محمود أمين العالم | رشيد عبد الرحمن النجاب

2024-03-11

ينتمي المفكر المصري محمود أمين العالم، المولود عام 1922 في القاهرة، إلى بيت مثقف، حيث كان والده وكيلاً في الجمعية الشرعية، كما كان أخوه محمد شوقي أمين أزهري التكوين، وقد أصدر محمد شوقي كتابه "الأزهر فوق المشرحة" فطرد من الأزهر.

تعلم محمود أمين العالم في مدرسة النحاسين وحصل فيما بعد على شهادة الليسانس في الفلسفة من جامعة القاهرة، وعلى درجة الماجستير من الجامعة نفسها حول رسالته في "فلسفة المصادفة". وبعد تعيينه مدرّساً مساعداً في الجامعة التي تخرّج فيها، وشروعه من ثَمَّ في إعداد أطروحته للدكتوراه، تم فصله من الجامعة، فلجأ إلى الكتابة في مجلة "روز اليوسف" و"أخبار اليوم"، وكان مسؤولاً عن نشرة "الاشتراكي" ونشرة "الثقافي" في الاتحاد الاشتراكي.

ثم انخرط محمود أمين العالم في العمل السياسي، واعتقل عام 1959 في العهد الناصري، عندما اعتقل عبد الناصر الشيوعيين المصريين، وتعرض للتعذيب والأعمال الشاقة في سجن "أبو زعبل"، كما اعتقل في زمن أنور السادات بتهمة الخيانة العظمى، في حين اتهم هو السادات بالخيانة العظمى. وقد توفي عام 2009  في القاهرة.

قال الدكتور أيوب أبو دية عن الأستاذ محمود أمين العالم في موسوعته "أعلا م الفكر العربي الحديث  والمعاصر: "وقد شعرت عند لقائي به في دمشق في مطلع الألفية الثالثة وهو على أبواب الثمانين حولاً بأنه يمتلك من عزيمة النضال والأفكار المبدئية قدراً راقياً".

وقال أيضا "لقد تنازعت هذا المفكر رغبة جامحة لحب الفلسفة والشعر والسياسة" وبالرغم من اعترافه بأن الشعر قد ضعف عنده، لأن الفكر قد لبى الكثير من طموحاته وغطى حاجاته الملحة لمواهبه الأخرى. لم يستطع أن يتخلى عن أي منها بالرغم من التزاحم تارة، والتلاحم والتداخل أطواراً أخرى. وظلت أعماله تتراوح بين النقد، والأدب، والفلسفة، والشعر والسياسة كما لم تضعف عزيمته الوطنية بالرغم من كل الاحباطات التي تعرضت لها الأمة العربية.

رأى محمود أمين العالم في الخمسينيات أن رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ كانت بمثابة تأكيد لمفاهيم العدالة والحرية والخير التي تشكل جوهر الدين، أكثر من كون الرواية تجسيداً لتاريخ مصر أو البشرية، وقد تشكلت هذه الفكرة من واقع نظرته إلى الأرض بوصفها ميراثاً للبشر جميعاً. واعتقاده أن من حق الناس جميعهم أن يتمتعوا بالأمن والرخاء، وأن يتحلوا بالمحبة واحترام الآخر، وقال العالم إن ذلك جوهر الأديان جميعها، وأنه ضرورة تستلزمها بقاء الإنسانية ورفاهيتها.

شكّل كتابه "في الثقافة المصرية"، الذي كتبه مع عبد العظيم أنيس، مفصلاً مهماً في تطور الحركة الثقافية المصرية في منتصف الخمسينيات، ويمكن اعتباره تحوّلاً من كتابة الشعر إلى صياغة الفكر، وأقرب إلى التأمل الأدبي والنقد.

كذلك كان تحوّلاً مهماً بالنسبة إلى شخص متدين كان يشعر بميل إلى التصوّف بتأثير من بيته الذي نشأ فيه، حيث تأثر بالمفكر الفرنسي ماسينيون. وقد أوصلته قراءَاته الصوفية عن الحلاج، ثم ابن عربي، إلى نيتشه في كتابه "هكذا تكلم زرادشت"، وانتهى، بتأثير من عبد الرّحمن بدوي، إلى دراسة الفلسفة والتأثر بالفلسفة الوجودية، ثم ما لبث أن اكتشف الماركسية خلال اشتغاله برسالته عن "فلسفة المصادفة" لدحض الفكر العقلاني، وكان ذلك التحوّل المفصلي من خلال كتاب لينين "المادية والتجريبية النقدية".

نقد محمود أمين العالم من خلال كتابه "ثلاثية الرفض والهزيمة" المنهجية البنيوية في الأدب بالرغم من اعترافه بفائدة المنهج البنيوي في إظهار قيمة العمل الأدبي وأهميته. وقد استخدم هذا المنهج نفسه في نقد روايات كثيرة كشف فيها عن مناطق الأصالة والإبداع،  وعن مناطق الضعف والفقر الفني. وقد شمل ذلك نقدا لأعمال عبد الرّحمن منيف، وحيدر حيدر، ويوسف إدريس، وجمال الغيطاني، وصنع الله إبراهيم، وغيرهم.

وجاء في مقدمة كتاب محمود أمين العالم "أربعون عاماً من النقد التطبيقي" أن مشروعه في التطبيق النقدي في مجال الرواية والقصة القصيرة خلال أربعين عاماً؛ قد بدأ بمرحلة الازدواج بين رؤية نظرية نقدية، واستحالة تطبيقها الصحيح في العملية النقدية لأسباب معرفية وموضوعية، الأمر الذي وسم الممارسة النقدية بسمة التعميم، والنصح السياسي والاجتماعي، المختلطة ببعض الأبعاد الفنية والجمالية. ثم تجاوز هذه المرحلة إلى أخرى أكثر نضجاً حاولت الاقتراب من إزالة هذا الازدواج، حيث انتهى إلى مرحلة أرقى اتسمت بمحاولات جادة لتحديد تضاريس البنية الفنية للرواية والقصة القصيرة في أدبنا العربي المعاصر، بحيث أصبحت هذه المرحلة أكثر اقتداراً في محاولة الكشف عما بين هذه البنية الفنية والدلالة العامة من علاقة جدلية حميمة.

كذلك استخدم محمود أمين العالم مناهجه النقدية في محاورة أعلام التراث، كالتوحيدي، والغزالي، والشافعي، وابن رشد، وابن خلدون، إذ شاء أن يبدأ من وعي الذات لضرورة الانطلاق صوب تجاوز تخلفنا وتبعيتنا، وشرع في سبيل تحقيق ذلك يؤسس لفكر نظري نقدي يتجاوز التراث، بعد استلهامه، إلى الامتلاك المعرفي للثورات العلمية في التاريخ الحديث، انطلاقاً من الثورة العلمية الكبرى التي تحققت في أوروبا في القرن السابع عشر، وانتهاء بثورة المعلوماتية المعاصرة.

ولم يتوقف محمود أمين العالم عند السعي إلى استلهام الفكر الأوروبي الحديث، بل نقد فكر ما بعد الحداثة مستخدماً أدوات الغرب الفكرية نفسها إذ وجه محمود أمين العالم النقد إلى الفلسفة الماركسية الأوروبية المحدثة، فنقد هربرت ماركيوز في موقفه من الحزب ومركزية الطبقة العاملة، وفي دفاعه عن البروليتاريا الرثة، والفئات المهمشة في المجتمع، باعتبارها القوى المؤهلة للثورة. كما وقف إلى جانب النظام والتنظيم، ولكن بشرط أن تتغير الدولة، وتتبدل القوانين، و أن يقوم مكانها دولة جديدة وقوانين بديلة؛ بحيث تصبح العلاقات مختلفة ومتبدلة وفق تبدل الظروف والأحوال في علائقها الجدلية المعقدة. أراد العالِم أن يكون الدستور مختلفاً جوهرياً، وسعى أن تكون الديمقراطية مختلفة عن الديمقراطية الليبرالية التي يروَّج لها اليوم بمنطق الاقتباس.

وبالرغم من اشتغال محمود أمين العالم بفلسفة المصادفة، فإن المصادفة ليست فوضى كما يحلو للبعض ان يتصورها إنما تنتظم بقوانين، وتحيط بها ظروف وعوامل متعددة تؤثر بها وتتحكم في فعلها، وتنتج بالتالي أشياءً جديدة غير متوقعة. هكذا ينبثق الإبداع من رحم قوانين المصادفة.

بدأ مشروع محمود أمين العالم الفكري يكتمل مع أطروحته في الدكتوراه التي لم يتمكن من إنجازها أكاديمياً بفعل الفصل التعسفي نتيجة لمواقفه السياسية، ولكنه أنجز أطروحته في مشروع حياته بامتياز، فأسس لضرورة النقد في مناحي الفكر المختلفة، وأسس لضرورة السياسة والتنظيم الاجتماعي، وكان يظن أنه لم يجعلها رؤية متسقة علمياً بعد، ولكنّ سيرة حياته الفكرية تشهد على إنجازه تلك الرؤية والتأسيس لها كي تصبح عملاً مستمراً تتناقله الأجيال الواعية وتطور فيه حتى يصبح عملاً مكتملاً.