وجرى التغاضي آنذاك عن هذا الموقف، لأن أولئك اليهود الأرثوذكس المتشددين كانوا يمثّلون نسبة ضئيلة من السكان، إذ كان الأمر يتعلق، في ذلك الوقت، بـ 400 شاب فقط ممن تم منحهم الحق في تكريس أنفسهم بالكامل لدراسة التوراة. بيد أن زيادتهم الديموغرافية السريعة غيّرت معطيّات المسألة، إذ باتوا يمثّلون اليوم نحو 13.3% من السكان، ويتميّزون بمعدلات خصوبة مرتفعة (أكثر من ستة أطفال لكل إمرأة).

وعليه، فقد سعت الدولة إلى تعميم الخدمة العسكرية على الجميع، وأكدت المحكمة العليا أن القوانين التي تستثني اليهود الحريديين من الخدمة العسكرية تتناقض مع القوانين الأساسية التي تستند إليها الدولة في ميدان التشريع. وبعد إجراءات أولى اتُخذت لإلزام اليهود الحريديين بأداء الخدمة العسكرية، ونشوب اضطرابات واسعة بين صفوفهم وخصوصاً في مدينة القدس، تمّ اعتماد عدة برامج لجعل الحياة الدينية متكيفة مع أداء الخدمة العسكرية، مثل تشكيل الكتيبة العسكرية "ناحال حريدي"، في سنة 1999، التي تضم اليهود الحريديين، من دون النساء، وتعتمد على "الكوشر"، وتعمل في الضفة الغربية المحتلة ويتطوع  فيها سنوياً نحو 500 منهم ، وبرنامج "شاحار"، الذي اعتمد في سنة 2007،  وخُصص لليهود الحريديين المتزوجين، الذين يعملون في الوحدات التكنولوجية واللوجستية، ويصل عددهم إلى نحو 2000  يتقاضون رواتب أعلى من غيرهم، وتأسيس المدرسة الدينية "يشيفات هسدر" التي تجمع بين تدريس التعاليم التلمودية وأداء الخدمة العسكرية [5].

تزايد وزن الحاخامين من أنصار الصهيونية الدينية

خلافاً للحريديين، يمثل الصهيونيون المتدينون، الذين يتزايد عددهم داخل الجيش الإسرائيلي، الفئة "الأكثر اندفاعاً" بين جنود الجيش الإسرائيلي. وخلال الحرب التي شنها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة، في أواخر سنة 2008 ومطلع سنة 2009،  انتشرت أولى الشائعات عن قيام حاخامين بـ "غزو ساحة المعركة"، بغية تحفيز الجنود على القتال بالاستناد إلى خطابات تشبّه الفلسطينيين بأنهم "شعب يجب تدميره". وقد عثرت جمعية "كسر الصمت" آنذاك على عشرات المنشورات التي وزعت على الجنود خلال تلك الحرب، ويحمل معظمها الشعار الرسمي للحاخامية العسكرية، ما أثار القلق لكون أولئك الحاخامين ليسوا رجال دين فحسب بل هم قادة أيضاً، يُنطر إلى كلماتهم بصفتها "أوامر للجنود"، كما يوضّح مايكل مانكين أحد الأعضاء المؤسسين للجمعية.

وكان الحاخام الرئيسي السابق في الجيش الإسرائيلي العميد احتياط أفيحاي رونتسكي، الذي تمّ تعيينه في سنة 2006، قد دعا الجنود الإسرائيليين، في خريف سنة 2009، إلى عدم اعتقال فلسطينيين مشتبهين بأنشطة ضد إسرائيل وإنما "إطلاق النار عليهم وهم في أسرّتهم". ويحمّل مايكل مانكين قيادة الجيش المسؤولية عن ظاهرة تزايد تأثير رجال الدين داخل الجيش، معتبراً أنه "إذا كان الجيش يعطي حاخامي الجيش أهمية كبيرة، فذلك بسبب وجود نسبة كبيرة بصورة متزايدة من المتدينين المسيانيين بين الجنود، الذين هم في حاجة أو يريدون سماع هذا النوع من الدعم". ومع أن قيادة الجيش تتردد في نشر معلومات عن أعداد الصهيونيين الدينيين داخل الجيش، فإن التقديرات تشير إلى أن نحو نصف ضباط الصف في سلاح المشاة ينتمون إلى هذا التيار، وهو عدد مستمر في النمو، ويعود إلى أنهم "يمتلكون حوافز أكثر من الآخرين للذهاب إلى القتال" [6].

في 9 يوليو/تموز 2014، أي في اليوم الثاني من الحرب التي شنها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة، تمّ توزيع رسالة على جنود لواء غفعاتي، وهو أشهر ألوية المشاة في الجيش الإسرائيلي، حملت توقيع العقيد عوفر وينتر قائد اللواء، وورد فيها: "لقد اختارنا التاريخ لنقود الحرب على العدو الغزاوي الإرهابي الذي يلعن ويذم ويكره رب إسرائيل"، واختُتمت الرسالة بنص توراتي "يبشّر محاربي إسرائيل في ساحات القتال بالحماية الإلهية". وسرعان ما جرى تداول تلك الرسالة، التي عبّرت عن التحوّل الذي راح يطرأ على تركيبة الجيش، على وسائل التواصل الاجتماعي ومنها انتقلت إلى الصحافة، وانتقدها الإسرائيليون العلمانيون الذين رأوا أنها "تخرق عرفاً متبعاً منذ عقود يتمثل في إبعاد الدين عن المهام العسكرية". وكان العقيد عوفر وينتر، الذي يرتدي على رأسه القلنسوة اليهودية، قد ولد في مدينة كريات آتا، شرق حيفا، وتدرب في مدرسة بني دافيد العسكرية الدينية، في مستوطنة عيلي في قلب الضفة الغربية المحتلة، وتطوع في قوات كوماندوز النخبة "سايريت ماتكال"، ثم في سلاح المظليين، ووحدة ماجلان المسؤولة عن التسلل خلف خطوط العدو، قبل أن يرتدي القبعة الأرجوانية للواء غفعاتي ويتولى قيادته في سنة 2013 [7].

التحوّل الذي طرأ على تركيية الجيش

وفقاً لمعطيات قديمة أوردها مقال نشر في 26 أيار/مايو 2010، أشير إلى أن الجيش الإسرائيلي لم يعد يجتذب كثيراً الشبان العلمانيين من الطبقات الوسطى، بل الفقراء من الخلفيات الأكثر محافظة. فبينما كان معظم ضباط الجيش قبل عشرين عاماً ينحدرون من غوش دان، أي تل أبيب الكبرى، وسهل سارونة على الساحل بين تل أبيب وحيفا، أصبحت نسبة الضباط من هاتين المنطقتين تكاد لا تذكر، ومن ظل في الخدمة بينهم يخدم في المخابرات العسكرية (أمان)، وسلاح الطيران، والوحدات العسكرية العاملة في المجال الألكتروني بصورة خاصة. وبينما كان 2 % من طلاب الكليات الحربية، في سنة 1990، من المتدينين، باتوا في سنة 2010 يمثّلون نسبة 30% من هؤلاء الطلاب. وصار ستة من سبعة من الضباط الذين يحملون رتبة مقدم في لواء غولاني من المتدينين، بينما ثلاثة من أصل سبعة ممن يحملون رتبة مقدم في لواء كفير، الذي يتمركز في الضفة الغربية المحتلة، هم من المتدينين. وينتمي اثنان من أصل ستة عقداء في لواء جولاني وفي سلاح المظليين إلى تيار الصهيونية الدينية. أما في بعض ألوية سلاح المشاة، فإن نحو 50% من القادة المحليين ينتمون إلى هذا التيار [8].

خاتمة:

من المؤكد أن المعطيات الواردة أعلاه قد تضاعفت كثيراً اليوم، إذ أصبح هناك داخل الجيش الإسرائيلي، كما يبدو، كتائب تتشكّل بصورة رئيسية من الحريديين القوميين والصهيونيين الدينيين، الذين يبثون روح الكراهية إزاء الفلسطينيين ويدعون إلى قتل أطفالهم لأنهم "عندما يكبرون سيقومون بإيذاء اليهود"، مثل كتيبة "نيتساح يهودا"، التي سلط الضوء عليها وفاة المسن الفلسطيني الأميركي عمر أسعد، في كانون الثاني/يناير 2022، بعد اعتقاله من قبل جنود هذه الكتيبة على أحد حواجزها في الضفة الغربية المحتلة [9].

*  باحث ومؤرخ - مؤسسة الدراسات الفلسطينية - بيروت.